إسلاموفوبيا اليسار في فرنسا
الصدفة تصنع الأقدار أحيانا إذ حدث أن وافق إيداع جدول أعمال تحرير تقرير اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان لهذا العام والذّي يحمل عنوان: “محاربة العنصرية ومعاداة السّامية وكراهية الأجانب لعام 2013″، تاريخ استلام “مانويل فالس” منصبه بصفة رئيس الوزراء. وكان مانويل فالس قد أدلى قبل بخطابات وعبارات مسيئة لغجر الروم (مثل أن يطلب من الغجر العودة إلى رومانيا أو بلغاريا). وفي التّقرير ذاته، نجد عبارات تلفظت بها بعض الشّخصيات السّياسية بحيث شاركت في التّهجم على غجر الرّوم بل و”لم يتم بعد تسوية الأمور” في هذه المسألة، ومن بين تلك الشّخصيات نذكر: كريستيان إستروزيه وإيريك سيوتيه ونتاليه كوسيوزكو موريزات وأيضًا مانويل فالس، فقد صرّح بتاريخ 24 سبتمبر 2013 بأنّ: “الرّوم هم شعوب ذو أنماط حياة مختلفة عن نمط حياتنا وهم على ما يبدو شعوب متنازعة فيما بينها”.
وبفضل نشاطه السّياسي، ساهم وزير الدّاخلية السّابق على شاكلة نظيره في الحزب اليميني “كلود غيون” في تصعيد حملات عدم التّسامح ولاسيما العداء تجاه الإسلام، هذه التصعيدات أصبحت بالنّسبة لبعض الأطراف من اليساريين بمثابة رأي يجدر احترامه. ولنأمل دون اقتناع تامّ أن يتخذ مانويل فالس الوقت الكافي والضّروري لتصفح وريقات هذه الدّراسة المعروضة واستخلاص النّتائج.
ومن الطّبيعي أن نشكّ في هذا الأمر، لاسيما وأنّ ماضي هذا الشّخص ليس مؤشرًا للتّفاؤل بتاتًا، وبدل أن يكون هذا التّقرير مصدرًا للنّقاش تمّ فقط ذكره من قبل الصّحافة ثمّ رُمي في سلة النّسيان دون اكتراث. وما علينا إلا انتظار دعوة “بطريك كوهان” لـ”كريستين لازيرجس”، رئيسة اللّجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان على بلاطو إذاعة “فرانس أنتر” ليحدّثها عن خلاصات هذا العمل الجبّار والذّي يختلف عن شعارات محاربة العداء ضدّ الإسلام الزّاحفة لهذا الصّحفي التّابع للإذاعة العمومية.
النقطة الأساسية والجديدة في هذا التّقرير نجده في المقدّمة، ويتمثل، ولأوّل مرة بعد نقاش طويل وداخلي، قرار اللّجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان بتبني لفظة “إسلاموفوبيا” (أو العداء ضدّ الإسلام). وقد تمّ إدراج هذه اللّفظة في قاموس “روبرت” و”لاروس”، كما تمّ تبنيها من قبل لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة والمركز الأوروبي لرصد العنصرية وكراهية الأجانب في فيينا إلاّ أنّ اللّفظة في حدّ ذاتها لا زالت مبعث تردد من طرف أحزاب سياسية وفي أوساط مؤسسات فرنسية. صحيح أنّ النّص يوضّح بأنّ “المصطلح ناقص”، وهو محل انتقادات (لكن هل يمكننا حقًا الحديث عن تخوّف؟ ألاّ يمكن أن يستغل المصطلح من قبل أولئك الرّافضين لأيّ انتقاد للإسلام كديانة؟)، الشيء نفسه ينطبق على مصطلح “معاداة السّامية”، فكلمة “السّامية” والتّي كادت تنقرض تمامًا، تدلّ على واقعية معيّنة. من جهة أخرى نجد الألفاظ الأخرى التّي تمّ اقتراحها مثل: “العنصرية ضدّ المسلمين” أو “التّخوّف من المسلمين” مثيرة للجدل.
ويشير المقررون إلى أنّ: “العنصرية شهدت استحداثًا نوعيًا خلال سنوات ما بعد الاستعمار، فالعنصرية البيولوجية تحولت إلى عنصرية ثقافية. والتّستر بهذه الحلّة الجديدة، يجعلنا ندرك أن لفظة “الإسلاموفوبيا” استعملتها جماعات سياسية لجذب أصوات كبيرة نحوها وإشهار الكراهية ضدّ الدّيانة الإسلامية والمسلمين، وأكثر ما يقلق في هذا الأمر هو أنّ بعض الجماعات المتطرفة تجاوزت هذه الأقوال لنراها مجسّدة في الأفعال”.
وفي هذا المجال، نجد الحوصلة الذّي قدّمها التّقرير بخصوص العنف والعنصرية ثقيلة، وحتّى وإن كانت هذه الأفعال في مجملها في انخفاض (فقد انتقلنا من 1542 حالة عنف إلى 1274 حالة في العام، أي ما يعادل انخفاض بـ 20 نقطة)، الشيء نفسه بالنّسبة للأعمال المضادة للسّامية (التّي انخفضت بنسبة 30 بالمائة) بينما تصاعدت الأعمال المعادية للمسلمين خلال الثلاث السّنوات المتتالية، بحيث سجلت ارتفاعًا بنسبة 11.3 بالمائة سنة 2013، و 30 بالمائة سنة 2011 و 28 بالمائة سنة 2012.
في هذه الأحوال، تكون لفظة إسلاموفوبيا: “تمثّل العديد من المزايا في إطار الكفاح ضدّ مختلف أشكال التّمييز. فدلالة الكلمة هي واضحة وحادة، وقوة معاني الكلمة تجعل من الظاهرة حدثًا حقيقيًا وخطيرًا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذا المصطلح، نلحظ أنّه تطوّر تدريجيًا وبشكل هام في الخطاب اليومي والرّسمي، وهذا أمر مهمّ للاعتراف بهذه الكراهية المتصاعدة والتّي نشعر بها بصفة قوية وشكّلت ظاهرة “مشكلة المسلم” في فرنسا”.
وحسب اللّجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان فإنّه من المناسب تسمية الظاهرة التّي تندّد بها وتأمل في مكافحتها. ولهذا السّبب ودون تجاهل للتتويهات المعنوية للفظة ولا مخاطر استعمالها، فلفظة “إسلاموفوبيا” متفشية وخطيرة وتشكّل تهديدًا لمبدأ “التّعايش سويًا” وتستدعي اتخاذ جميع الاحتياطات اللّازمة”.
وبعد تحليل لهذا التّقرير، كتبت “إيليز فانسون” في جريدة “لوموند” الفرنسية بتاريخ أول أفريل/نيسان ما يلي:
“تظلّ البطالة والأزمة الاقتصادية أحد الانشغالات الكبرى لدى الفرنسيين ولكنّهم كثر هم أولئك الذّين يعتقدون أنّ اندماج الأجانب لم يتمّ استثماره على الوجه الأحسن، ونجد 63 بالمائة من استطلاعات الرّأي يتفقون في هذا الأمر أي ما يعادل زيادة بنسبة سبعة نقاط مقارنة بالنّسب التّي تمّ تسجيلها عام 2012. من جهة أخرى، نجد 68 بالمائة من الأشخاص الذّين سألناهم يعتقدون أنّ الأشخاص الأجانب هم أوّل “من لا يقدّمون وسائل الاندماج” أي ما يعادل زيادة بنسبة ثمانية نقاط. وبصفة عامة، نجد نسبة “تسامح” الفرنسيين انخفضت بـ 12 نقطة منذ عام 2009 حسب مؤشر وضعته فئة الباحثين للعلوم السّياسية الشّريكة للجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان. وكما تمّ توضيحه للّجنة فإنّ “نسبة هذا الانخفاض تمسّ الآن جميع الأقليات وهذه الظّاهرة تعبّر عنها جميع الأطراف السّياسية. وبشكل واضح، فإنّ ظاهرة عدم التّسامح عمّت اليوم جميع المتعصّبين سواءً كانوا من أحزاب اليمين أو من اليسار”.
كما تؤكّد “كارين فوتو” لموقع “ميديا بارت” على الانحراف الذّي سجله اليسار لهذه الظاهرة من خلال هذه السّطور:
“جميع الفئات الاجتماعية والسّياسية هي مهتمة بهذا الأمر فالشّهادات الدّراسية لم تعدّ تحصينًا ضدّ التّخوف من الآخر. والمذهل في الأمر هو أنّ النّاخبين من اليسار غيروا تمامًا وجهة آرائهم أكان هذا يخصّ الإيديولوجية وقيم الانفتاح على الآخر وهي إحدى الأسس القوية والتّي تشكل جزءً من الهوية السّياسية، إلاّ أنّ هذه القيم بدأت تزول وتنهار بحيث نشهد حاليًا رفضًا خاصًا للدّيانة الإسلامية”.
في حقيقة الأمر، أنّه منذ عدّة أعوام تشير التّقارير إلى تصاعد في ظاهرة الإسلاموفوبيا من قبل الحزب اليساري وحتّى من قبل حزب الخضر وحتّى وإن كانوا منفتحين على ظاهرة الهجرة وفكرة حقّ تصويت المهاجرين فهم يعانون من داء التّخوف تجاه الإسلام ويحتجون بذلك على أساس مبادئ اللائكية التّي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية والتّي يظلّ كنهها مبهمًا وغير مفهوم مقارنة مع مفهوم اللائكية الأولية التّي أسسها كلّ من “أرستيد برايند” و”جون جوريس”.
وطبقًا لما يشير إليه تقرير اللّجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، فإنّ كلمة “لائكية” أصبحت “كلمة مرور” حيث مضمونها يدلّ على وقائع متباينة إلاّ أنّ تعريفها أصبح يحدّد أكثر فأكثر جانب الكراهية للدّين الإسلامي وحده. ويجدر التّذكير أنّه مثلاً في موضوع المساواة بين الرّجل والمرأة التّي تعدّ أحد المبادئ التّي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية لا تطابق تمامًا بل ولا علاقة لها بمفهوم اللائكية التّي تأسست عليها الجمهورية الثّالثة ومن ثمّ الجمهورية الرّابعة والخامسة، حيث أنّه خلال الجمهوريات السّابقة لم يكن للنّساء حقّ للتّصويت وكنّ يعتبرن كقاصرات ولحدّ ليومنا الحالي لا تزال موجودة الكثير من حالات غير المساواة بين الجنسين. كما يحدّد مفوم اللائكية العلاقات بين الكنيسة والدّولة ولا شيء غيره.
ويظلّ الفارق الأساسي بين مفهوم العنصرية ومفهوم العداء ضدّ الإسلام (أو الإسلاموفوبيا) هو أنّ المفهوم الثّاني يمكن أن يشهر به اليساريون الذّين يعتقدون أنّهم في مأمن من الاتهامات ضدّ العنصرية. غير أنّ العنصرية الثّقافية أصبحت في مجتمعنا سواءً كان تجاه المسلمين أو غجر الرّوم هي المهيمنة.
وأيام قلائل قبل نشر تقرير اللّجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان بتاريخ 20 مارس/آذار، نشرت مؤسسة “جون جوريس”، وهي قريبة من الحزب اليساري، دراسة قام بها مديرها الجنرال “جيل فينشيلستاين” تحمل عنوان: “مسلمون من اليسار؟”.
وانصب محتوى هذه الدّراسة على منطقة باريس فقط، وبعض ما جاء فيها ما يلي:
“تشير نتائج الدّراسة إلى بعض الكليشيهات ففي منطقة باريس التّي يطلق عليها اسم “إيل دو فرانس” نجد من يسمونهم بـ”بوبو” اليسار و”العولميون المتحرّرون” و”المحافظون” من حزب اليمين و”القلقون” من الحزب اليمين المتطرّف. إلاّ أنّه ظهرت جماعة جديدة يطلق عيلها اسم “التّقاليديون الجدد” وهم يمثلون نسبة 12 بالمائة من مجمل سكان منطقة باريس والتّي يمكن أن يطلق عليها كذلك اسم “مسلمو اليسار” مقارنة بـ”كاثوليكو اليسار”، وتخصّ هذه الدّراسة أساسًا هذه الجماعة بالتّحديد. وحتّى لا تختلط علينا المفاهيم ولا يختلط الحابل بالنّابل يجدر القول إنّ كلّ هذه الجماعات غير متساوية أكان هذا على الصّعيد الاجتماعي أو السّياسي، بعبارة أخرى فإنّ فئة “مسلمي اليسار” لا تمثّل إلاّ نصف النّسبة من المسلمين وليس كلّ المسلمين ينتمون إلى هذه الفئة”.
هذه التّعريفات في حدّ ذاتها مضللة، فكيف يمكننا تعريف فئة تسمى “مسلمة” يكون أكثر أعضائها من غير المسلمين؟ ومع ذلك، نجد أنّ الدّراسة تحتوي على عناصر هامة.
وفي نفس التّقرير نجدّ: “في مجال القيم الاقتصادية والاجتماعية فإنّ هذه الفئة هي أقرب من الشّاكلة القديمة لحزب اليسار وهي تطلّع إلى المزيد من المساواة ولاسيما من قبل اليسار الفرنسي والكثير من قبل الدّولة (…). وعلى عكس ذلك فإنّنا نجد القيم الثّقافية المحافظة جدًا والتّي تهيمن على فئة “مسلمي اليسار” هي التّي تبعدها تمامًا عن الفئات اليسارية الأخرى”.
كما أنّ هذه الفئة ليست على قطيعة مع المجتمع الفرنسي، فهي: “تريد الاندماج في المجتمع وهو أقلّ انتقادًا في تسييره مقارنة مع الفئات الأخرى ويتطلّع فقط إلى العثور على مكانته في المجتمع. ويظلّ مسلمو اليسار متفائلين بل أكثر تفائلاً مقارنة بباقي فرنسيي باريس بحيث نجد 71 بالمائة (مقابل 79 بالمائة) يصرحون أنّهم متفائلون بالمستقبل وقادرون على الانفلات من مأزق المعيشة الاجتماعية. وهم أكثر تفائلاً أو أقلّ تشاؤمًا فيما يتعلّق بمستقبل أبنائهم فـ 39 بالمائة (مقابل 26 بالمائة من فرنسيي باريس) يعتقدون أنّ أبناءهم سيعيشون حياة أفضل منهم”.
ويشير المؤلف إلى أنّ هذه الفئة تعدّ تحدّ في حدّ ذاتها بالنّسبة إلى الحزب اليساري، إذ كيف يمكن إدماج هذه الفئة على لوحة الشطرنج السّياسي؟
“وقبل أن يطلق على هذه الفئة باسم “اليسارية” فهي تعرف بشكل سلبي: هذه الفئة ليست من “اليمين”. وفي الدّور الثّاني خلال الاستحقاقات الرّئاسية لعام 2012 نجد 28 بالمائة من “مسلمي اليسار” صوتوا لصالح “نيكولا ساركوزي”. أمّا المسلمون المتحزّبين لليمين فيمثلون نسبة 14 بالمائة ونجدهم سواءً في مختلف الأحزاب اليمينية.
وعليه، هل يمكن اعتبار كلّ من هو مسلم هو من اليسار؟ الجواب يمكن أن يكون متأرجحًا. نعم، المسلمون يشكلون الوجهة اليسارية إذا أخذنا بعين الاعتبار القيم الاقتصادية والاجتماعية وقيم الهوية والهجرة. نعم، إذا أخذنا بعين الاعتبار السّلوكات الانتخابية الأخيرة والتّي مثلت 72 بالمائة من الأصوات المدلاة لصالح “فرانسوا هولاند”. الجواب يكون لا، إذا أخذنا بعين الاعتبار القيم الثّقافية. ما هو أساسي يكمن بعيدًا، فخصوصيات هذه الفئة المسماة بـ”مسلمي اليسار”، وفي هذا المجال يكمن التّحدي الانتخابي لحزب اليسار، تتمثل في علاقتها بالسّياسة، بحيث نجد 61 بالمائة منهم “لا يبدون اهتمامًا” للسّياسة و37 بالمائة “لا يهتمون بتاتًا” بالسّياسة (أي بنسبة 19 نقطة زيادة) و32 بالمائة امتنعوا عن التّصويت أو صوّتوا على البياض يوم 6 ماي/آيار 2012″.
ومهما يكن الأمر، فإنّ المسلمين سواء كانوا “مندمجين” اجتماعيًا على غرار “مسلمي اليسار” أو ينتمون إلى الطبقة العاملة الكادحة أو إلى “شباب الضّواحي” يشكلون تحدّ في حدّ ذاته للكتلة اليسارية الفرنسية، والتّي تبدو عاجزة عن رفعه. وفي هذا المضمار، كان الحزب الشيوعي لمنطقة “بانيولي” خير دليل على ذلك.