القيلولة من كتاب «الأسرار»
“ما رأيك في قيلولة؟” كانَ يسألني وكنتُ أضحكُ في كلِّ مرةٍ “نعم. وحدي”. يديرُ وجههُ خائباً، رافعاً عينيهِ إلى السقفِ، مسترحماً الملائكة والشياطين. أتابعُ الضحكَ. نبقى في المكان المأهولِ، في صالة الفندق، نرتشفُ الشاي والقهوة. تبقى رغبتُهُ تتقافز حولي. تسعدني ولا تعنيني.
أمدّ إليه يدي وأُفسحُ له مكاناً على السرير إلى جانبي. لماذا قلتُ نعم في اليوم الأخير؟ جاءْت وحدَها. كان يمكنُ أن نفترقَ غداً حامليْن طعمَ الرغبةِ المخنوقةِ مَوْتاً. لماذا قلتُ نعم في اليوم الأخير؟ سبعةُ أيّامٍ لدراسة “المرأة العربية بين الاستقلال والتبعية” أرقامٌ وإحصائياتٌ ونسبٌ مئويةٌ: العاملات والقاعدات، الأميّات والمتعلمات، الفلاحات والمدنيّات. أسئلةٌ وأجوبةٌ وكلماتٌ كبيرةٌ تثير الدوار. أتابع كتابة الملاحظات بدأبٍ وهو إلى جانبي. كان سؤاله المتعثرُ وكانت هزّةُ الرأس ونعم التي تسلّلت خِلْسَةً. غصَّ كالملهوف يستعيدُها: هل سمعتُ جيداً؟ أبتسمُ ولا أجيب. غصّةٌ مختلفةٌ تتصاعدُ وتتهابطُ الآن متحايلةً على عنقه. يتحدثُ متشاغلاً ولا يجرؤُ على الاقتراب “ما تزال المرأة عاجزةٌ عن المشاركة الفعليّة في صنع القرار” مددتُ إليه يدي وجاء إلي.
في المرّة الأولى قالها واعتبرتُها نكتة. ضحكتُ وضحكَ معي. صارتْ محطةً يوميّةً نتوقف عندها كلماتٍ ملتبسةً توازي كلمات المؤتمر الواضحة “لم يواكب التطوّر المادي تغييرٌ جذري في مجالِ القيم الاجتماعية المتعلقة بالمرأة// أدّى غيابُ وعي المرأة نفسِها بقضيتها إلى إصابتها بنوعٍ من الفصام الذي يجعلها تتبنى مفاهيم مضادّة لحقوقها” كنتُ أرى عينيه عليَّ ويتوتر جسدي. قيلولة؟ سمعتُ الكثير وهذه جديدة. لم يقلها لي رجلٌ من قبل، ولا حتى امرأة. كنتُ أرى عينيه عليَّ ويتوتر جسدي. هل يمكن أن تكون الرغبة معدية؟ في ضوء بعد الظهيرة المرميِّ بكسل وراء الستائر أستطيعُ تمييزَ عريِه الجميل وشيىءٍ من الرضا علي الوجه الساكن المغمض العينين “مفهوم الرجولة يفرض على الذكر في مجتمعنا أن يمارسَ مختلفَ أنواعِ الخبراتِ الاجتماعية حتى المحظورة منها دون أن يستنكر عليه ذلك. أما إذا قامت المرأة بالأعمال نفسها…” عيناي أنا مفتوحتان. أراه لا يراني.
كانت قيلولة أيضاً في ” رجل وامرأة”. عندما عرف أبي يومَها أنني ذهبت لمشاهدة الفيلم صرخ في وجه أمي “مراهقةٌ ترى مشاهد كهذه ستفسد..” هل فسدتُ؟ ” الرجل المقموع يتحوّلُ في بيته إلى قامع” ركضتُ أختي الصغيرة في شوارع دمشق باحثةً عني على باب سينما “الكندي” قبل أن تتلقفني صفعاتُ أبي. قلت متحدّيةً “ولِمَ لا؟ أنتَ أيضاً شاهدتَه” وقحة. ارتفع صوتُهُ وطارتْ منفضةُ السجائرِ لتصفر أمام عينيَّ قبل أن تحطَّ شظايا تلملمها أمي مستعيذة بأنبيائها “كلما كانت الأم خاضعةً مسلوبةَ الإرادة ازدادت رغبة الإبنة في السير في الطريق المعاكسة)”كانت قيلولة. تخطرُ لي الفكرة للمرّة الأولى بعد هذه السنوات كلّها. الرجل والمرأة يتناولان طعامَ الغداء في مطعمٍ ثمَّ يصعدان إلى غرفة في فندق. أبي الذي لم يتحمّل رؤيةَ فيلم في حياته شاهدَ مرّاتٍ الفيلم الفرنسي الذي كان حديث مدينتنا. البطلةُ أرملةٌ لم تقربْ رجلاً منذ موتِ زوجها. ابتسمتُ في سرّي وحمدت ربي أنني لستُ. أسمعُ همساتِه “ما كنتُ أظنُّ أنّ هناك امرأةً ساخنةً إلى هذا الحد” يتحسس جسدي الملتهب بالرغبة وأريده أت يتحسس جسدي الملتهب بالرغبة. أعرفُ أنني حارّةٌ وناعمةٌ “المرأة كائنٌ ذاتي لا يملك القدرة على تجاوز الذات إلى المجتمع” يقترب أكثر وألتصق به أكثر. نتداخلُ وإيقاعاتُ جسدينا ما تزالُ هادئةً “عملُ المرأة داخل البيتِ وخارجهِ يؤدي إلى إصابتها بالإرهاق” اللمسة تمتدُّ والقبلة تطولُ والمرّةُ الأولى تبدأ اجتياحاتها.
منذ سبعة أيامٍ وهو إلى جانبي. لم نكن وحدنا. المشاركون كثر في “تاريخ المرأة العربية والظروف التي أدّت إلى حرمانها من المشاركة في الإبداع الحضاري”. لقاءاتٌ عابرةٌ في مؤتمراتٍ عابرةٍ. لاحظتُ انتباهه منذ البداية ولم يكن هذا يعنيني. أعرفُ أنّ رغبتي لا تبدأ إلاَّ مني. لماذا هو الآن، دون غيره. إلى جانبي في هذا العناق المتوحّد؟ السؤال الأزلي عند كلّ بداية. الجسد هو الذي يقرّر؟ “ما طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة وما هي العوامل التي تتحكم فيها؟” في زمنٍ مضى كان هناك مَنْ يعيدُ عليَّ حديثَ كيمياء الأجساد وتناغماتها. كنت ألتصقُ به وهو يصفُ دَهِشاً قدرتي على التغلغل. التغلغل في ماذا؟ ربُّكَ وحده يعلم. كانت كلماتُهُ تبقى عالقةً في مصيدةِ رأسي وكنتُ أتلمّظُ بها في خلوتي “المرأة لا تطلب مباشرة ما تريدُ ولا تدافع عن معتقداتها، وبخاصة إذا ما تطلّب منها هذا دحضَ آراء الآخرين وإظهارَ مقدراتها الفكرية” ماذا سيتجلى من قدراتي الآن وكيميائي العملية تتوهج في هذا الرجلِ، في هذا السريرِ، في هذه الغرفةِ، في هذا الفندقِ، في هذه المدينةِ، في هذا البلدِ، بعيداً عن حياتي؟
كانوا جميعاً يرقصون في قاعة الفندق. هذا الفندق الذي سيحتضن في الأسبوع القادم مؤتمراً لوزراء الداخلية العرب، وقد يناقشون، هم أيضاً، حقي في القيلولة. جرى الإيقاع في دمي وتردّدتُ “ما تزال المرأة العربية خاضعة للضغوط الاجتماعية// نمرّ بفترة انتقالية حرجة تتيحُ للمرأة فرصاً ومسؤولياتٍ لم تؤهّل لعيشها وهي لذلك في حالة خوفٍ دائم” الرقصُ فرصةٌ أم مسؤولية؟ ما زلتُ أخافُ جسدي. أحمله عبئاً على عبء أعرض وأستعرض بعضَ بعضِهِ بغوايةٍ وأخفي الباقي بحرص. ترددتُ وشدّني بإصرار. وقوفا تقابلنا. لا ألمسه ولا يلمسني. إيقاعُ الجسد وحدَه يربط بيننا. يقتربُ بوجهه مني. أحسُّ الخطرَ فأضحكُ وأبتعد. شعري ينوسُ مع حركاتي وعيناه تتابعاني. في لحظة ما أمسك بيدي: لنخرجْ. تفلتُّ. تابعتُ الرقص، تابعتُ اللعبَ. قالت الصديقة “أنتِ امرأةٌ طفلةٌ لا تذهبُ إلى نهايات أفكارها”
ماذا تعرفُ هي عن البداياتِ والنهاياتِ؟ ماذا تعرفُ عن صباحاتٍ ومساءاتٍ وأجسادٍ ومذاقاتٍ وعطورٍ صبّتْ في بهائي؟ إيقاعُ الجسديْن يربطُ بيننا الآن ولكنه ليسَ وحدَه، وعندما يقتربُ بوجههِ مني تبدأ شفتايَ في التدوَرِ البليل. القبلة لا تنتهي وأغمضُ عيني. أستعيدها غزيرةً، أستعيدُها واحدةً، أستعيدُها ويسقطُ دمي المباح.
“كنا في السوق القديمة” ترفع الصديقة شعرها عن غنيمتها: طويلةُ المهوى والقرطُ فضةٌ مطعَّمةٌ بأحجارٍ صغيرة توسوس عند كلّ حركة. كانت أذناي عاريتين كالعادة “لماذا لا تضعين العقودَ والأساورَ والخواتم؟” تسألني أختي وأتحايل في الإجابة “المرأة العربية ليست نسيجاً متشابهاً وهموم الريفية تختلفُ عن هموم..” عندما كتبتُ أيام الجامعة قصيدةَ حبٍّ قالوا هذه كلماتُ امرأةٍ لا همَّ لها. هو أيضاً سأل، وبحركة تمثيليةٍ لم يناقشها المؤتمر أعلنتُ “لستُ بحاجة إلى إضافاتٍ أنثوية” فهم المكرَ وأجابت نظراتُهُ جوَالةً كقبلاتٍ متأنّيةٍ على الوجهِ، على العينين، على الشفة السفلى، على الثديين وأهرب إلى حكايات الصديقة ومشترياتها. في العتمةِ الشفَافة تنتقلُ قبلاته متأنّيةً متأنيةً على المفضوح مني والسّري. أغمضُ عيني من جديد سابحةً خلفَ مويجاتي: تتعاقدُ في داخلي، تتشابك ثمَّ تتصاغرُ، أبعدَ أبعدَ، قبل أن تتفتح نقطة نور تنداح “لا تعبّر المرأة العربية عن تجاربها خوفاً من أحكام المجتمع الأخلاقية التي لا تفصل بين الحياة الخاصّة والعمل الفنّي” لستُ بحاجة أن أفتحَ عينيَّ كي أراه. أعرفُ أنّه هنا، مختلطاً برائحةِ اللذّة.
من ” كتاب الأسرار”