الخطوات الأولى لإيمانويل ماكرون في الشرق الأوسط
«إعادة فرنسا الى الميدان من دون انحيازات أيديولوجية في صلب عقيدة رئيس الجمهورية» بالنسبة إلى السياسة الدولية، حسب جان دومينيك مرشيه، محرر الرأي في صحيفة L›Opinion. كان الرئيس إيمانويل ماكرون قد استقبل للتوّ دونالد ترامب بمناسبة احتفالات 14 تموز، ومن ثم فلاديمير بوتين في قصر فرساي.
من المبكر جداً تعريف المحاور الأساسية للسياسة الخارجية الفرنسية، وخصوصاً بعدما أوصل الانتصار الانتخابي المفاجئ لماكرون، في هذا المجال كما في مجالات أخرى، جيلاً جديداً من الكوادر الى مواقع القرار، باستثناء جان إيف لودريان الذي أصبح وزيراً للخارجية بعدما كان وزيراً للدفاع في عهد فرنسوا هولاند. من جهة أخرى، يعطي ماكرون الأولوية للإصلاحات الاقتصادية الداخلية التي ستسمح بإعطاء المزيد من الوزن لفرنسا وبالسعي بفعالية أكبر لإصلاح الاتحاد الأوروبي، وهي أيضاً من أولويات ماكرون الأوروبي المتحمس. لم يسبق لرئيس فرنسي أن ساوى بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية
الموقف الأكثر أهمية المتعلق بالسياسة في الشرق الأوسط عبّر عنه ماكرون في مقابلة مع يومية «لوفيغارو» (Le Figaro) في 23 حزيران الماضي: «ستنتهي معي أنا مقاربة المحافظين الجدد المستوردة الى فرنسا منذ عشر سنوات. الديموقراطية لا تصنع من الخارج بمعزل عن الشعوب. فرنسا لم تشارك في حرب العراق (2003) وكانت محقة. وهي أخطأت بخوض الحرب في ليبيا. ما هي نتيجة هذه التدخلات؟ دول فاشلة ازدهرت فيها المجموعات الإرهابية». وأضاف انه لا يريد أن يرى تكرار هذا الوضع في سوريا. «التغيير الحقيقي الذي أدخلته على هذا الملف هو أنني لم أعلن أن تنحية بشار الأسد هي شرط مسبق. لم يقدم لي أحد خليفته الشرعي». رأى البعض أن هذا الموقف «ديغولي ــ ميتراني»، وهو مصطلح ابتكره الوزير الأسبق هوبير فيدرين، على النقيض من تيار المحافظين الجدد. عاملان ليسا غريبين عن هذا التحول وعن الرغبة في التواصل مع الجميع هما أيضاً التورط المستمر لفرنسا في مالي ومنطقة الساحل، والمركزية التي باتت تحتلها مكافحة الاٍرهاب.
الاجتماع الذي عقد في باريس في تموز الماضي بين الإخوة ــ الأعداء الليبيين، رئيس حكومة طرابلس فايز السراج والرجل القوي في الشرق الليبي خليفة حفتر، أظهر مثالاً على هذه المقاربة الجديدة. ولكن، وعلى الرغم من إصدار بيان مشترك بين الطرفين، فإن غياب النتائج على الأرض تدفع إلى التساؤل عن الوزن الفعلي لفرنسا على الساحة الدولية.
المقاربة البراغماتية نفسها تسود بالنسبة إلى ملفات الشرق الأوسط الأخرى مع بعض التمايزات. كان إيمانويل ماكرون واضحاً في دعمه للاتفاق حول النووي الإيراني، بينما كانت الإدارة الأميركية تعلن عن نيتها بإلغائه؛ وجهر أيضاً بنيّته زيارة طهران، وهي ستكون الزيارة الأولى لرئيس فرنسي منذ انتصار الثورة عام 1979. لقيت هذه التصريحات استقبالاً سيئاً في الرياض التى ترى في إيران عدواً رئيسياً. وقد زاد من برودة العلاقات بين فرنسا والمملكة موقف باريس الداعي إلى رفع الحصار المفروض من السعودية وحلفائها على قطر. وتَعزز هذا الموقف بعدما اعتبرت السلطات الفرنسية أن المعلومات التي قدمتها السعودية عن العلاقات بين قطر والإرهاب غير مقنعة، قبل أن يُستقبل الأمير تميم في باريس في 15 تشرين الأول الماضي. أخذت باريس بعض المسافة في علاقاتها مع الرياض بعدما كانت حميمة جداً في عهد الرئيس فرنسوا هولاند. لكنها لا تزال حريصة على الحفاظ عليها، لاعتبارات بعضها اقتصادي، وهي مستمرة في دعم الحرب الدائرة في اليمن.
ينبغي فهم تدخل ماكرون في الأزمة اللبنانية والإقالة القسرية لسعد الحريري في هذا الإطار. هدف الدبلوماسية الفرنسية كان مزدوجاً: إنقاذ سعد الحريري من دون إدانة الرياض، وإفساح المجال لها لإنقاذ ماء الوجه. وَمِمَّا أضاف على هذا الأمر أهمية هو أن لبنان لا يزال يتمتع بموقع خاص لدى السياسيين الفرنسيين الذين لا يستطيعون عدم المبالاة بمستقبله. وحققت باريس نجاحاً لا ريب فيه مع مراعاة مصالح جميع الأطراف وأولها مصالح لبنان.
أخيراً، لا نستطيع استكمال مراجعة السياسة الفرنسية في المنطقة من دون التطرق إلى القضية الفلسطينية. تعديل السياسة الخارجية أخذ منحى سلبياً تجاهها. فمع تأكيده على استمرار تأييده لحل الدولتين، دعا الرئيس ماكرون بنيامين نتنياهو الى باريس لإحياء ذكرى إحدى أكبر عمليات اعتقال اليهود الفرنسيين وتسليمهم للنازيين خلال الحرب العالمية الثانية (la rafle du vel d’Hiv) وأوضح في خطابه أن «معاداة الصهيونية هي الشكل المستجد لمعاداة السامية». قيل كلام مشابه من قبل مانويل فالس عندما كان رئيساً للوزراء، ولكن لم يسبق أن صدر مثله عن رئيس للجمهورية.
*مدير موقع «شرق XXI»