«سأبقى لأكتبك» ديوان الشاعرة المغربية ماجدة بارودي
بوح رقيق بكوامن موشَّحة بحب للوطن بلا حدود حملتها عبارات تطرق أبواب الأرواح في ديوان جديد للشاعرة المغربية ماجدة بارودي
تأخذ تفاصيل حب الوطن، والهوية المغربية الغنية من حيث التعدد اللغوي، والعرقي، والخصوصية، وضوع أرضه، وعبق أزهاره وأشجاره الشامخة في أعالي جباله، وتفاصيل صحرائه وعباب بحره، مكانا مهما في الديوان الجديد للشاعرة المغربية ماجدة البارودي « سأبقى لأكتبك »، الصادر عن مكتبة سلمى الثقافية في تطوان. حيث جمعت بين دفتيه ترانيم مختلفة، لتؤكد من خلاله على ما بدأ يُشكِّك فيه بعض المغرضين، من وحدة للأرض، والتراب، والشعب المغربي، وتاريخه، وثقافته، وأحلامه، وأحداث وتفاصيل أيامه، وتَشَكّل فُسيفسائه، وكل ما فيه. جاعلة من تفاعيل ديوانها أنغاما، وتراتيل حب، بل قواعد يُصاغ على أنماطها حكايات للمستقبل، ولكل من ألقى السمع.
ومن الممكن اعتبار هذا الديوان امتدادا لدواوينها السابقة، حيث تُكمل فيه ما بدأته سابقا وفي نفس الاتجاه والتصميم على جلِّ الأفكار التي وردت في ديوانها السابق « سطور الغيم »، مع إعطائها في ديوانها هذا بعدا جديدا آخر، من خلال الصور الجديدة التي تفتح النوافذ والأبواب أمام مُتخيل خصب يُلامس الأحاسيس بسهولة، ويجعل القارئ يُبْحر في فضاءات قصائدها متمايلا مع إيقاعاتها، وموسيقى تفعيلات مشاعر صافية. في حالة من الصدق في التعبير عن الوجد والوجدان، تجعل من القُبَل أمرا لا يمكن تعويضه:
ولا تَكْفي النوايا
حين يُضيِّعُ القُبْلة مَنْ يُصَلي…!
لتنصهر بالتالي العروبة بالأمازيغية في وحدة وتلاحم، في سياق جميل لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. إنه التاريخ، واللغة، والتأثر، والتأثير، والتداخل الإنساني، والحضاري، بكل أبعاده:
رَضيتُ بكَ حُلمًا يُهَدْهِدُ الفضيلة
يَسْتلُّ السُّيوفَ يَنْهَلُ الرِّمَاح
يُدافِعُ عَنِ المُرُوءَةِ
ولكنَّ الإنْسانَ مِثْلي تمامًا كالعُروبَةِ
كاليَتيم كسُجونِ الحَقيقة…
وكما وعدت القارئ في ديوانها السابق « سُطور الغيم »، بأنْ تُخبره، وتكتب له عن بعض أسرارها، والمَكْنونات التي لا يُباح بها عادة، عندما قالت:
سأكْتُبُ قصَّة
العِطر المَسْكوب
على صَفَحاتي
سَأزورُ صَنادِيقي
وأفْتحُ جِراحِي
سِرًّا سرًّا
فقد وفت الشاعرة بوعدها، فضمَّنت ديوانها الذي بين أيدينا كثيرا من أسرارها، ابتداء ببعض أخبار أمِّها، وأبيها، وحبيبها، ووطنها، وكل الجمالات المحيطة بها، والتي تشكل مرابع حياتها. وانتهاء بانتماءها الأمازيغي، وبعض مما تُحِبُّ، وما لا تُحِب. فكان هذا العمل الحواري بين الشاعرة والوطن، والحبيب. فنراها تأخذ فيه تارة دور الوطن المعاتب، أو الحبيب القوي الغاضِب. وتارة أخرى دور الحبيبة الهائمة. وكل ذلك في حوارية جميلة تُضْفي على قصائد الديوان بعدا جديدا، وتهبُها نوْعا من الديناميكية، وتجعل القارئ يتداخل معها، وينغمس فيها من زاويا مختلفة.
وبالتالي يُسافر في عُباب أخْيلةٍ غزيرة متكاثفة، وعبر مشاعر وطنية، وأحاسيس إنسانية فياضة، على شكل أنوار تتولد في الدواخل، فتسمو به في عوالم خاصة، وتبعث في روحه الدفء، والحماس، وتطلق عنان مشاعره، لتحلق في الأعالي. إما متذكرة لتجرية مماثلة، أو متمنية عيش وتحقيق نفس التجربة. ليتنقل القارئ بهدوء في محطات هذا الديوان، وقصائده. جاعلا من الحنين إلى الوطن مجاذيف له، ومن الذكريات مراكب لتلاطم مشاعره، مُتوَحِّدًا مع تلك اللغة السهلة، المُبسطة، التي لا تحتاج إلى قواميس لفهمها، وهضمها. فتأسره، ولا تجعله يسرح مُتفكرا في المعاني، فتتوه منه الصور الشعرية، التي تتوافد، وتتدفق كشلال من الإيحاءات المتناسقة، المنظومة، والمنتظمة بلا انقطاع. فاستخدمت الشاعرة تعابير في متناول اليد، تخدم الأفكار الأساسية التي أرادت إيصالها عبر قصائدها، فأدَّت دورها على أتمِّ وجه، دون أيِّ نوع من أنواع الابتعاد، أو الهرب بعيدا…
ينتمي هذا الديوان ككل أعمال الشاعرة السابقة إلى مدرسة الشعر الإنساني، والوجداني بكل أبعاده. حيث تغوص الشاعرة في أعماق روحها، باحثة عن الصيغ، والصور في العمق العميق، لتغترف منها، وتنثر على القراء بعضا مما أحبت أن تجود به. وما بين العام والخاص، تفتح الشاعرة للقراء بوابة عوالمها بحذر، وهدوء، دون أن تدعوهم إلى الدخول. إلا أنَّ عبق تلك العوالم يتسرب إليهم، فيعرُض على شاشة عُقولهم ما اختبأ خلف القصائد واستراح، كتجربة إنسانية شخصية، من المُمْكن الوقوف على بعض تفاصيلها، من خلال عملية تفكيك مُبَسطة لمفرداتها، وتعابيرها، وتكاوين صورها.
ويطفو ذلك كله على السطح بالرغم من أنها حاولت أن تُخبِئُه من خلال حضور الوطن، والهوية، بشكل قوي، في كل التفعيلات، وثنايا الكلمات. ليقف القارئ بالتلي على أحداث غُرْبة حبيب ترك حبيبته، ثم عاد. ويلتقط القارئ أيضا أزاهير نثرتها الكاتبة في دفاترها. أو بالأحرى حوارات عِتاب لفها كبرياء أنثى قد تجرَّحت روحها من أشواك حب، على ما يبدو أنه لا شفاء منه…! وحكاية حبيب ارتكب بلا شك خطيئة لا تُغْتفر، مما سمح لها بأن تناديه من عليائها بـ: هذا…! فتقول له مخاطبة:
وأخيرا كبُرْتَ يا هذا
وتعلمتَ مِنّا
كيف تَسْقى الأرْض
لتُنْبتَ الأحلام والطيورا
وتعلمت بعد دَهْرٍ من الرَّجاء
كيفَ تختالُ في مدائننا…
وتُكْمل الشاعرة ماجدة البارودي السير في طريق الكبرياء هذا أبعد من ذلك. فنرى أنها وفي أكثر من موضع يأتي الخطاب في قصائدها على لسان المذكر الذي يكتب مُعاتبا، أو مُبررا، في عملية تقمص شائعة في الأعمال الروائية السردية، ولكنها قليلة في الشعر. ثم تعاود استخدام صيغة المذكر، عندما تتحدث بصيغة الإنسان المطلق. وليس بصفتها كأنثى تتأرجح مشاعرها ما بين أب وهبها الحياة، ويرمز بالنسبة لها إلى كل ما هو شهْم في الحياة وجميل، وحبيب إنسان لم تُرِد أنْ تُفْصح عنه الكثير. قد يكون ابنا، أو زوجا، أو أخا. وبين الوطن الذي لا ترى في الكون أجمل منه، وأنَّ حُبَّه لا يقبل الشك، ولا القسمة، قائلة:
وتسيرُ إليْكَ جَوَارِحي
وزَوَارِقي وزَنابِقي
وتسيرُ رُوحي بِلهْفَةٍ
فإِنْ كانَ لي وَطنٌ يضُمُّني
بحَمَاقتي
بطَيْشي
وسَذاجَتِي
أَنْتَ أيُّها الوَطنُ
وَإِنْ كانَ السِّجْن فِيكَ نِهايَتي
أَوْقِنُ أنَّني حَتْمًا
هُناكَ آمِنَة…
وأعتقد أنه علينا الانتظار حتى نقرأ ديوانها الجديد، للمعرفة والإلمام أكثر بأسرارها. وما تُخبئه في مكنوناتها، ودواخلها. وسماع كل أمنياتها التي تَمْتمَتْها عند الصباح وأخبرتنا عنها:
عندما يَزُورُني الصَّبَاحُ
وتَغْمُرُني الوُرُود بِالنَّدى
تعْتريني اللهْفَة
أغْمِضُ عَيْنيَّ
وَأتمْتِمُ بعْضَ الأمْنِيات…
- كاتب وباحث مقيم في باريس