همس الشبابيك: رواية هموم الوطن والانكسارات
صدق من قال يوما: إن العيون شبابيك القلوب. ففي كل حركة منها ورمشة حكاية بل حكايا. فمن همسها تبدأ القصص والحكايات ويطل البشر على بعضهم. وعبرها يسافرون في عالم الأحلام. وما بين همسها، وسكنى امرأة بين سطور الضلوع، وإشعاعات تلك الهمسات، وهموم الإنسان والوطن، وتطلعات لغد آخر لا يشبه ما نمر به، تأتي رواية المبدع الأردني الكاتب سمير أحمد الشريف « همس الشبابيك »، الصادرة عن دار كتابات جديدة للنشر الألكتروني، لتخرج الهمس من قُمْقُمِه، وتجعله يصرخ في دواخلنا، مُحْدثا صَخبا، كمُسحراتي في زمن النوم والثبات، والاستقالة من طرح الأسئلة الكبرى، وفتح جراح الهموم.
ينحو الكاتب في سرده منحى حداثيا، مُلقيا عن حِبْر قلمه عباءة الرواية التقليدية. ويُقدم للقارئ عالما جديدا، وتغريدا خارج السرب الذي ألفه، رواية ومسلسلات تلفزيونية. فيكشف له كل ما يريد أن يعرفه عن شخصيات روايته. ولكنه يبقى حتى آخر كلمة يتحكم بالشبابيك، وترانيم همسها. وكل فقرة من فقرات روايته الـ 47 تشكل قصيدة نثرية، أو قصة قصيرة قائمة بذاتها. وبإمكان القارئ قراءتها منفصلة، أو مُجْتمعة مع بعضها. في عملية إسقاط متماسكة على واقع مجتمعاتنا السياسي والاجتماعي، الذي غدت أحداثه شديدة الترابط ببعضها، ولكنها تبدو منفصلة لمن لم يؤت من العلم إلا قليلا. أَوَ لسنا نحن في الهم شرق…؟!
مستخدما في تدبيج سطوره لغة شاعرية، وتعابير حالمة، إن كان من حيث الصور وتتابعها، أو من حيث زخم المشاعر التي تحملها المفردات، لتتمدد في تفاصيل القارئ، فتحجز مكانها إلى جانب نبض القلوب. لغة شاعرية بامتياز، ولكنها في نفس الوقت مُسْتفزة، تُشْعر القارئ بأنه متهم عند كل فاصلة ومفصل. وتجعله وجها لوجه أمام المِرْآة، وأمام ذاته. بل أمام كل ما لا يريد الإقرار به، ولا رؤيته…!
وإن كانت الصور شعرية محضة في بدايات السرد، وبلغة سلسة سهلة هادئة. إلا أنها تغدو بمجرد الخوض في أمواج الصفحات، لغة تحمل في طياتها شيئا من القسوة، في جمل صغيرة، تقرع الأبواب والشبابيك بإيقاع سريع يشبه حركة الحياة والمجتمع. فيقوم الكاتب بحفريات مؤلمة في كل ما يحيط بنا. لا يفتش خلالها عن الذهب الأسود، بل عن أرواحنا، وأصالتنا، وكل ما هو جميل. حفريات من الممكن القول عن كثير منها إنها جارحة أحيانا. ومن قال إن الحقائق لا تؤلم ولا تجرح…؟!
يفتح المبدع سمير الشريف شبابيكه ليطل على الياسمين، ولا تسألوا عن الياسمين هنا…؟ فإنه ليس تلك الشجرة المعرشة على سور حديقته، بل زهرة يختصر من خلالها النساء اللواتي تختبئ الترانيم في رموش عيونهن. بل هي تلك المرأة التي فتحت شباكها في اللحظة المناسبة، فغيرت كل تفاصيل حياته، ودَوْزَنتْها، ورتبت إيقاعاتها من جديد.
وتحمل شبابيك الكاتب من خلال همسها القارئ إلى عواصم الياسمين العربي؛ دمشق، وبغداد، والقاهرة. وبعضا من تفاصيل ألف ليلة وليلة. ونسيمات هَزْهَزات النخل العروبي في الصحراء العطشى. وكذلك يحمله همسها إلى التفاصيل المُسْتهْجنة في حياتنا، والتي ألفناها، ونتعامل معها كبديهيات. فيصارحنا بفجاجة أننا نستعبد بعضنا بواسطة عقد زواج، يتذرع به زوج كثور هائج ليستبيح جسد امرأة هي حرة أساسا مثله، لها كرامتها، وإنسانيتها، ورغباتها.
وعلى هدير الهمسات مع الاعتذار من فيروز وهدير بوسْطتِها، يُقْحم الكاتب القارئ في خضم المعترك السياسي بامتياز، وأحداث المنطقة العظام، وبعض تفاصيلها في فترات سابقة. ناقلا له همسات جيل عاش الانتصارات، والشعارات الكبرى، وانحنى ظهره أمام الانكسارات. ويُسَرِّب له أشياء كثيرة، ابتداء من التوسع الأمريكي، ولحظات ولادة الدولة الصهيونية التي أشرفت عليها بداية الدول الاستعمارية، ومن ثم تولت أمرها وتبنتها أمريكا، وانتهاء بجارته ياسمين.
طبعا دون أن يتوقف عبر كل الصفحات عن فتح النوافذ في كتب التاريخ على أحداث قد نكون نسيناها. فهذه نافذة على العدوان الثلاثي وأسبابه ونتائجه، ودول عدم الانحياز ودورها. وتلك على حلف بغداد، ونزول الأمريكان على شواطئ بيروت. وأخرى على عملية ميونيخ الشهيرة. وهاتيك على وقف إمداد الغرب بالبترول عام 1973 الخ… إنها عملية تهريب لقصاصات مختارة من التاريخ، موجهة للجيل الجديد الذي لم يعش تلك الأحداث العظام في القرن الماضي. يقدمها له خفيفة جاهزة، تشبه وجبات الطعام السريعة التي تعودها. كأنه يقول لهذا الجيل بالفم الملآن، إن من سبقهم لم يكن سلبيا، بل قدم تضحيات عظام، وقام بتحديات أيضا، وعليهم هم أنفسهم إكمال الطريق.
ويغوص في عمق مآسي مجتمعاتنا، متطرقا إلى الذين تخلوا عن المبادئ وباعوها بثمن بخس. وعن صناعة الإنسان الرمز في حياتنا. وتسلق المتسلقين. وهبوط الثروات فجأة، مع أن السماء لا تمطر ذهبا…! دون أن ينسى الهامشيين المُهَمشين لذواتهم الذين يعيشون في واقع منغلق، ليس فيه شبابيك يرون من خلالها حركة المجتمع، فيقومون بتحليل الأمور بسطحية وغباء، فيصفقون لأوباما، ويكرهون بوش الابن، مع أن كليهما مارس عملية الذبح في رقابنا بلا حياء…!
طارحا دور القراءة في حياتنا، والكتب والكتابة، والرواية، والقصة القصيرة، التي يعتبرها فرصة للكاتب، يصب فيها افكاره بشكل مباشر. كونها محدودة الصفحات والشخصيات والأفكار، على عكس الرواية التي يُشرِّق الكاتب فيها ويُغرِّب. دون أن يفوته الحديث عما نأكل ونلبس، وما نتعطر به. وعن مُدُننا وشوارعها المزروعة بالآذان التي ترصد الأنفاس، والمزركشة بالعيون التي ترى كل شيء وتُسجله، حتى ما نُخبئه تحت الجلد، وبين الضلوع. فيقول:
« مدن تقول غير ما تُخْفي وتُمارس في ليلها ما تخجل منه في نهاراتها، مدن الصمت والرضى بالحال، تجتر صباحاتها وتحيا على قلق تقرأ في عوالمها متناقضات تخفيها مساحيقها اللامعة وأرصفتها الصقيلة، يشد الذهول قسمات ساكنيها وتضيع الملامح التي لا تترجم معانيها، طناجر ضغط هذه المدن، تمر السنوات على ناسها نسخا، وتتوالد صحافتها بعناوين مكرورة »…
- كاتب وباحث مقيم في باريس