الثورة في فرنسا: النيوليبرالية تكدس ولا تتلذذ
بسّام الطيارة
قد يضحك البعض من عنوان هذه المقالة! لا بأس ولكنها ثورة بمعنى أنها قد تسلط الأضواء على ضرورة تصحيح مسار الحداثة.
نعم الحداثة بمضمونها الكامل من نظام سياسي إلى منظومة الاستهلاك مروراً بنظم الانتاج وبالتالي حفظ البيئة والتوزيع الضرائبي.
من نافل القول إن اليساريين في فرنسا وخارج فرنسا في العالم أجمع هو مخطئون إن هم اعتبروا أن «كسر النظام الليبرالي» والذهاب بعيداً في النظام الاشتراكي القاسي يمكن أن يصلح أحوال بني آدم.
ولكن وجب القول إن النظام الليبرالي مخطئ أيضاً لأنه خارج سياق الحداثة بمعناها الجديد «الثوري» (والتوضيح آت فيما يلي).
من هنا مكننا القول بشكل حاسم وبلا تردد، إن إيمانويل ماكرون يحمل نوايا حسنة «حسب مفهومه» الليبرالي وكذلك هي نواياه حسنة كل من يدافع عنه. ولكن النظام الذي يؤمن به لم يعد منه أي منفعة للأفراد وللمجتمع وللانسانية.
لماذا؟ الأسباب حاضرة أمام أعين من يريد أن يرى لا أن يبصر. عوامل عديدة حديثة لا يؤخذ بها في كافة التحليلات وتظل على رفوف الترف الثقافي رغم أهميتها التي باتت واضحة وراء ضباب الأحداث في العالم:
١) تسارع الزمن (Accélération: une critique sociale du temps, de Hartmut Rosa) إن تسارع الزمن بات يحتم على الإنسان أن يتجاوز التقييم السابق لنظم الحياة. إن النظام السائد في العقول هو ضرورة «تكديس» (الثروة أو الملذات، أو السلطة) يكتب «برنار ماري» إن «البرجوازي لا يتلذذ بالحياة ولكنه الانسان الذي يؤجل اللذة إلى الغد» (L’avenir du capitalisme, Bernard Maris) هذا التأجيل المتتالي بسبب هاجس التكديس وهو يخلق نوع من الاحباط لدي المستثمرين والمنتجين والمستهلكين ويجعل الإنسان لاهثاً وراء… ما يريد أن يؤجل الحصول عليه وبالتالي يعيش في إحباط لامتناهٍ أكان فقيراً (فهو محبط يريد أكثر) أم غيناً (يريد التكديس بشكل دائم) فلا تلتقي أهداف شرائح المجتمع لا لسبب إلا لأن الزمن يتسارع فيما هم يكدسون إما رغبات غير قابلة للإشباع أو أموال لا مجال للتلذذ بها.
٢) انهيار المجتمع الصناعي (Il faut dire que les temps ont changé…Daniel Cohen) يصف كوهن في مقدمة كتابه التحول في المجتمعات الحديثة بأنها «مقلقة». إن غياب الصناعة بمفهومها الكلاسيكي حاضرة أمامنا فالحاسوب بات ينتج الحواسيب، التي تنتج السيارات من دون سائق، سيارات تذهب إلى عناوين لا ضرورة للنطق بها، حيث يستقبل راكبها برنامج يخرج من «عقل حاسوب». هذا العالم الرقمي الجديد هو في طريقه لخلق «فقط» شريحتي مجتمع انساني: شريحة (أقلية) ترى ولكن لا تستطيع التأثير ولا بأي شكل من الأشكال على مسار الأحداث، وشريحة (أكثرية) لا ترى من هذه الثورة الرقمية سوى الهواتف الذكية وسرعة قراءة أفلام Netflix على حاسوب خفيف الوزن وتصفق لقدرة السيارة التي تصطف من دون أي جهد!. يقول قائل ولكن من يقف وراء «الصناعة الرقمية» هو القادر الجبار… نقول له إن هذا المهندس أو المخترع هو «عبد» لبورصة «ناسداك» حيث هي مدرجة شركات التكنولوجيا التي تمول أعمالهم والتي تدر أرباح لـ… «مؤجلي لذة التمتع بالمال» (أرجع آعلاه)…
٣) العولمة أو الشمولية (Les Guerres de l’Empire global, Alain Joxe) من البداية «الامبروطورية الشاملة (أو العالمية) هي امبرطورية الـ «نيوليبرالية» التي تتجاوز بأبعاد الامبرطورية الأميركية (أو الامبريالية الأميركية التي انهارت بمجرد أن سوّقت للشمولية). الأمبرطورية العالمية تسعى لتشجيع «تكديس الثروات» لكونها ليبرالية ولكن الجديد في نظامها أنها تتجاوز القوميات لتروج للتكتلات العملاقة التي تتجاوز الحدود البدائية للأوطان. المستفيدون من هذه التكتلات هم منتشرون في شتى بقاع الكرة الأرضية وينتمون بطبيعة الحال إلى الأثرياء (آنظر أعلاه) اي الأقلية المؤلفة ممن لا يكدسون ولا يتلذذون وبالتالي لا يفيدون الأغلبية الذين يلهثون ولا يشبعون.
٤) البيئة أو تآكل الثروة البيئية وانهاك الأرض. لا يمكن لمن يلهث أن يتوقف عند مشاكل البيئة أياً كان مستوى تعليمه أو ثقافته أو وعيه إن هو يلهث وراء الزمن المتسارع. فالشريحة اللاهثة وراء الاستهلاك (الأكثرية) وغير القادرة على إشباع رغباتها لن تلتفت إلى البيئة (أياً كان الحديث عن الأجيال المقبلة) واللاهثون وراء تكديس الثروات (الأقلية) لا يأبهون للبيئة إلا من ناحية ترفيهية ثقافية إلا إذا كانت قابلة للاستثمار وزيادة ثرواتهم.
٥) الضريبة أو أداة إعادة توزيع الثروات. تبرز الليبرالية ضيقها من الدين العام كأنه «تابو إلاهي» من ركائز ديمومة الحياة، يتساءل في هذا المجال «توماس بيكيتي» (Le Capital au XXIe siècle, Thomas Piketty) : «كم وجب أن يكون الدين العام في مجتمع مثالي؟» قبل الإجابة يشرح بيكيتي بأنه لا يمكن أن نأتي بجاوب إن لم نطرح سؤالاً أوسع مجالاً وهو «ما هو مستوى الرأسمال الوطني الضروري؟» دون الدخول في التفاصيل الحسابية المعقدة لاستاذ الاقتصاد يمكن اختصار خلاصة ما وصل إلـيه من أنه يجب «تكديس رأسمال وطني يعاد توزيعه» ولكن للوصول إلى تغذية هذا الرأسمال يجب ترشيد مسألة تكديس الرساميل لدى الشريحة الثرية (أنظر أعلاه) التي عليها للمحافظة على رأسمالها (من دون تكديس) استثمار كافة الرأسمال كل سنة مع مردوده» وذلك للمحافظة على حاصل ثابت هو« رأسمال/مردود» مرتبط بنمو الاقتصاد. إلا أن هذه الشريحة لا تسعى للارتباط بالاقتصاد الوطني (العام بسبب الشمولية أي العولمة) بل هي تسعى لـ«تكديس ثروة تراكمية شمولية» لا تفيد الاقتصاد حيث تتفاعل (ولا تستفيد فهي تؤجل التلذذ) من هنا فإن الضريبة «العادلة» هي الحل العلمي لمسألة التكديس غير النافع (الذي وصفه ماركس بـ«تكديس لامتناهي يقود إلى سقوط الرأسمالية ومصادرة رأس المال) . أما في حالة فرض ضريبة ذكية فهي تقود إإلى معالجة النقاط الـ ٤ السابقة من دون الاضرار بالأقلية الرأسمالية.
ماكرون ومعه النظام النيوليبرالي لا يرى أن الأقلية لا تريد التلذذ بأموالها المكدسة وهو يحلم بـأن «يتساقط مردود أرباح الأغنياء» (premiers des cordées) على الشرائح الفقيرة، ولكي تستطيع الشريجة العليا «إسقاط بعض الفتات» عليها أن تربح وترفع رساميلها … ولكنها بعكس تمنيات ماكرون فهي …تكدس ولا تريد التلذذ بأموالها رغم تسارع الزمن.
قد يساعد ماكرون أصحاب السترات الصفراء على فهم ضرورة الالتفات إلى أهداف التكديس.