اليوم الـ٨٠ بعد المئة على بدء ثورة الكرامة (لبنان ينتفض)
بقلم حنا صالح
لمن يتذكر اليوم 13 نيسان. مرّ على هذا التاريخ 45 سنة، تحول فيها البلد إلى حقل تجارب، حروب بين الطوائف اللبنانية(..)، وحروب دول المنطقة باللبنانيين طيلة 15 سنة، ما أهرق دماء 150 ألفاً وخلّف عشرات ألوف الجرحى والمعوقين، ونحو 20 ألفاً من المخطوفين لم يعرف عن مصيرهم أي شيء بعد! ومنذ ذلك التاريخ تحول بلد الأرز إلى ساحة، وورقة في ملف خدمة مصالح خارجية خصوصاً السورية والايرانية، وإلى مكان مخطوف، دولة مخطوفة لتبادل الرسائل الاقليمية، ودوماً بدماء اللبنانيين وعلى حساب أمنهم واستقرارهم ولقمة خبزهم!
15 سنة من الحرب التي مرت في كل المدن والبلدات والقرى، جرى خلالها نشر السواد وزرع الخوف وأقام القلق، وبعدها 30 سنة كانت سلماً أهلياً ناقصاً، عندما وفّر قانون العفو عن جرائم الحرب، الانتقال المريح لرموز الحرب من المتاريس إلى مقاعد الحكم، قانون ما كان ليكون لو لم تمليه الهيمنة السورية – الاحتلال الصريح، الذي خطط لإقامة طويلة، وهو من هندس تلك الوحدة بين أمراء الحرب والمال، ليتحول البلد إلى رصيف هجرة، طاردٍاً للشباب ولا سيما الخريجين الجدد والكفاءات.
على مدى 45 سنة، مر على لبنان 9 رؤساء جمهورية، و7 مجالس نيابية، ومنذ28 سنة لم تعرف الأجيال الجديدة رئيساً للبرلمان إلاّ الاستاذ نبيه بري، ومنذ 27 سنة لم يعرف المواطن “أمينا” لبيت المال إلاّ الحاكم رياض سلامة. تكررت الوجوه على مقاعد الحكم أو استنسخت، والثابت كان غياب الكفاءة وتقدم الرداءة وترسخ الاستزلام والتبعية. غاب الآباء عن مقاعد الحكم فتقدم الأبناء والأحفاد والفروع فالأصهرة. وتبلور تحالفاً طائفياً استند إلى كارتل مصرفي فاجر شارك مافيا الحكم ليحقق تجار السياسة والمال أرباحاً فلكية نتيجة سياسات رسمية كان التعبير عنها موازنات ومشاريع، رسمها وهندسها الحكم وبصمت عليها المجالس النيابية المتعاقبة، وبالرغم من تفجر الفضائح وبروز تناقضات ظرفية بين أهل نظام المحاصصة الطائفي، الذي حلّ واقعيا مكان الدستور والقوانين، لم يحاسب أي وزير ولم تطرح الثقة بأي حكومة، فكل شيء كان يسير تمام التمام! وتركزت الثروة في يد قلة لا تتجاوز 1 بالمئة!
هناك قول للرئيس سليم الحص: اتسعت الحريات وغابت الديموقرطية. المعنى ازداد الكلام والصراخ وغابت المساءلة والمحاسبة وجرى طمس الشفافية. وبقية القصة معروفة، تناوب على الاستثمار في الصراعات الطائفية وإثارة غرائز مذهبية للتمكن من تطويع مفاصل المجتمع عبر تكريس الكانتونات وإقامة جدران بين المناطق والناس، ليصبح الاهتراء شاملاً كل شيء عندما بات الفساد هو القاعدة، والهدر والزبائنية ومحاباة الأقارب والأنصار أولوية مطلقة. كل شيء كان مباحاً أمام استباحة منظومة المحاصصة الغنائمية، فتجاوز الدين العام نسبة 150% نسبة إلى الناتج الوطني، وتمت شيطنة القطاع العام الذي استُبيح بالأتباع على حساب المؤهلين والكفاءة، وتلقى التعليم الرسمي الطعنات، بعدما كان الثانوي قبلة الطلاب، وبدأ برنامج مدروس استهدف شل الجامعة اللبنانية لاستيلاد دكاكين تبرمجت وفق تقسيمات نظام المحاصصة ومصالح الأطراف الطائفية! وبعد كل هذه المآثر هل يعود مستغرباً إغراق البلاد بالنفايات واستباحة الأملاك البحرية والنهرية ومشاعات الدولة، واسئثار الدويلة بحصة كبرى من واردات الخزينة، من المرفأ والمطار ومن التهريب عبر 140 معبراً ومن الاقتصاد الموازي، ووصل البلد إلى الذروة في الكهرباء، وهذه الخدمة التي مضى على إيجادها أكثر من قرن، لكنها منذ عقود تنقطع عن بيوت اللبنانيين مع أن المسؤولين عنها اعتمدوا سياسات رتبت ديناً عاماً فاق 42 مليار دولار ويعادل 45% من الدين العام!
في 17 تشرين فاض الكأس، بدأت تتبلور ملامح الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، وكل هذه التراكمات تجمعت وأخرجت الناس إلى الساحات. لم يتقصد أحد كل ما حدث، موجوعون وحدهم الجوع قرروا بسلوكهم طي صفحات الانقسام وتوحدوا حول مصالحهم. الكل صوب تجاه المسؤول عن انتهاك كرامات الناس: نظام المحاصصة الطائفي ورموزه وهو يحمي الفساد والفاسدين، وبدأت منظومة الحكم بالتصدع، وبدأ الشارع يبلور البديل الذي يخرج لبنان من الحرب وتداعياتها التي استمرت 30 سنة: مرحلة انتقالية وحكومة مستقلة عن الأحزاب الطائفية تعيد الثقة للداخل والخارج وتحضر البلد لانتخابات مبكرة تعيد تكوين السلطة.
وبدا الصراع الحقيقي بين طبقة سياسية متهمة بالمسؤولية عن الانهيار وكل المنهبة التي عرفها البلد من جهة، ومن الجهة الأخرى وقف كل المواطنين الذين أدركوا استحالة تحقيق مطالبهم بدون تغيير سياسي حقيقي.
الانقلاب على مستوى منظومة الحكم وإخراج البعض من جنة المحاصصة أريد منه ذر الرماد في العيون لمتابعة المنحى إياه من خلال حكومة الأقنعة التي لم يكن الرهان قليلاً أنها أداة خداع وغش لعامة الناس. ولقد بدا واضحاً أن الفريق الذي استأثر بالقرار، ماضٍ في نفس الطريقة، متسلحاً هذه الأيام بالجائحة لتمرير أخطر السياسات التي تطال الحريات والحياة والعدالة.
بعد اعلان إفلاس الدولة في 9 أذار ( تاريخ التخلف عن دفع سندات الدين) وانكشاف السطو على جني أعمار الناس، تم مؤخراً تسريب ما أسمي “برنامج الانقاذ” وبدأ الصراع حول عنوان “الهيركات”، والأموال ليست موجودة إلاّ دفترياً فقط، وجرى صرف الاهتمام عن أولوية استعادة ما نهب، وأولوية استعادة واردات الدولة، وأولوية حماية الفئات الشعبية الأكثر فقراً بعد رمي مئات الوف العائلات إلى الجوع! لا “هيركات” ولا من يحزنون، بل مضي في سياسات اقتصادية واجتماعية ستفاقم من حجم التوترات التي قد تتفجر صراعات واسعة، لأن كل ما يلوح به إصرار على تحميل الفئات المتوسطة والفقيرة ثمن الكارثة، وإعفاء المرتكبين الذين تشاركوا في تهريب الأموال إلى الخارج.
ولعل أخطر ما تبشر به سياساتهم يكمن في خطر الذهاب إلى بيع الدولة، مطاراً ومرفأ وخليوي وأملاك إلخ.. وهذه ملك لكل المواطنين وإذا ما بيعت لن يتمكن البلد من العودة مطلقاً إلى سكة النهوض!
في هذه اللحظة المفصلية على ثورة تشرين ، أمل البلد وأهله، أن تستعيد دورها بداية عبر سلاح الموقف، وتالياً من خلال كل أشكال التنسيق الممكنة والفعل على الأرض كالتظاهرات السيارة مثلاً، من أجل إعادة الصراع إلى قواعده الصحيحة. والسؤال الملح هو متى وكيف يكون الخروج من المراوحة والانتظار، فالفريق الطائفي من خلال حكومة الدمى يسعى لاستكمال انقلاب بالغ الخطورة لجهة ما سيرتبه من أكلاف وأثمان!
كلن يعني كلن، وأبداً ليس نصفهم:
حنا صالح