الصمت الإسرائيلي عن “اليوم التالي”: إذا لم نبادر سيُفرض علينا
ضباب المعركة آخذ في التبدد من على شمال القطاع، في الوقت الذي يكمل فيه الجيش الإسرائيلي سيطرته على المنطقة وتفكيك الأطر القتالية لـ”حماس”. لكن في هذا الإيضاح تنكشف الفجوة التي بين هدف الحرب الطموح، لكن الواقعي – تفكيك “حماس” كقوة عسكرية وسلطوية – وبين الإنجاز العملياتي المبهر الذي حققه الجيش الإسرائيلي حتى الآن وسيحققه. هذه الفجوة يمكن أن تغلق فقط بفعل سياسي.
يقاتل الجيش الإسرائيلي في غزة في طابقين، مثلما أجاد في التعبير زميلي ومعلمي رون بن يشاي: يسيطر على الطابق الذي فوق الأرض ويدمر ببطء وبمنهجية الطابق الذي تحت الأرض. لكن إذا لم يُبن عليهما أيضاً طابق سياسي، فكل الإنجاز والمبنى سينهاران.
بدلاً من البدء بعرض مبنى الحكم الذي سيحل محل “حماس” فيزاد بذلك الضغط عليها، يهرب المستوى السياسي من كل انشغال في مسألة “اليوم التالي”. وإلى الفراغ تدخل اقتراحات سيئة من مصر ومن قطر ستبقي “حماس” كجهة مسيطرة في القطاع، سواء علناً أم تحت غطاء “حكومة خبراء”. إذا واصلت إسرائيل التخندق في صمتها ولم تعرض بديلاً، فإنها ستضطر في النهاية لأن تقبل بإملاء أميركي – عربي لإدارة غزة بعد الحرب.
من ناحية يحيى السنوار، فإن كل حالة إنهاء تنجو فيه “حماس” كقوة سياسية في غزة، ستشكل نصراً حتى لو لم ينجُ هو نفسه كي يراه. أما من ناحية إسرائيل، فإن كل حالة إنهاء لا تكون فيها جهة سلطوية في غزة تقاتل معنا ضد “حماس”، سيبدأ العد التنازلي نحو إعادة تسلح “حماس” بالمال القطري. الفوضى هي بالتأكيد ليست حلاً مثلما ثمة من يخطئون في التفكير، إذ في الفوضى ستنمو من جديد “حماس” – “داعش”، أو أسوأ من هذا – “داعش” نفسه.
قبيل الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب في شمال القطاع – الخروج من معظم المنطقة واجتياحات مركزة، يصر وزير الدفاع يوآف غالانت وعن حق على منع عودة سكان مدينة غزة وضواحيها إلى بيوتهم. 1.8 مليون لاجئ يتجمعون في جنوب القطاع هم أرض خصبة للاضطرابات التي ستتعاظم ضد “حماس” – ووسيلة ضغط أخرى على المنظمة.
صحيح أن الموافقة الإسرائيلية على السماح بتموين إنساني لجنوب القطاع تخفف الضغط قليلاً، لكن الشتاء الذي حل ومعه المطر والأمراض سيفعل فعله. مع كل انعدام الراحة التي يسببها التموين الإنساني لدولة العدو، يبدو أنه أكسب إسرائيل أيام قتال أخرى لتعميق الإنجاز العسكري في جنوب القطاع، وربما أيضاً إلى ما بعد كانون الثاني 2024.
تقدير زائد في الشمال
إنهاء المناورة المهمة في شمال القطاع سيسمح بتحرير قسم من رجال الاحتياط، وبدء الاستعدادات للتحدي التالي الذي يوجد على أعتابنا في لبنان. هناك، بعد نحو ثلاثة أشهر من القتال، تعلمت إسرائيل الكثير عن “حزب الله” الذي لم نحتك به منذ سنوات، و”حزب الله” هو الآخر تعلم غير قليل عن نفسه. إذا ما أجملنا أشهر الحرب الثلاثة الأولى، يمكن القول: إنه مثلما عانينا من تقدير ناقص لـ”حماس” وقدراتها، هكذا أيضاً منحنا “حزب الله” تقديراً زائداً.
دون التقليل – لا سمح الله – من القدرات الإستراتيجية المهمة التي لدى “حزب الله”، فقد كشفت الأشهر الأخيرة أيضاً غير قليل من مواضع ضعفه. قدرات مضادات الدروع لديه ـقل تأثير مما قدروا في إسرائيل، وكذا ناره الصاروخية دقيقة أقل مما اعتقدنا، وكذا قدرات مضادات الطائرات تنكشف كمصدر تنغيص يتصدى له سلاح الجو جيداً.
يمكن الافتراض أن نصر الله هو الآخر فوجئ من مواضع الضعف التي انكشفت في قدراته، وهذا يدخل في منظومة اعتباراته العملياتية. هذا الأسبوع تلقى ضربات أليمة: تصفية الجنرال الإيراني رضي موسوي في دمشق وهجوم إسرائيلي في بنت جبيل أيضاً، لأول مرة منذ 17 سنة. رده، حتى الآن، كان إطلاق مسيّرات إلى الكريات وخليج حيفا.
لعله توجد هنا إشارة إلى الاتجاه الذي سيأخذه “حزب الله” حين تحل لحظات الحسم في غزة: فهل سيتوجه إلى التصعيد مع إسرائيل أو سيسعى إلى الاتفاق؟ في الجيش الإسرائيلي فوجئوا عندما لم يستغل “حزب الله” أيام الهدنة في تشرين الثاني كي يعود إلى المواقع المجاورة للحدود، وبقي مع قوات الرضوان في سفح خلفي وعلى مسافة آمنة.
لقد استغلت إسرائيل أشهر الحرب وحقيقة أن عشرات الآلاف من رجال شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” مجندون، لتعميق جمع المعلومات في كل الجبهات. ليست كل مقدرات الاستخبارات وجهت إلى غزة. خبراء لبنان من شعبة الاستخبارات واصلوا الانشغال بلبنان، خبراء إيران بإيران، وحتى حيال اليمن بدأ انشغال ذو مغزى. لقد تبين أن اللغة الأقرب للحوثية هي العربية البدوية، وحيالهم أيضاً يبدأ بالتطور اختصاص. وزير الدفاع ألمح هذا الأسبوع أن إسرائيل عملت منذ الآن أيضاً في إيران وفي العراق.
لكن يجب الحذر من الرضا ومن الاعتداد بالنفس جراء نتائج المواجهة مع “حزب الله” حتى الآن. من المهم أن نتذكر أن “حزب الله” هو الآخر منظمة تتعلم وهو أيضاً يستخلص الدروس ويتحسن من الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي. عندما ننهي المناورة في غزة ونبدأ ببناء القوة قبيل مواجهة محتملة في الشمال، يجب الافتراض أننا سنلتقي هناك “حزب الله” هو الآخر استغل الزمن لتعزيز قوته حيال الجيش الإسرائيلي وللعثور على نقاط الضعف لدينا.
المشكلة الأساس في الشمال هي أن الطرفين، إسرائيل و”حزب الله” مقتنعان تماماً بأن الطرف الآخر لا يريد الحرب. هذه وصفة يمكنها أن تؤدي إلى أخطاء في تقدير رد فعل الطرف الآخر. يحتمل أن حرباً في لبنان هي أمر محتم ودونها لن نتمكن من إعادة السكان، لكن يجدر بنا إذا ما دخلنا إلى مثل هذه المعركة أن يكون هذا انطلاقاً من اختيار واع للتوقيت وللطريق، وليس كنتيجة لحساب مغلوط لنوايا الخصم.
عن “معاريف”