إســرائــيـــل فــي فــخـــهــــا الإســـتــراتــيــجـــي الــعــمــيـــــق
بقلم: عاموس هرئيل*
لحظة الحقيقة، ستأتي في الحرب كما يبدو خلال بضعة أسابيع. الجيش الاسرائيلي سيستكمل عمليته الهجومية في رفح تحت قيود أميركية، وهو بعيد عن هزيمة حماس المطلقة، وسيرغب في الإعلان عن النهاية. الجنرالات سيأتون الى رئيس الحكومة نتنياهو وسيطلبون مساعدته في الحصول على وضوح إستراتيجي. هم سيوصون بإنهاء المعركة في قطاع غزة في إطارها الحالي. في الجيش سيعرضون تقليص حجم القوات، المحدود أصلاً، التي تعمل في محور فيلادلفيا على الحدود المصرية وفي الممر الآخر في وسط القطاع والتركيز على مداهمات لأهداف أخرى لحماس، ومرة اخرى إعطاء الفرصة لعمليات أخرى.
هذه الخطوات يمكن أن تشمل محاولة لإعادة تحريك الاتصالات حول صفقة تبادل ووقف النار في القطاع. واذا نجح ذلك، الاحتمالات لا تبدو كبيرة في هذه الاثناء، فإنه سيكون بالامكان استغلال الوقت من اجل فترة تنشيط للمقاتلين، وخلال ذلك ستجرى محاولة اميركية اخيرة لعقد اتفاق سياسي في لبنان يهدف الى ابعاد قوات حزب الله عن الحدود الاسرائيلية. في ظل غياب ذلك ستجرى استعدادات لإمكانية اندلاع حرب شاملة في الشمال. وفي نفس الوقت ستبدأ عملية منظمة لبناء قوة وطنية، استثمار كثيف في تحسين قدرات الجيش واستعداد الجبهة الداخلية لحالة ستتحقق فيها التنبؤات القاسية وتجد اسرائيل نفسها في المستقبل امام مواجهة متعددة الساحات واكبر وبقيادة اسرائيل.
في نهاية الاسبوع الماضي تم إحصاء 11 قتيلاً للجيش الاسرائيلي في القطاع، من بينهم 8 من جنود الهندسة الذين قتلوا في انفجار ناقلة الجنود المدرعة من نوع “النمر” في رفح. لكن عدد الخسائر في يومين هو مؤشر مضلل حول حجم وقوة القتال. عملياً، يبدو أن حماس سحبت جزءاً كبيراً من قواتها من المدينة.
في الجيش الاسرائيلي قدروا في هذا الاسبوع أن قتلى حماس في معارك رفح بحوالي 550 قتيلاً. كثيرون آخرون تركوا وانتقلوا الى الشمال، وهم من شأنهم أن يشكلوا لحماس قوة احتياط ستعيد فرض السيطرة في القطاع بعد انسحاب إسرائيل. آجلاً أم عاجلاً حماس ستضطر الى مواجهة غضب جزء من السكان على ما فعلته اسرائيل بسببها في القطاع. ومن اجل ذلك هي بحاجة الى فرض السيطرة المسلحة بقوة الذراع.
المسلحون القلائل نسبياً الذين بقوا في رفح ينفذون هجمات محددة هدفها قتل جنود إسرائيليين. بالأساس هم يهتمون بتوثيق ذلك بأفلام الفيديو التي يتم نشرها في وسائل الاعلام العربية وفي الشبكات الاجتماعية. ومقارنة مع المعارك في شمال القطاع في بداية الحرب فان قوة القتال في رفح محدودة.
في “صوت الجيش” نشر في هذا الأسبوع تقدير متفائل لقيادة المنطقة الجنوبية يقول إن 14 ألف مخرب من حماس، من بين قوة تبلغ 30 ألف شخص، قتلوا في المعارك. نصف الـ 24 قائد كتيبة لم يعودوا موجودين. منظومة القيادة والسيطرة تضررت بشكل كبير، وقد بقي لحماس بضع مئات من الصواريخ بمدى متوسط التي يمكنها ضرب غوش دان ومنطقة اسدود. ويضاف الى ذلك تنبؤ متفائل اكثر يقول بأنه في شمال القطاع اذا استمر ضرب حماس فربما تنضج الظروف فيما بعد لخلق جسم سلطوي بديل.
بخصوص قضية المخطوفين لا توجد للجيش في هذه الاثناء أي بشائر مشجعة. النجاح المثير للانطباع في عملية التحرير الاخيرة، انقاذ اربعة مخطوفين على قيد الحياة في مخيم النصيرات قبل اسبوعين، هو بمثابة الامر الشاذ عن القاعدة، الذي يدل على القاعدة. في افضل الحالات ستتهيأ فرص لعمليات انقاذ معدودة اخرى، وهذه ستنطوي على مخاطرة كبيرة ولن تؤدي الى تحرير عدد كبير من المخطوفين. صحيفة “وول ستريت جورنال” نشرت أمس بأنه فقط 50 من بين الـ 120 مخطوفاً الذين بقوا في القطاع ما زالوا على قيد الحياة. وحسب الاحصاء الرسمي فان العدد أكبر من ذلك.
وسائل الإعلام في اسرائيل تقريباً لم تتطرق للمخطوفين في هذا الاسبوع. والمظاهرات من اجل انقاذهم لا تنجح في جر جمهور واسع. الولايات المتحدة القت المسؤولية عن تجميد المحادثات على حماس التي رفضت عرض اميركا – اسرائيل الاخير. في هذه الظروف لا توجد أي وسيلة ضغط حقيقية على الحكومة لحثها. الساخرون سيقولون إن مشكلة المخطوفين آخذة في التضاؤل والانكماش. في هذه الأثناء الائتلاف يمكنه التركيز على محاولة الدفع قدماً بقانون الوظائف لرجال الدين وشرعنة قانون تهرب الحريديين من الخدمة العسكرية.
في الشمال سجل في هذا الأسبوع يومان ونصف من التخفيف النسبي في هجمات حزب الله. هذا لم يحدث بفضل تصميم الجيش الاسرائيلي، بل بسبب قرار لبنان انزال القدم عن دواسة البنزين في عيد الأضحى. عمليات القصف تصاعدت مرة اخرى عند انتهاء العيد. الجيش الاسرائيلي يستمر في حملة الاغتيالات للقادة الميدانيين والشخصيات الرفيعة والاقل اهمية في حزب الله. في الخلفية تسمع تهديدات كثيرة متغطرسة من سياسيين وضباط حول قدرة اسرائيل على المس بالمنظمة الشيعية ودولة لبنان الفاشلة حوله.
رئيس حزب الله، حسن نصر الله، ألقى خطاباً هجومياً آخر، ربما الأكثر هجومية الذي أسمعه منذ بداية الحرب. مبدئياً حسن نصر الله تمسك برؤية الحزب كقوة مساعدة في الحرب الحالية: حماس تقود المعركة في حين أن حزب الله يهاجم في الشمال ويجعل اسرائيل تحتفظ بقوات كبيرة هناك، لكن الجيش الإسرائيلي لا ينتقل الى مرحلة الهجوم البري. هو ايضا هدد بالمس بقبرص التي حسب رأيه تنوي السماح لسلاح الجو الاسرائيلي بالانطلاق للهجوم من اراضيها في حالة حدوث حرب شاملة. ولكن الاكثر اهمية هو ما يختفي بين السطور: حسن نصر الله كما يبدو يتشكك في أن توجُّه اسرائيل هو نحو الحرب الشاملة، وهو يقوم باعداد حزبه لهذه الاحتمالية.
خلال الاسبوع قام عاموس هوخشتاين، المبعوث الاميركي، برحلات مكوكية بين بيروت والقدس. وقد نشر بأنه نقل رسائل تهديد من اسرائيل الى لبنان. وحزب الله رد بإشارات خاصة به. الحزب قام بنشر صور لمسيرة تابعة له من ميناء حيفا ظهرت فيها سفن سلاح البحرية التي ترسو في قاعدة السلاح وكأنها في استعراض، وكأنها لا تتعرض لخطر الهجوم من الشمال.
في صورة الوضع الأساسية لم يحدث مؤخراً أي تغير حقيقي في الجبهتين. الحكومة والجيش لا ينجحان في النجاة من الشرك الاستراتيجي العميق الذي دخلنا اليه منذ 7 تشرين الاول. لا يمكن رؤية في الأفق أي موعد هدف، سواء اعادة المخطوفين أو انهيار حماس (الهدف المستحيل تحققه تقريباً) أو عودة سكان المنطقة الشمالية الى بيوتهم.
تحدث، يا هرتسي
نتنياهو الذي يعرف موقف الجيش لا يميل الى الاستجابة له. هو يستمر في الإعلان بأن الحرب الضروس ضد حماس ستستمر بقدر ما يحتاج الأمر. رئيس الحكومة عاد لنثر الوعود عن النصر المطلق على مؤيديه (رغم التسويق الحثيث للرسالة في القناة 14، القبعات التي يرفرف عليها هذا الشعار لا تغرق وبحق الشوارع). عملياً، توجد هنا حرب خالدة اكثر من النصر المطلق. هدف نتنياهو الاسمى هو البقاء. اجتياز دورة الكنيست الصيفية والانتظار على أمل فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية للرئاسة في تشرين الثاني القادم. هذا افضل بالنسبة له من البديل، وقف دائم لإطلاق النار في القطاع (مع صفقة تبادل) واعتراف فعلي بالفشل في تحقيق أهداف الحرب، وتقريباً بصورة مؤكدة ايضا انسحاب أحزاب اليمين المتطرف من الائتلاف وانهيار الحكومة. بسبب أن البقاء السياسي هو الهدف الأسمى فإنه ستقل أهمية تداعيات أخرى متوقعة نتيجة ادارة حرب بدون نهاية: عبء متزايد على الجنود النظاميين والاحتياط، أزمة متفاقمة مع الإدارة الأميركية والمس بالشرعية الدولية للعمليات الإسرائيلية.
بدون الاستخفاف بالروح القتالية واخلاص المقاتلين والقادة في الميدان فانهم في هيئة الاركان يدركون الحاجة الى اجراء تغيير في استراتيجية اسرائيل. عندما يتم نشر الامور على الملأ – العنوان الرئيس في “هآرتس” في يوم الثلاثاء الماضي، وفي مقابلة مع المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، دانييل هغاري في “أخبار 13” في اليوم التالي (تدمير حماس هو ببساطة ذر للرماد في العيون) – فإنه يتم الرد عليها بهجوم بيبي مضاد. احد الأبواق الرائدة حتى تم إرساله لاتهام رئيس الأركان، هرتسي هليفي، بأنه يطمح الى الإبقاء على سلطة حماس.
منذ منتصف الأسبوع فان مكتب رئيس الحكومة والمتحدث بلسان الجيش الاسرائيلي يتناوشون فيما بينهم بواسطة البيانات الرسمية باسلوب سلبي – عدائي. هذا الامر يخدم بيبي مرتين. المرة الاولى، كل عملية تنس طاولة كهذه تحرف النقاش عن الفشل المزدوج الذي حدث تحت مسؤوليته – المذبحة في 7 تشرين الاول والادارة الفاشلة للحرب. الثانية، هو يقدم دفعاً كاملاً بالغيبة لعدم تحقيق اسرائيل لاهداف الحرب التي وضعها هو نفسه. دائما هناك شخص آخر لاتهامه: الجيش، المتظاهرون، اليساريون الذين يحصلون كما يبدو على التمويل الاجنبي (كما قال في هذا الأسبوع في احتفال الذكرى لقتلى سفينة التلينا)، الرئيس الاميركي.
هليفي ما زال رسمياً، عقلانياً، حذراً من الانجرار للعاطفة ويفقد الصبر بالتدريج. هو يعطي هامش مناورة للمتحدث باسمه، واحياناً ينجر هو نفسه لتبادل اقوال قاسية مع سياسيين. في هذا الأسبوع تم تسريب مواجهات له من جلسات الكابنيت مع وزراء اليمين المتطرف، بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير.
نغمة رئيس الاركان كانت لادغة، وتضمنت ملاحظات حول غياب التجربة العسكرية (بن غفير تم استبعاده من الخدمة العسكرية بسبب نشاطاته كفتى في حركة كهانا. سموتريتش خدم في وقت متأخر فترة قصيرة). رئيس الاركان يذهب حتى النهاية، لكن مرؤوسيه هناك كانوا يريدون رؤيته اكثر جرأة. الاوقات الصعبة تقتضي اقوالاً فظة: قُم بعرض آلية انتهاء في رفح، طالب بالتقدم نحو صفقة التبادل، قم بتنسيق التوقعات مع الجمهور بخصوص ما ينتظرنا في الجبهة الداخلية اذا اندلعت حرب شاملة في الشمال. تحدث، يا هرتسي، تحدث.
في يوم واحد، هذا الأسبوع، وفي رحلات بين الجنوب ومقر وزارة الدفاع والشمال التقى رئيس الأركان مع آباء المجندات المخطوفات ومع سكان كيبوتس نير عوز الصغير، الذي قتل حوالى ربع سكانه أو تم اختطافهم الى القطاع في 7 تشرين الأول، قبل وصول قوات الجيش الإسرائيلي اليه في الثانية ظهرا، ولم يطلق حتى أي رصاصة. المحادثات كانت مشحونة وصعبة، أحد سكان الكيبوتس القدامى تحدث عن الساعات الطويلة التي اختبأ فيها في الغرفة الآمنة، حيث كان المخربون هائجين ويذبحون في الخارج، الأمر الذي ذكره بقصص والدته عن الكارثة. زوجة احد المخطوفين أجرت مقارنة مع حرب يوم الغفران وقالت: “زوجي الذي كان جنديا في الاحتياط استغرقه وقت أقل للوصول من النقب الغربي الى المعارك في شبه جزيرة سيناء في ظهيرة يوم السبت من الوقت الذي استغرق قوات الجيش الإسرائيلي للوصول الى الكيبوتس، رغم المواقع والمعسكرات التي توجد في محيطه“.
وعد هليفي بالبدء في استكمال التحقيقات العسكرية حول الحرب وعرض الاستنتاجات على الجمهور في بداية شهر تموز (تحقيق المذبحة في كيبوتس بئيري سيتم استكماله في الأسبوع الثاني في الشهر). لقد حلقت فوق هذه اللقاءات مشكلة المخطوفين. 35 من سكان الكيبوتس ما زالوا محتجزين في القطاع، 22 من بينهم يبدو أنهم ما زالوا على قيد الحياة. وبدون إعادتهم فان الجرح في العلاقات بين سكان بلدات الغلاف، وكل الجمهور، وبين الجيش والدولة لم يبدأ حتى في الالتئام.
* عن “هآرتس“