الحرب الإقليمية بدأت تنضج.. (هآرتس)
عندما عُين عباس عراقجي، الشهر الماضي، وزيراً للخارجية، وتلقى جواد ظريف منصب نائب الرئيس كان يبدو أن الحكم الجديد في إيران برئاسة مسعود بزشكيان يعتزم شق طريقه نحو المصالحة مع الغرب. فقد كان عراقجي وظريف من مهندسي الاتفاق النووي، الذي وقع في العام 2015 تحت حكم الرئيس حسن روحاني. كلاهما يعرفان جيداً الغرب ونظراءهم الأميركيين الذين أداروا المفاوضات. عراقجي نفسه بدأ جولة محادثات مع نظرائه في دول أوروبا؛ كي يفحص السبل للدفع قدماً باتفاق جديد، ونثر بزشكيان تصريحات تفيد بأن ايران لا ترى مانعاً من إدارة مفاوضات مع الغرب حين تكون مسنودة بتأييد الزعيم الأعلى، علي خامنئي. وحتى أمين عام اللجنة الدولية للطاقة النووية، رفائيل غروسي، قال إنه يلاحظ النوايا الجدية لدى إيران.
غير أن عراقجي عني في الأسبوع الماضي وفي هذا الأسبوع بعدة أمور عاجلة، وكما يبدو فإن مسألة النووي تم تأجيلها حالياً. يوم الجمعة الماضي سافر الى بيروت، وبعد يوم من ذلك وصل الى دمشق؛ كي يلتقي الرئيس الأسد، ثم هبط في الرياض والتقى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، كي يبحث معه «التطورات في المنطقة» على حد تعبير البيان الرسمي.
تملأ سيناريوهات هجوم الرد الإسرائيلي وسائل الإعلام في إيران، مثلما في الدول العربية والغربية بعامة. وهي تتراوح بين هجوم على حقول النفط ومنشآت التنقيب والتصفية، عبر قصف بنى تحتية مدنية، وحتى ضرب المواقع النووية. مثلها أيضا التحذيرات والتهديدات من كبار مسؤولين إيرانيين ليس فقط تجاه إسرائيل بل أيضاً تجاه كل دولة تتيح لإسرائيل و/ أو الولايات المتحدة استخدام أراضيها ومجالها الجوي لمهاجمة ايران. يستند تقرير «رويترز» الى مصادر إيرانية رفيعة المستوى، ويروي أن ايران حذرت جيرانها في الخليج من أن تعاون دولة واحدة مع الهجوم الإسرائيلي سيعتبر تعاوناً من كل مجموعة الدول، وسيكون الرد متناسباً مع ذلك.
في كل واحدة من دول الخليج – من السعودية والإمارات وحتى قطر والبحرين – ترابط قوات أميركية، لكن ليس فقط ستكون قواعدهم أهدافاً لهجوم إيراني أو من جانب مليشيات مؤيدة لإيران تعمل في العراق وفي سورية. في السيناريو الأكثر تهديداً، فان موانئ النفط والغاز ومنشآت التصفية في دول الخليج قد تعلق في خط النار، ومثلها كل حركة الملاحة المدنية في الخليج الفارسي.
نحو 30 في المئة من عموم النفط الخام في العالم ونحو 20 في المئة من منتجات النفط تمر عبر الخليج. لقد سبق للسعودية أن شهدت في العام 2019 آثار هجمة حوثية دقيقة على منشآتها النفطية، التي عطلت نصف انتاج النفط لشركة «أرامكو» الكبرى. ايران التي تنتج نحو 2.5 مليون برميل نفط في اليوم وإن كانت ستتعرض لضربة جسيمة، لكن بحد ذاتها ضربة لصناعة النفط لديها ستؤثر أساسا على السوق المحلية وعلى تصدير النفط الى الصين. فالصينيون يشترون بالمتوسط نحو 1.4 مليون برميل نفط في اليوم من ايران، اقل 10 في المئة من عموم استيراد النفط اليومي لديهم. كمية كهذه يمكن للصين أن تحصل عليها من مصادر أخرى، وإن بسعر اعلى، وذلك لأن إيران تبيعها النفط بتنزيلات واضحة. لكن «حرب النفط» التي ستتطور في الخليج هي قصة أخرى تماما، آثارها يصعب تصورها. عندما يكون الرئيس بايدن «لا يوصي» إسرائيل بمهاجمة منشآت النفط الإيرانية فان هذا هو الخوف الأكبر الذي يقف امام ناظره.
«التهديد باندلاع حرب نفط يوضح كم أن دول المنطقة – ليست وحدها فقط، بل الولايات المتحدة أيضا- لا توجد لها استراتيجية واحدة للتصدي لنتائجها؛ بخاصة حين لا يكون واضحا اذا كان بايدن نجح في اقناع بنيامين نتنياهو بالامتناع عن هجوم على موانئ نفط ومنشآت تصفية في إيران رغم الأهمية الهائلة التي يوليها بايدن لمنع حرب كهذه قبل ربع ساعة من الانتخابات في الولايات المتحدة. وهذا ليس المجال الوحيد الذي تشهد فيه سنة الحرب على أن واشنطن ليس لها استراتيجية إقليمية، لقوة عظمى، أو أن استراتيجيتها تبقى على الورق بمثابة أمنية.
هكذا مثلا تبخرت المبادرة الأميركية لاعادة السلطة الفلسطينية لإدارة المنظومة المدنية في غزة. لقد بات من الصعب أن نتذكر، لكن في تشرين الثاني رسم بايدن منحى سياسيا لـ «اليوم التالي»، وبموجبه تجتاز السلطة الفلسطينية سلسلة إصلاحات تصبح بعدها الجهة المناسبة للحلول محل «حماس» لإدارة القطاع. هذه الخطوة خطط لها لتكون مرحلة جوهرية قبيل تطبيق حل الدولتين، والدفع قدما بالتطبيع بين إسرائيل والسعودية، وبالتوازي إقامة حلف دفاع إقليمي ضد ايران.
هذه الخطوات كان يمكنها أن تعيد رسم خارطة الشرق الأوسط، لكن أمراً منها لم يحصل. السعودية، التي كانت عشية الحرب مستعدة للتوقيع على اتفاق مع إسرائيل والاكتفاء بمنحى تكون فيه «حياة الفلسطينيين اكثر راحة»، على حد تعبير ابن سلمان، تراجعت. والآن هي تعرض إقامة دولة فلسطينية كشرط مسبق لكل اتفاق مع إسرائيل. اضطرت الإدارة الأميركية لتتراجع وتسحب فكرة عودة السلطة الفلسطينية الى غزة. فضلا عن ذلك، فهمت أنه رغم المساعدة الهائلة بالمال، وبالسلاح، وبالذخيرة، وبالإسناد السياسي، لا يمكنها أن تتوقع أن تخفف حليفتها من حدة مواقفها في مواضيع مهمة جدا للولايات المتحدة، وبرأيها تخدم المصلحة الإسرائيلية أيضا.
ليس فقط في مواضيع ذات أهمية استراتيجية عليا اصطدمت واشنطن بسور منيع. فالجهود الأميركية لتفعيل منظومة ناجعة وناجحة لتوريد المساعدات الإنسانية في غزة لا تزال لا ترتقي (مهزلة إقامة الميناء العائم المؤقت لا تزال تدوي)، وحجم المساعدة التي تدخل اليوم يشبه الذي كان في كانون الثاني. والجهود لإعادة فتح معبر رفح وإيجاد حل متفق عليه للسيطرة على محور فيلادلفيا فشلت. وفي هذه اللحظة يبدو أن إسرائيل تستعد لتتسلم إدارة توزيع المساعدات وعمليا السيطرة على المنظومة المدنية في القطاع، الخطوة التي معناها احتلال إسرائيلي مباشر وطويل السنين دون خطة خروج.
تلقى بايدن صفعة رنانة من نتنياهو مرة تلو الأخرى في كل ما يتعلق بصفقة المخطوفين أيضا. أوضحت حركة التفاف على الموافقات التي سبق أن تحققت وتصريحات نتنياهو المتضاربة لبايدن بأن ليس فقط «حماس» هي التي تعرقل المفاوضات، بل في إسرائيل أيضا لا يوجد شريك يتطلع حقا لإعادة المخطوفين. شتائم بايدن على نتنياهو، والتي تقتبس في كتاب بوب ودورد الجديد، وان كانت تشهد -ليس للمرة الأولى- على العلاقات المسمومة بين الزعيمين، لكنها تعرض في الوقت ذاته بايدن كمن لا ينجح في تحقيق سياسته.
القوة العظمى الكبرى والاقوى في العالم تتصرف كقوة تكتيكية حتى في ردود افعالها على هجمات الحوثيين التي تواصل الحاق ضرر هائل بالاقتصاد العالمي. سياسة «اقتطاع القدرات»، الاصطلاح الذي تبناه الجيش الإسرائيلي كي يشرح منطق عملياته ضد «حزب الله» و»حماس» مأخوذ من القاموس العسكري الذي حدد اهداف الهجمات ضد الحوثيين. فبعد الهجمة الأميركية المهمة في كانون الثاني شرح وزير الدفاع، لويد اوستن، بأن «هذا العمل يستهدف تشويش واقتطاع قدرات الحوثيين على تعريض مستخدمي البحر الأحمر والتجارة العالمية في احد المسارات البحرية الأهم للخطر». لم ينفعل الحوثيون لحديثه حقا، ومثلهم أيضا مصر، السعودية، والأردن. فقد تعرضوا للضرر، لكنهم قرروا ألا ينضموا الى التحالف الدولي الذي يعمل في البحر الأحمر. يبدو أنه في جدول المخاطر والاحتمالات لديهم فان التهديد الحوثي والإيراني يغطي على تقديرهم بشأن قدرة الولايات المتحدة على الوقوف الى جانبهم.
بعد سنوات غابت فيها الإدارة الأميركية عن لبنان (مثلما غابت أيضا عن سورية)، التي اعتبرته معقلا هامشيا عديم الأهمية الاستراتيجية، باتت مطالبة بأن تتواجد في الساحة اللبنانية. وقد فعلت هذا دون خطة استراتيجية ودون روافع ضغط كافية يمكنها أن تمنع التصعيد بين إسرائيل و»حزب الله»، وهكذا تجد نفسها تنجر وراء التطورات في لبنان. الحرب في لبنان تعد اليوم «حرب لا خيار» بعد أن اضطر عشرات آلاف المواطنين الإسرائيليين الى النزوح عن بيوتهم، لكن رغم تصفية قيادة «حزب الله» في عمليات استعراضية مبهرة فإن دائرة الضرر في إسرائيل آخذة في الاتساع.
مع أن الإدارة الأميركية غيرت نهجها، وعلى الأقل تصريحيا تقف الى جانب إسرائيل في الساحة الشمالية، لكن ما هي «خطة عملها» وكيف الوصول الى «نهاية اللعبة» كما يقول التعبير الأميركي؟ هل تطبيق قرار 1701 يكفي؟ هل يمكن للولايات المتحدة أن تجند وتدفع بقوة متعددة الجنسيات لتراقب بين الخط الأزرق والليطاني؟ هل ستوافق على عرض خطة اقتصادية مغرية لاعمار لبنان؟ هل سيوجد لها شركاء عرب أو غربيون؟ أم أن في لبنان سيطبق النموذج الغزي، أي الإسرائيلي.
إن كان هناك خطط احتياطية فإنها صيغت قبل ان تصبح المواجهة في الشمال جبهة قتال داخل أراضي لبنان، وقبل أن يصبح اكثر من مليون وربع مواطن لبناني نازحين، بعضهم في بلادهم وبعضهم في سورية وما وراءها. الآن باتت هذه هي الساحة الأخطر التي تشكل مدخلا لنشوب الحرب الإقليمية التي تقلق منها الولايات المتحدة دون أن تكون لديها استراتيجية كبح أو خطة مرتبة لإدارتها، فما بالك خطة لليوم التالي لها. في هذا المفترق الحرج، الذي يمكن وينبغي للولايات المتحدة أن تمارس فيه كامل ثقلها تشبه المراقب الذي يوصي ويشير ولكنه ينتظر ليرى كيف تتدحرج الأمور.