ضريبة الانتماء والجغرافيا
قرية عيترون … بعد مرور الهمجية الاسرائيلية
بقلم دكتورة نزيهه الامين
ماذا يعني، ان تكون من احدى القرى الحدودية في لبنان، ومن عائلة تنتمي الى بيئة المقاومة؟ وان يكون كل اخوتك ذكورا واناثا يسكنون قريتك الرابضة على حدود الدولة العبرية، او في الضاحية الجنوبية؟
معنى ذلك، وبعد فترة من بداية حرب الاسناد في 8 تشرين الاول 2023، ان يتعرض الساكنين منهم في القرية لهجرات متتالية من بيوتهم باتجاه قرى جنوبية اخرى، ابعد عن الحافة الامامية، ومنها كونين ومن ثم حاريص وكفردونين، وبعدها الى صيدا وبقعاتا الشوف وعين الدلب شرقي صيدا، وصولا الى الضاحية الجنوبية وقرى في عكار…
معنى ذلك، ان يتهجرجميع اخوتك،خلال ايلول الماضي عند اشتداد ضراوة الاعتداءات الاسرائيلية على الضاحية واستشهاد السيد حسن نصرالله ،من الاماكن التي لجأوا اليها بما فيها الضاحية الجنوبية وان تقضي الليل تسأل هاتفيا “وين صرتو خالتو ووين صرتو عمتو”…
معنى ذلك، ان يتحول بيت يعيش فيه شخصان، في عدد من الليالي، الى بيت يتسع لستين شخصا ترى في عيون اطفالهم القلق والخوف مما سمعوه او يسمعوه من اصوات تحدثها الالات القتل الاسرائيلية ، وترى في عيون الكبار منهم،والتي لا تفارق هواتفهم او شاشة التلفزيون، ترقب وتتبع لما يجري لا سيما هناك في الارض التي اوكل للشباب شرف حمايتها والدفاع عنها…
معنى ذلك، ان تتلقى بشكل شبه يومي خبر استشهاد عزيز او اكثر، وان يكتسح اللون الاسود لباس النساء والرجال في بيئتك حدادا على ابناء واخوه واحباء…
معنى ذلك، ان تغيب اختك الكبرى عن السمع، لتفجع بعد انتظار ساعات بانها استشهدت بعد غارة جوية قام بها العدو على المبنى الذي استأجرت شقة فيه في عين الدلب بعد اربع محطات تهجير، وقد رافقها في الرحيل صهرها الخلوق والمبدع والمربي مع ابنه الكشفي الي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر وابنته الزهرة البريه بعبقها ورقتها والتي لم تمض ايام على تذكيرنا بعيد ميلادها العاشر…وان تعرف بان من بقي من افراد تلك العائلة موزعين على مستشفيات عدة يعانون الالام والحزن على فقدان الام والزوج والاب والاخوة.
معنى ذلك، الا تستطيع دفن اختك حيث اوصت، ولا ان تدفن الشهداء في ثرى قريتهم، فهم توزعوا “وديعة”* في مدافن قرى جنوبية عدة وايطو في شمال لبنان والوردانية القرية الشوفية الوداعة التي فتحت ذرايعها لاستقبال المهجرين في منازلها، وشهداؤهم في “تربتها”.
معنى ذلك، ان تهرع الى قريتك في اولى ساعات وقف اطلاق النار، وقبل منعك لاحقا بانتظار انتهاء مهلة لستين يوما، لترى الدمار الذي حل بها واخذ بدربه الحي الذي تحب والذي يضم بيوت اخوتك واختك الكبرى و”دارة” الاهل وملتقى العائلة، مع كل ما يحمله من ذكريات بدءا باحتفالات التحرير مرورا بالجمعة العائلية في اخر افطار من شهر رمصان سنويا وصولا الى جمعات الاعياد والافراح…
معنى ذلك، ان ترى العدو قد جرف الياسمينة التي تزين مدخل الدار و”حاكورته” دون ان يترك فيها اثرا للعرايش ولشجرالاكيدنيا والرمان والحامض والافوكا والخرما والكريفون واليوسف افندي والتوت والتين والغار والزيتون واللوز التي دأب على زرعها والعناية بها كل من الجد والوالد والاخوه.
معنى كل ذلك، خسارتك للمكان الذي كنت تقصده لترتاح فيه، والحقول التي كنت تحتفل بالمشي الصباحي فيها واستقبال الشمس التي تظهر من خلف تلالها…
معنى ذلك،ايضا ان تخسر حتى قبور الام والاب والاخ التي خربها العدو في قصفه لجبانة القرية،كما فعل في اغلب القرى، واخذ معه كل ما اسريت لهم به من افراح وهموم عند زيارتك لقبورهم، وبالاخص تلك الزيارة التي قادتك من سن الفيل الى القرية لتزف للوالد تحقيق رغبة طالما كررها على مسمعك بضرورة حصولك على شهادة الدكتوراه…
معنى ذلك، ان يمنعك العدو حتى بعد انتهاء مدة الستين يوما من الوصول الى قريتك، حائلا بينك وبينها بساتر ترابي وانتشار لجنودة مدججين بكامل اسلحتهم ويدهم على الزناد…
معنى ذلك، اصرار لابناء الارض على العودة اليها من خلال تواعدهم اليومي عند ذلك الساتر رغم كل تهديدات العدو الذي يرفض الانسحاب موقعا المزيد من الشهداء والجرحى والدمار، ضاربا بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والاتفاقيات حتى وان ضمنتها الدول الكبرى…
معنى ذلك، ضريبة باهظة يدفعها اهل تلك الارض البعيدة حاليا، من حياتهم وارزاقهم وذكرياتهم واحلامهم، نتيجة انتماءهم من جهة ونتيجة واقعهم الجغرافي من ناحية احرى.
فهل سيظلون هم فقط من يدفع تلك الاثمان فيما ينقسم الباقون بين متضامن وناقد؟؟؟
نزيهه الامين
*نظرا لعدم تمكن اهالي قرى الشريط الحدوي من دفن شهدائهم في قراهم، دفنوا مؤقتا كوديعة في قرى اخرى على ان يصار الى دفنهم لاحقا في قراهم