مؤامرة ولكن…
لا يكفي الرد السوري على منتقدي جرائم نظام دمشق بحق شعبه، بأن هناك مؤامرة على سوريا لدعمها المقاومة في فلسطين ولبنان، ولمواقفها «الممانعة» تجاه املاءات الدول العظمى، فحجم المجازر التي ارتكبت منذ 15 آذار العام الماضي حتى الآن، يفوق كل ما يُحكى عن مؤامرات وخطط عدوانية غربية على عاصمة الأمويين ومن خلفها طهران، لا سيما أن ظلم ذوي القربى أشد إيلاماً. طبعاً لن نفتح في هذه العجالة ملفات المعتقلين والمفقودين والمظلومين منذ تسلم حزب البعث السلطة في العام 1963 حتى الآن.
فالحديث عن مؤامرة ليس جديداً في هذا الصدد، خصوصاً أن أنظمة الأحزاب الشمولية العربية في العصر الحديث، ومنها نظام البعثين في سوريا والعراق، استخدمت ذريعة المؤامرة كفزاعة في وجه أي محاولات للتحديث أو للتنمية أو الدعوات للانتقال من نموذج الحزب الواحد «القائد» الى التعددية الحزبية والديموقراطية. وفي الوقت نفسه كانت هذه الأنظمة تحيك المؤامرات في الدول الصغيرة المجاورة بالاشتراك مع الدول الغربية.
ولكي نبقى في سورياـ الأسد، لم تتوانَ دمشق أبداً عن حياكة مؤامرات بالاشتراك مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، في ما يتعلق بالعديد من الملفات، أبرزها لبنان، الذي دخلته القوات العسكرية السورية واستخباراتها وعاثت فيه فساداً ومؤامرات وصفقات مالية وأمنية لدرجة يندى لها الجبين.
المفارقة أن سوريا التي تتحدث عن مؤامرة تستهدفها منذ تسلم حزب البعث للسلطة، هي نفسها من حاك مؤامرة السيطرة على لبنان وتدجين تنظيماته واللعب على تناقضاته الطائفية، بالاشتراك مع الولايات المتحدة التي كانت تفضّل لاعباً اقليمياً قوياً يضبط الأوضاع على حدود فلسطين المحتلة لحماية أمن الكيان العبري.
وليس خافياً على أحد تآمر دمشق مع الغرب ضد الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت رأس الحربة في وجه المؤامرات الدولية الكبرى، والاستيعاض عنها كحركة يسارية غير طائفية تجمع كافة أطياف الشعب اللبناني بحركات طائفية ومذهبية تعزز الشرخ في الداخل لمصلحة سيطرة الاستخبارات السورية على مفاصل الحكم والأمن والاقتصاد في البلاد.
والمتابع لحركة السياسة السورية في لبنان فترة الثمانينات يعرف كيف كانت تتم تصفية شخصيات وإبادة تيارات أو شق أحزاب الى ملل ونحل وتلاعب بقيادات حزبية من هنا وهناك، من اقصى اليمين الى أقصى اليسار بمن فيهم التنظيمات والفصائل الفلسطينية التي تواجدت على الساحة اللبنانية منذ السبعينيات.
لقد كان دعم سورياـ حافظ الأسد واضحاً للتنظيمات اليمينية المسيحية المتطرفة على حساب الحركة الوطنية، بحجة حفظ التوازن الطائفي. سياسة اثبتت عقمها حين ارتمت هذه التنظيمات في حضن اسرائيل وتآمرت على لبنان وفلسطين وسوريا معاً.
من هنا كان دعم سوريا الواضح لحركة أمل كحركة مذهبية بإزاء أحزاب مذهبية وطائفية أخرى، على حساب الأحزاب العلمانية والقومية. والمفارقة أن دمشق التي تتغزّل اليوم بحزب الله ومقاومته غير المسبوقة على صعيد الصراع العربي ـ الإسرائيلي، هي أول من ارتكب مجزرة بحق عناصر هذا الحزب في ثكنة فتح الله في غرب بيروت عام 1987، يومها قال السيد حسن نصرالله (لم يكن اميناً عاماً للحزب بعد)، «سنبقى هنا، سنبقى في بيروت الغربية، سنبقى في الضاحية ولن يستطيع أحد أن يقتلعنا». ثم جاءت حرب الإخوة بين حركة أمل وحزب الله لتبين عمق التباينات بين طهران وسوريا وانعكاس هذه المؤامرة على المقاومة الاسلامية في لبنان بحكم تفوقها ووصولها إلى مراكز متقدمة على صعيد تحقيق مكاسب ميدانية غير مسبوقة ضد الاحتلال وعملائه. وكانت حواجز الجيش السوري واستخباراته تضايق عناصر حزب الله اثناء تنقلاتهم بين المناطق لا سيما بالقرب من منطقة الشريط الحدودي الذي كان محتلاً انذاك. ولم تتخذ سوريا قرار دعم المقاومة إلاّ بعدما شعرت أن حركة أمل حليف لا يمكن الاعتماد عليه، فجنحت الى السلم مع حزب الله بناءاً على تفاهمات مع طهران، وكانت تلك الاستراتيجية الجديدة في دعم المقاومة والتي أدت الى تحرير الجزء الأكبر من الجنوب اللبناني المحتل.
إلا أن هذه السياسة التي وإن كانت في الظاهر سياسة «ممانعة» فهذا لا يعني ان سوريا لم تكن هي المستفيد الأول من جراء التقاطها لورقة أساسية ومهمة هي ورقة حزب الله والتي دعمتها لاحقاً بورقة المقاومة الاسلامية الفلسطينية التي كانت بدورها تسطّر أروع الملاحم البطولية ضد الصهاينة في فلسطين المحتلة.
نعم قد يكون هناك مؤامرة دولية ضد سوريا لتحالفها مع ايران ولدعمها لقوى المقاومة (ولا استسيغ بتاتاً مصطلح الممانعة في هذا الاطار كونه يؤشر على ان الممانعة نهايتها الموافقة بعد اطراء واغراء). لكن ما هو حجم المؤامرة الدولية أمام المؤامرات التي حاكتها سوريا ضد الدول المجاورة بحجة حماية خاصرتها وجنبها وما الى ذلك؟ وما هو مدى استفادة المقاومة من سوريا امام ما حققته دمشق من مكاسب مادية ومعنوية على الصعيد الاستراتيجي الدولي؟
لقد ورطت دمشق المقاومة في لبنان بعلاقة مريبة مع نظام النيوليبرالية الحريرية تحت شعار «المقاومة والإعمار يداً بيد»، فكانت هي المستفيد من الطرفين الأول على الصعيد المعنوي من خلال ورقة القوة التي اضحت بيد الأسد، والآخر على الصعيد المادي الذي فتح مزاريب أموال الشعب اللبناني أمام ضباطه ومسؤوليه. وأوصلت هذه السياسة ـ المؤامرة لبنان الى حرب مذهبية دفع وما زال اللبنانيون يدفعون ثمنها.
كذلك دعم النظام السوري بكله (وليس فقط غازي كنعان او عبد الحليم خدام كما يزعم المدعون العفة من بقايا النظام)، كل زعماء لبنان من سارقي أموال الفقراء الى اقطاعيين قدامى وجدد ومجرمي حرب وفاسدين ومنتفعين على أبواب عنجر(مقر الاستخبارات السورية في لبنان) وقصر المهاجرين الرئاسي في دمشق، فكان وجوده في لبنان شرعياً من حيث الشكل الا ان ممارساته كانت تمثل الاحتلال بكل صوره.
ألم يسأل «الممانعون» أنفسهم، لماذا تحولت علاقات دمشق مع أنقرة نهاية التسعينيات من علاقة عداء وتنافر إلى علاقة صداقة وتعاون؟ ألم يذكر هؤلاء قائد حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان الذي باعته سوريا بثلاثين من الفضة. ومن قبله المناضل الأممي كارلوس، الذي طردته الى السودان حيث كانت الاستخبارات الفرنسية بانتظاره. وما سر خروج سوريا من عزلتها في العام 2008 بعد ثلاثة أعوام من المواجهة مع الغرب على خلفية اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري؟ ألم يكن القائد المناضل عماد مغنية ثمناً لهذا الانفتاح المفاجئ؟ لماذا لا يسأل المقاومون ومن خلفهم «الممانعون» أنفسهم حول الثمن المقبل لمؤامرات تحيكها دمشق مع عواصم العالم منذ تسلم «البعث» مقادير الأمور.
أهم من ذلك، كيف يمكن لنظام الأسد أن يتحدث عن مؤامرات خارجية وهو بسياسته الأمنية الإجرامية يشرّع الأبواب أمام تدخلات الفاسق والفاجر، ويعطي المسوّغات تلو الأخرى لتبلور مؤامرات على غرار مؤامرات حكمه السالفة.
هل الرد على المؤامرات الخارجية يكون بمصادرة أهم أهداف المقاومة، وأسمى غاياتها وهي حرية الانسان وكرامته وحقوقه؟ ألم يكن الأجدى الرد على المؤامرات وتهديد المسلحين والسلفيين وغيرها من «الفزّاعات» التي لا تمثل حقيقة مطالب الشعب السوري، بمزيد من الديموقراطية والانفتاح على الناس؟
بالفعل ظلم ذوي القربى أشد إيلاماً، وهو ما يدفع بعض السوريين للمطالبة بتدخل دولي لانقاذ الشعب من مجازر تحصل كل يوم بإسم صد المؤامرة وحماية «قلعة المقاومة». فتاريخ هذا النظام القمعي ضد خصومه لا يعطيه أبداً صك براءة مهما كانت درجة استخدامه لورقة المقاومة ومهما بلغ حجم ذريعته في التصدي لمؤامرات الخارج. لقد حفرت دمشق حفرة لأبنائها وبدأت هي نفسها بالانزلاق اليها.