“يمامة” التي تبحث عن مجهولين
تعيش وزوجها واطفالها في نابلس لكنها ليست فلسطينية. هي لبنانية. كلا، هي سورية. حسناً، الجواب ليس مؤكداً. فقد تكون فلسطينية مولودة في لبنان وقد لا تكون. لا تعرف شيئاً عن هويتها ولا عن اهلها. هنا بعض من قصة يمامة المستمرة في البحث عن اهلها… وعن نفسها.
أنا سماح. لا، لست سماح، فقد سُجلت بهذا الاسم عشوائياً لتمييزي عن باقي الأطفال. مديرة الملجأ هي التي اختارته اسماً لي. اسمي الحقيقي اليوم هو يمامة. لماذا يمامة؟ لا أدري. فكل ما أعرفه أن المرأة التي جاءت هي وزوجها إلى الملجأ وأخذاني رضيعة، أسمياني يمامة. قالت لي عندما كبرت، إنه لو قدّر لزوجها الإنجاب ورزقت منه بطفلة، كانت ستسميها يمامة. فهي تحب هذا الاسم.
لا أعرف ما هو عمري بالتمام. قد أكون بلغت الآن 24 عاماً وربما أكثر من ذلك أو أقل بقليل، لا يهم. فتاريخ ميلادي قد يكون بدأ في اللحظة التي أتى فيها رجل وزوجته إلى الملجأ وأخذاني معهما إلى بيتهما في نابلس. أفصحا لي أني كنت حينها طفلة في الشهر الرابع تقريباً، لكنهما لا يتذكران في أي شهر تسلماني من مديرة ملجأ الأطفال التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية. صراحة، لا يهمني تاريخ ميلادي، فكل الأوراق التي تقول اني ولدت هنا، في نابلس، مزورة. أمي ليست بأمي، وكذلك أبي ليس بأبي! أنا لا أعرف لشكل هويتي الحقيقية ولونها سبيلاً. من هما أمي وابي؟ من هم اخوتي؟ هل ابصرت النور في مستشفى أو في منزل على يد قابلة قانونية؟ هل أنا لبنانية أم سورية أم فلسطينية؟ هل انتزعت من بين ذراعي والدتي، أم أنها باعتني؟ تنتابني الكوابيس لحظة أتخيل أن والديّ قد فعلاها وباعاني. لا أكتمكم أن شعوراً آخر لا ينفك يخالجني. شعور بأني مختطفة، أو أن أهلي فلسطينيون، قضوا كغيرهم في احدى المجازر التي حصدتهم في واحد من المخيمات في لبنان.
“افهمي. انت لست ابنتي!” لم تكفّ أمي بالتبنّي عن ترداد هذه العبارة على مسمعي. لم تكن علاقتها بي حسنة بأي حال. حصل بيننا الكثير من المشاكل الى ان قلّعتني (طردتني) من البيت، ثم حدث بعدها ان انفَصلت عن ابي. رغم أن هذا الرجل ابي بالتبني، أشك أني كنت سأحبّ والدي الحقيقي أكثر منه. منذ تزوجت وأنا في الرابعة عشرة ونحن نتزاور باستمرار. اذكر منذ تفتحت على الدنيا حنوّه المفرط. ربما كان يفعل هذا تعويضاً عن الحادث الذي حرمه الانجاب. فقد دهسته دبابة اسرائيلية وكان بعد عريساً. اجريت له العديد من العمليات ومنها ان اضطروا الى اخصائه.
ربما كتب عليّ أن أبقى مجهولة النسب. كل محاولاتي التثبت من هويتي باءت بالفشل. نشرت من سنة قصتي على الانترنت. اطلعت عليها عائلة من بنت جبيل تعيش في اميركا فقدت ابنة صغيرة لها أثناء الحرب الاهلية اللبنانية. تكفلوا بإجراء فحوص الحمض النووي، ليتبين لاحقاً اني لست ابنتهم. بذلوا جهدهم لمساعدتي في البداية آملين أن اكون طفلتهم الضائعة، الا انهم اقلعوا عندما تيقنوا اني لست من يبحثون عنها. كل ما يحيط بي يدفعني لأتذكر أني مجهولة النسب. ثم اذا فعلت وتناسيت فإن من حولي يردونني الى صلب الحقيقة شئت ام أبيت. حتى أن كل نساء البلد ممن اصادفهن في السوق ينظرن اليّ ثم يتهامسن قائلات “هادي هيي، عرفتيها؟ لا معروف اصلها ولا فصلها!”. أكثر ما يثير حزني أني اسمع كلاماً مماثلاً من اقرباء زوجي. بأي حال، بت قادرة، الى حد ما، على تحمل هذا النوع من الكلام. لا يسع الطفل أمام كلام كهذا الا أن يبكي، وأنا كنت أبكي. الأسباب التي كانت تحثني على البكاء كثيرة. كأن العب وحدي لأن جيراننا يمنعون اولادهم من الاختلاط بي. أو حينما كان أهل أمي يحثون اولادهم على التسلي بالعابي قائلين لهم: “العبوا فأنتم أولى بها من الغرباء”. لقد حاول هؤلاء مرة فضح امري عبر نشر قصتي على تلفزيون محلي. الاطفال متشابهون. أولادي يشبهونني كثيراً! أفصحت لثلاثتهم بعد الحاحهم بسؤالي “ماما، لماذا لا اشقاء لك؟” أن وحشاً يدعى فؤاد اختطفني من أهلي وأني ما زلت ابحث عنهم.
فؤاد وحش فعلاً، وكذلك مديرة ملجأ الاطفال.
“انت من لبنان” قالت لي مديرة الملجأ! تصوروا أنه كان عليّ بناء افتراضات لا تحصى على هذه الجملة ومنها. هل انا مولودة لأب وأم لبنانيين؟ أم لأن فؤاد اختطفني من هناك أضحيت لبنانية؟ من أنا؟ كدت أنفجر بالصراخ.
“رجل طويل القامة وعيناه خضراوان”، هذه بعض ملامح فؤاد التي أفصح لي أهلي عنها بعدما أصررت عليهم بالسؤال “من اين اتيتم بي ومن هو هذا الذي اعطاكم اياي؟”. لم أعثر على فؤاد حتى الساعة لكني متاكدة أنه قبيح. صوته الذي انسل الى اذني عبر الهاتف ذات مرة، يرشح قبحاً. هذا الذي يدعي أنه يعمل مترجماً هو خاطف أطفال لا أكثر ولا اقل.
كنت أبحث عن فؤاد، قبل ان اعثر على رقم هاتفه من الدليل وأكلمه. الحق على اهلي لانهم لم يطلبوا من فؤاد مستنداً يعرّف عني. ربما من لهفتهم في العثور على طفل ساعتها.
تكفل زوجي مهاتفة فؤاد. اتصل به. رد فؤاد. حدثه زوجي عن حالتي، فأجابه هذا انه رجل عجوز ومقعد ولا يتذكر شيئاً. كرر زوجي المحاولة لكن بلا جدوى. اتصلت به انا وقلت له “لا اريد منك شيئاً لا تقدر عليه، رغم انك اختطفتني، لن اشتكي عليك. فأنا خسرت اجمل ايام كان ممكناً ان اقضيها مع والداي. سجنك لن يعيد الي ما اهدرته من عمري. فقط، دلني فقط على اهلي او قل لي من اين اختطفتني”. شرد دقائق ثم اجابني “لا اتذكرك”. فؤاد ليس عجوزاً ولا مقعداً. فقد ذهبت الى بيته الموجود عنوانه في دليل الهاتف. عرفت من جيران فؤاد أن الاخير يسكن في منطقة “الرملة” من سنين ويعمل داخل اسرائيل. صودف خلال هذه الفترة ان زارنا شاب من كفر قاسم يبحث عن اهله. كان يعتقد اني اخته ليتبين العكس في ما بعد. روى لي هذا الشاب قصته فدللته على فؤاد. شعر فؤاد ان امره يكاد يفتضح فهرب بعدها ولم يره أحد. عندما حاولنا الاستفسار عنه أكثر من خلال بعض الاشخاص، تبين انه محكوم بقضايا قتل وهو هارب من لبنان. تبين ايضاً أني لم اكن انا الطفلة الرضيعة الوحيدة التي اتى بها فؤاد من لبنان. كان معي طفلان آخران. فؤاد تاجر اطفال. هذه هي حقيقته. وان كان غير ذلك فلماذا قام بتسليمنا نحن الثلاثة بطريقة غير قانونية وبدون مستندات. مديرة الملجأ التي شاركته هذه الفعلة لا تعرف عنا نحن الثلاثة الا ان فؤاد اتى بنا من لبنان.
من أين ومتى وكيف؟ لم تنبس مديرة الملجأ. “اذا فتحت هذه السيرة مرة أخرى سأسجنك” توعدت زوجي. “حسناً، احبسيني حتى افضحك” اجابها. انتفضت وغادرت مكتبها لتتصل بـ”والدي” وتذكره أنها قادرة على حبسه كونه وقّع اوراقاً مزورة وقتما اخذني من الملجأ، عبر امرأة كانت تعمل بالشؤون تعاون فؤاد في عمله مترجماً. طلبوا الى والدي ملاقاتهم في مكان ما قبل ان يجعلوه يوقع الاوراق المزورة ويسلموني له.
تأخذ وزارة الشؤون عن الاطفال الموجودين في الملاجىء مساعدات ولا يعطونها للأهالي الذين يتبنون هؤلاء الاطفال. يبيعون الطفل ويحتفظون بالمال. هذا ما كان يفعله فؤاد ومديرة ملجأ الاطفال.
توسلت للمديرة أن تعينني على معرفة موطني واهلي. قلت لها “انا تزوجت. لو مفكره انو بدي اهرب من عند اهلي. انا صرت متزوجه وعندي اولاد ومتقبلة اي كلمه بتحكولي اياها”. لكن بلا جدوى.
أشعر أنني مسيحية وان اهلي ما زالوا على قيد الحياة. ابحث في الانترنت عن اناس يشبهونني في الشكل. اتخيل اخواتي يشبهونني. احلم بأن يكون لي أخ.
اكذب لو قلت لا يخطر في بالي ان اكون “بنت حرام” او لقيطة. لكن احساسي يحدثني بعكس ذلك. انا مخطوفة ولست لقيطة. اتحدى باحساسي هذا العالم كله. أقبل أن يكون اهلي قضوا في مجزرة خلال الحرب. ستكون ارادة الله، وسأكون عرفت أنا ابنة من وماذا حلّ بعائلتي.
كل من يراني يقول لي “انت لست فلسطينية”. صاحباتي يقلن لي إني أشبه السوريات واللبنانيات. حتى العائلة التي استقدمتني الى الولايات المتحدة لاجراء الفحوص الوراثية قالت لي الشيء ذاته.
نشرت قصتي في مواقع الكترونية عدة منها موقع جريدة “دنيا الوطن” بأمل ان يساعدني أحد في الاجتماع بأهلي. تواصلت مع بعض الجمعيات في لبنان لكن الامر صعب جداً، خاصة اني اعيش في فلسطين. لا املك اي مستند يثبت هويتي الحقيقية، في أي مستشفى ولدت، ومن هي عائلتي واين مسقط رأسي. “ما في ولا خيط يوصلني لأهلي الا انو احكي قصتي، وانو الناس يشوفوا شكلي يمكن يقدروا يساعدوني”.