نقد: المفكر الذي عاش حياته تحت الارض
جمانة فرحات
لن يضطر محمد ابراهيم نقد للاختفاء والاختباء بعد اليوم. ولن يضطر دون جدوى لانتظار خطى العمال وأصوات الفلاحين تهدر في الخرطوم أم المدن النائمة. فمن صمد في وجه ظلم السلطات وملاحقاتها المتواصلة له على مدى عقود استسلم أخيراً بهدوء يماثل هدوء شخصيته للمرض الذي وضع أمس من عاصمة الضباب لندن حداً لـ٨٢ عاماً من عمر المفكر السوداني وسكرتير الحزب الشيوعي ليلتحق برفيق دربه التيجاني الطيب بابكر عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي ورئيس تحرير صحيفة الميدان، تاركاً السودان في أحلك أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعدما أن انشطر إلى بلدين والحروب آخذة في تمزيق ما تبقى من جسده المنهك.
ابن النيل الأبيض، الذي سكنت قضايا الوطن قلبه وعقله حتى أتعبته، اختبر العمل السياسي منذ الأيام الدراسية فذاق مرارات الاعتقال والملاحقات الأمنية التي حولته إلى صاحب أكبر عدد من سنوات الاختفاء دون أن يمنعه ذلك عن التفرغ لوضع عدد من المؤلفات شملت قضايا السودان ومحيطه.
«داء» المشاركة في الحراك السياسي الذي بدأ في عام ١٩٤٦ من خلال خروجه في التظاهرات ضد الاستعمار البريطاني تواصل المرحلة الثانوية فنشط في التظاهرات التي ينظمها طلاب المدرسة لمساندة الحركة الوطنية المنادية بالاستقلال. وهو وضع لم يتغير في المرحلة الجامعية، فلم يستطع «المشاغب» انهاء دراسته في جامعة الخرطوم التي hلتحق بقسم الأداب فيها بعدما فصل منها نتيحة مشاركته في التظاهرات التي كانت تعيشها البلاد في تلك الفترة ليخوض غمار أول تجربة له في السجن في العام ١٩٥٢ قبل أن يعود إليه من مرات أخرى لم يحل دونها تعاقب عدد من الوجوه السودانية على الحكم. اذ كان الشيوعي العنيد خصمهم الأول وأشد خطر عليهم من أي شخص آخر.
خطورة نقد ظهرت لهم بعدما عاد من أوروبا التي سافر إليها فى بعثة دراسية جامعية من اتحاد الطلاب العالمي، حيث التحق بجامعة صوفيا قسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية، واستغل تواجده خارج البلاد للمشاركة في أنشطة طلابية داخل القارة العجوز فتنقل بين بوخارست ووارسو وموسكو. مع تخرجه في العام ١٩٥٨، عاد إلى السودان ليتفرغ للعمل في صفوف الحزب الشيوعي السوداني ليختبر بعد السحن هذه المرة أولى مراحل العمل السري نتيجة قرار نظام الفريق ابراهيم عبود حل الأحزاب قبل أن يعود للسجن مرة أخرى في العام ١٩٦٠. الشهر الذي قضاه في السحن في العام ١٩٥٢، تحول هذه المرة إلى سنة. ومع نجاح ثورة ١٩٦٤ في الاطاحة بالفريق عبود وعودة الحياة الحزبية ترشح نقد للبرلمان عن دوائر الخريجين ممثلًا للحزب الشيوعي السوداني. غمار تجربة العمل العلنية انقطعت أواخر العام ١٩٦٥ حينما صدر قرار بحل الحزب الشيوعـي السوداني وطرد نوابه من البرلمان مما أدخل البلاد في أزمة دستورية تواجه فيها الحزب الشيوعي والقوى التقدمية مع الاحزاب التقليدية وجبهة الميثاق الإسلامي. وكنتيجة لتردي الأوضاع في البلاد، كان السودان على موعد مع انقلاب جديد قاده جعفر النميري في أيار/ مايو ١٩٦٩ ، وهو الانقلاب الذي يعد محطة فاصلة في تاريخ الحزب الشيوعي ونقد. فدعم الحزب الشيوعي لانقلاب النميري تلاشى في وقت لاحق، بعد توتر العلاقات بينهما. وفي العام ١٩٧١، عندما كانت الخلافات في ذروتها أقدم ضابط يدعى هاشم العطا في التاسع عشر من يوليو /تموز ١٩٧١ على انقلاب فاشل لم يدم لأكثر من ٣ أيام، نجح بعدها النميري بالعودة للحكم ليطلق حملة اعتقالات وملاحقات عشواء بحق كل من اتهم بالانتساب للحزب الشيوعي قبل أن يعدم عدد من أبرز قادته وعلى رأسهم نائب رئيس الحزب جوزيق قرنق الذي كان يشغل في حينه منصب وزاري في حكومة النميري، وعبد الخالق محجوب الامين العام للحزب. اما نقد فاضطر وكل من نجا من الموت من الأعضاء الرئيسين في الحزب للاختباء في حين تم اختياره ليحل مكان محجوب على الرغم من اختفائه الطويل الذي امتد هذه المرة لـ ١١ عاماً، أكد نقد لاحقاً في حوارات صحافية أنه جهد لمنع اكتشاف اماكن تواجده من خلال الحيلولة بينه وبين المرض لعدم اللجوء إلى اي طبيب الأمر الذي تطلب منه الحفاظ على معدته ومراعاة نوعية الطعام الذي يتناوله لأن “المعدة بيت الداء”.
أعوام الاختفاء، لم تنتهي إلا بانتفاضة عام ١٩٨٥ التي قادها الشعب وتمكن بفعل الاضراب والعصيان المدني من الاطاحة بالنميري، وبعدها بعام hنتخب نقد عضواً في البرلمان فى عام ١٩٨٦ لكن عدم الاستقرار السياسي الذي تلا استلام الصادق المهدي للوزارة وانقلاب الانقاذ أعاد خلط الأوراق. اذ تم hعتقاله من منتصف١٩٨٩ وحتى عام ١٩٩٠ في حين أخضع للاقامة الجبرية في منزله حتى اختفاؤه فى ١٩٩٤ ليمتد هذا المرة إلى العام ٢٠٠٥، حيث استعاد الحزب الشيوعي شرعيته بعد التوقيع علي اتفاق نيفاشا واتخذ الحزب قراراً بعودته للعمل العلني. وخلال المؤتمر الخامس للحزب الذي عقد في ٢٠٠٩ بعد انقطاع أكثر من ٤٠ عاماً، وتحديداً من تشرين الأول/اكتوبر ١٩٦٧ تم التجديد لنقد كسكرتير للحزب. حينها ألقى نقد كلمة أكد فيها أن «الإدعاء بأن هنالك طريقاً واحداً للوصول إلى الإشتراكية، ينفي حقيقة المميزات الوطنية لكل شعب، ويجعل من الإشتراكية عقيدة جامدة وعقيمة، ويخرجها من نطاق العلم إلى نطاق الخرافة. وإذا كانت الإشتراكية العلمية هي حصيلة التجارب الثورية للشعوب، فإنها تتحقق لدى كل شعب بإرتباطها بجذور عميقة في مجرى تجاربه الخاصة وفي مجرى سماته الحضارية أيضاً». كلمات نقد هذه عكست في جزء منها فكره السياسي ونقده المتواصل للبيئة التي يتواجد فيها وهو ما عبر عنه بعدد من المؤلفات أبرزها «حـوار حول النزعات الماديه مع حسين مروة»، «علاقات الرق فى المجتمع السودانى ( النشأة – السمات – والأضمحلال ) توثيق وتعليق»، «علاقات الأرض فى السودان»، «قضايا الديموقراطية فى السودان»، «حوار حول الدولة المدنية»، و»الانتفاضة – الديموقراطية – التغيير»
وقد اشتهر نقد الذي ترشح للانتخابات الرئاسية في العام ٢٠١٠ بحرصه الدائم على الحفاظ على خصوصية حزبه بين الأحزاب الشيوعية في محيطه العربي والافريقي، الأمر الذي جعل أبرز خصومه السياسيين وتحديداً الاسلاميين منهم لا يمانعون أن يؤم بهم الصلاة في المعتقل في العام ١٩٨٩ عندما اجتمع سكرتير الحزب الشيوعي ومنظر نظام الانقاذ حسن الترابي والامام الصادق المهدي في السجن، فهو القائل “لو استمعت إلى قراءتي بتلاوة (القرآن) عوض عمر فإن لم تكن مسلماً لدخلت الإسلام”.
أما الحزب الشيوعي الذي نعاه قائلاً «يا ذكيََّ العودِ بالمطرقةِ الصمّّاءِ والفأسِ تشظّى / وبنيرانٍ لها ألفُ لسانٍ قد تلظّى / ضُعْْ على ضوئِك في الناس اصطباراً ومآثْر / مثلما ضُوِّعََ في الأهوال صبراً آلُ “ياسر”/ فلئن كنتَ كما أنتَ عبِقْ/ فاحترقْ!»، فسيكون برحيل نقد أمام اختبار البقاء واجتياز المرحلة التي تعد مصيرية في تاريخه.