آكِلٍ لحمِ الحيَوان (قصة ٤)
بقلم عصام حمد
تراءت لياسرٍ قطعةٌ من اللحم في طَبَق. تشهَّاها تَشَهِّياً وهي تسبحُ في مَرَقٍ يتصاعدُ منه البُخارُ الحارُّ. تشهَّاها على الرغم من أنه لم يذُقْ للحم طعماً من قبلُ. ورأى نفسَه يُقبل على الطبق مُتلمِّظاً، لا يُطيق صبراً.
تناول قطعةَ اللحم بيدين مُرتعشتين. من صُنع أُمِّه هي. فتح فمَه وقرَّبها منه. وإذا بالمَرَقِ الساخن يندلقُ في حِجْرِه!
واستيقظ من مَنامه هلِعاً.
ولمَّا عادت إليه نفسُه تلفَّت فيما حوله كأنه يخشى أن يكونَ والداهُ قد اطَّلعا على ما كان منه للتوِّ. وإذ وجد الحُجرةَ في ظلامٍ، والبابَ لا يزالُ مُوصَداً هَدأ لُهاثُه وعاد إلى الاستلقاء في سريره.
لم يكن أحدٌ في الحارة يَقرَبُ لحمَ الحيوان.
ماذا أقول؟ أيُّ قَرَف! لم يكن أحدٌ يفكِّر في فعلةٍ كهذه. فكيف يُنفَى شيءٌ لا خُطُورَ له على أيِّ بال!
النباتُ هو الغذاء المعهود، إذا خَطر لامرئٍ أن “يُفكِّر” في تصنيف الطعام! فكيف كان هذا الحُلم- الكابوس؟ ما أساسُه في دنيا الواقع؟ إنَّ ياسراً لا يُنكر أنه فكَّر مرَّتين في “أكل اللحم”. ولكنه كان تفكيراً أقربَ إلى أخيِلَة الجُوع الشديد منه إلى التفكير الواعي المسؤول.
يَذكُر الصبيُّ أنه منذُ حوالي الشهرين- وكان من الجوع في سَكَراتٍ ينتظرُ أُمَّه عندَ النافذةِ ريثَما تُحضِّرُ له طبقَ الباذنجان المُتبَّل الذي يُحبُّه- حَطَّتْ على شُرفةِ الجيران عُصفورةٌ صغيرة. لفَتتْهُ ألوانُها الزاهية، فراحَ يرقُبها تتنقَّلُ برشاقة. وإذا بياسر يتنبَّهُ إلى إحساسٍ غريبٍ يُولَدُ في نفسه وهو يرمُقُ صدرَ العُصفورةِ المُمتلئ لحماً.. ثم أيقظَه نداءُ أمِّه من استغراقه الآثم. أما العُصفورةُ فقد أجفلت وطارت.
وحادثةٌ ثانيةٌ منذ قرابة الشهر. كان يبتاعُ لأمِّهِ خُضاراً من السوق قُبيلَ الغداء. وكان الخُضَريُّ يلُفُّ له ما طلبه عندما ترامَى إليه من مكانٍ ما مأمأةُ عنزة. انجذبَ إلى مصدر الصوت بتلقائيَّة عجيبة. هناكَ وراء الدكَّانِ في حديقةٍ ضيِّقةٍ عنزةٌ كستنائيَّةُ الشعر، مربوطةٌ بحبلٍ إلى حلقةٍ حديديَّة بجدار الدكان. إنَّ الخُضَريَّ يُربِّيها للتدليل، ويُطعمها ما يلذُّ لها من الخُضار الطازجة كُلَّ يوم. ها هي سمينةُ الأوراكِ مُكتنِزة. وألفَى ياسرٌ نفسَه يتحسَّسُ بيدَيه لحم وَرِكَيْها مُختبِراً طراوتَهُ إذا ما كانت أسنانُه تستطيع اختراقَه والانغرازَ فيه!
إلا أنَّ الصبيَّ كان قد تناسَى هاتين الحادثتين باعتبارهما انزلاقاً لنفسِه إلى تلك المشاعر الدَّنيئة، انزلاقاً لن يتكرَّر مرَّةً ثالثة.
فماذا دَهَاه الليلةَ؟
حقٌّ أنَّه كان يشكو في الأيام الماضية صُدوداً من نفسهِ عن الطعام- النباتيِّ طبعاً- فظنَّ الأمر اضطراباً في معدتِه يُعالَج ببعض التجويع لنفسه المُشوَّشة حتى تعود إلى اشتهاء طعامها المُعتاد. ولقد جوَّعَ نفسَه كثيراً حتى أجبرَها على استساغة ما يُقدَّم لها من أطباق الحُبوب والخُضار المعروفة بلذاذتها في الحارة كُلِّها. ولكنْ إلامَ يُجوِّع نفسَه؟ وكيف سيصمُد جسدُه لهذا التجويع يوماً بعد يوم؟ ها هو يَهزُل ويدبُّ الضعفُ في أوصاله. ولقد لاحَظَ أخيراً أمراً مُقلقاً هو أنَّه لو حمل نفسَه على الأكل حتى الامتلاء من هذه الأطعمة فكأنه ما أكل شيئاً! ما هو سوى امتلاءٍ لبطنهِ دونما إحساسٍ بالشبع الحقيقيِّ المُريح. وتعودُ عيناه إلى الحملقة فيما تعُجُّ به الحارة من دابَّةٍ أو طائر!
بقيَ ياسر في سريره مُسهَّداً أرِقاً حتى ساعات الفجر الأولى، يُحاول أن يتفهَّمَ ماذا يجري له. وما أن أخذ النعاس يُثقل جفنَيه حتى تناهى إليه من الخارجِ هديلُ حَماماتٍ تتجاوَبُ! تفتَّحت عيناهُ وعَضَّ على أسنانهِ وهو يتخيَّلُ حمامةً سمينةً راقدةً في عُشٍّ! ومضى خيالُه يَنتِفُ الريشَ كاشفاً عن اللحم.. سيكون أبيض. لا بُدَّ أن يكون لحمُها أبيض. سأقبِضُ عليها بيدَيَّ. سيكون لحمُها حارَّاً وطريَّاً بين أسناني. ولذيذاً. ما طعمُه يا تُرى؟
وقطَعَ على ياسرٍ خَيالاتِه اللذيذةَ نداءُ أمِّه تدعُوه إلى الفطور. فرفعَ يدَهُ عن بطنهِ كأنَّما ضُبِطَ وهو يُحِدُّ سكِّيناً لذبحِ تلك الحمامة! وجلسَ في سريره وهو ينفُخ مُتبرِّماً. ثم نهضَ فوقفَ أمام المرآة. وراح يرقُبُ زوالَ احمرار الانفعال من وجهه قبل أنْ يخرجَ إلى الدار لمُلاقاة والديه.
* * *
زيتونٌ ومُربَّى التفاح وخبزُ القمح ورقائقُ الذرة. هذا كلُّ ما وجده ياسر مُقدَّماً على مائدة الفطور. جلس على كُرسيِّه في تردُّدٍ وهو يُحيِّي بفُتورٍ أباه وأمَّه الجالسَين إلى المائدة قُبالتَه يأكلان. لم يمُدَّ يدَهُ إلى أيِّ طبق. فقالت له أمُّه وهي تمضغ لُقمةً:
_ لِمَ لا تأكل يا حبيبي؟
فأجاب بحدَّة:
_ أكرَهُ هذا الطعام!
فوجَمت الأمُّ. أمَّا أبُوه فسأله عابساً وهو يُنعم النظرَ في وجههِ وقد كفَّ عن احتساء قدَح الشاي في يده:
_ منذ متى؟
لم يُجب الصبيُّ. فقالت الأمُّ قلقةً:
_ منذ أكثر من شهر لاحظتُ أنه لا يأكُل كالسابق.
ثم خاطبت ابنَها في عتاب:
_ ألم يَعُد يُعجبكَ طبخي يا ياسر؟ كنتَ تُفرِغُ كلَّ الأطباق على المائدة، ثم تُطالب بالمزيد. أما هذه الأيام فإنكَ لا تكاد تأكل شيئاً!
ظلَّ ياسر مُعتصماً بالصمت، ساتراً عن والديه سرَّه الفظيع. تأمَّله أبوه مليَّاً، ثم هزَّ رأسَه، وتناول الجريدةَ التي كانت مَطويَّةً عند طرف المائدة، ففتحها بين يديه وراح يُطالعُها.
* * *
ويَضيق صدرُ الصبيِّ بالبيت وأهله. فيخرُج لجولةٍ اعتادها أخيراً في أزِقَّة الحارة. ويجدُ نفسَه مُنساقاً إلى حيث تحُطُّ أسرابُ اليمام أمامَ الفرن أو تحتَ شجرة، وإلى حيث ترقُد عِجلةٌ في زريبة، أو تتبخترُ بطَّةٌ في حديقة.
وينحرف ياسرٌ نحو الدرب المُؤدِّية إلى المَراعي الواسعة شرقيَّ الحارة. يخفِق قلبُه في توقُّعٍ وترقُّب. غير أنه يتمهَّل في مشيته حذرَ العيون المُحدِّقة ولا شكَّ من نوافذ البيوت على الجانبين.
من بعيدٍ، خارجةً من دربٍ فرعيَّة، تحتَ شجرةِ التين العتيقة، نِعاجٌ كثيراتٌ يسُوقُها راعٍ عجوزٌ- يُدعى أبا حافظٍ- يحمِل عصاً عجراء، وكلبٌ ضخمٌ ينبحُ ويعدُو ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال يحرُس قطيعَ صاحبه ويُوجِّهُ سيرَه.
يُلاحقُ ياسرٌ القطيعَ مُحاذراً أن يتنبَّهَ إليه أبو حافظ. يتأمَّل قطعَ اللحم الشهيَّة، المُتحرِّكةَ في إغراءٍ أمامَ عينَيه القلقتين.
وينسَى الصبيُّ نفسَه فيُبالغ في الاقتراب من نعجةٍ بيضاء شَرَدت عن القطيع وجعلت تثغُو وتتلفَّت. وإذا بالراعي اليقظ يصيحُ به بخشونةٍ وهو يلوِّح بعصاه:
_ ابتعدْ عن نعجتي أو أكسرَ رأسَك ولو كان أبوك الحاكمَ نفسَه! أتحسَبُني غافلاً عن مُحاولاتك اليوميَّة؟
هَمَّ ياسرٌ بالفرار. فصرخَ العجوزُ بكلبه:
_ يا شُرطاب.. عليك بهذا الأزعر!
* * *
تتوالى الأيام وأخلاقُ ياسر تسُوء وجسدُهُ يهزُل ولونُه يشحُب. وتكرَّرت شكاوى الجيران من سلوكهِ الشائن الغريب مع حيواناتهم الأليفة. من ذلك ما جاءت به يوماً أمُّ نعمةَ إلى منزل آل ياسر. قالت- وهي تلهثُ- إنها ضَبَطت ياسراً يَعَضُّ فخذَ دجاجتِها الوحيدة:
_ رأيتُه من نافذة المطبخ. ومن يدري ماذا كان سيفعل بها بعدُ لو لم أصرُخ كالمجنونة وألُمَّ عليه الناس.
فقالت لها أمُّ ياسر في مُحاولةٍ يائسةٍ لدفع التُّهمة عن ابنها:
_ لعلَّه كان يُغنِّجها..
فصاحت بها أمُّ نعمة حانقةً ترتجفُ من الانفعال:
_ بل رأيتُ الشراهة في عينيه. كان المُتوحِّش يريد افتراس دجاجتي!
وعلم أبو ياسرٍ بشكوى المرأة. فغضب غضباً شديداً. وشدَّ الصبيَّ من أُذنه صائحاً به:
_ ستُشوِّه سُمعتي في الحارة. ألم تجد غيرَ هذا الوقت لارتكاب حماقاتك ونحن على أبواب الانتخابات؟
* * *
افتُضحَ أمرُ ياسرٍ في الحارة كلِّها. فخاف الناس أشدَّ الخوف على ما يُربُّونَهُ ويُدلِّلونه من حيوانٍ أليف.
أبو أحمدَ مثلاً منعَ إوَزَّاتهِ أن تَسرَحَ في الأصائلِ خارجَ سُور حديقتهِ.
أبو بديعةَ ربَطَ قرقُورَ ابنتِهِ الصغيرة عند مدخل البيت الأماميِّ كي يظلَّ طوالَ الوقت تحت أنظار العائلة.
أمُّ عباسٍ جمعَت سمكاتها من البركة المكشُوفة في العَراء خلفَ منزلها، فوضَعتْهنَّ بالداخل في أحواضٍ زجاجيَّة كبيرة..
أمَّا فضيحةُ ياسرٍ ودجاجة أُمِّ نعمة فقد كبرت بهمس الأفواه في الآذان:
_ نتف ريشَها.
_ التهَم فخذَيها جميعاً.
_ ذبحها وأجرى دمَها!
وبدلاً من أن يَستدِرَّ ذلك عطفَ أهل الحارة على الدجاجة المسكينة باتُوا يتجنَّبونها ويحبِسُون حيواناتهم عن الاختلاط بها- كأنَّهم يخافونَها على دواجنهم خوفَهم من ياسرٍ نفسه. فإذا خطرتْ قريباً من سياج حدائقهم رافعةً رأسَها تلحظُ بعينها الواسعة- زجروها صائحين: كِش!
وثارت أُمُّ نعمة لكرامة دجاجتها التي اضطُرَّت إلى زَربها في القُنِّ تحسُّباً من حجرٍ يرميها به جاهلٌ أو ناقم. وعلا صوتُها بسبابٍ فاحشٍ لم يُبقِ ريشةً في صدر حمامةٍ، أو إليةً تستُر عجُز نعجة، أو عُشَّاً لعُصفورة.. حتى صارت المرأةُ مكروهةً في الحيِّ كلِّه، يُشارُ إليها بأنَّها صاحبةُ الدجاجة الذبيحة!
* * *
تجنَّبَ ياسرٌ لقاء أبيه. كان يشعر بنفُورٍ منه- يتعدَّى الباعثُ عليه شَدَّةَ الأُذنِ المُؤلمةَ تلك. ولكنَّه شعرَ أنَّ الحَلَّ- إنْ كان من حلٍّ لمُشكلته- هو عند أبيه، وأنَّ هذا الحلَّ سيكون آخرَ سرٍّ من الأسرار التي تكشَّفَ عنها هذا الرجُلُ عاماً بعد عام.
ودأبَ ياسرٌ على استراق السَّمع لأحاديث أبيه إذا ناجَى أُمَّه في جِلساتهما بحُجرة المعيشة أو على الشُّرفة.. حتى تسلَّل ذات ليلةٍ إلى حُجرتهما الخاصَّة. وقف في العتمة إزاء الباب المُقفَل- يلوح النورُ في ثقب مُفتاحه- إلى أن تناهى إليه صوتُ أبيه يقول باستياء:
_ أشعر يا امرأة أنَّه يُراقبُني كلَّما أصبتُ طعاماً.
فقالت الأُمُّ برجاء:
_ لعلَّك خبرتَ في صباكَ ما يُعانيه الصبيُّ من جُوع..
فقال الأبُ بحدَّة:
_ جعتُ كثيراً ولكنِّي لم أجُعْ جوعَه الوحشيَّ هذا.. (ثم في وعيدٍ ارتفعَ به صوتُه).. سأخلعُ له نابَيه!
فهمَست الأمُّ مُؤنِّبةً:
_ هُس.. لا تقُل هذا الكلام.
عادَ ياسرٌ إلى حُجرته على أمشاط قدمَيه وهو يتحسَّسُ فكَّه الأسفلَ في خوفٍ شديد؛ إنَّ لي نابَينِ صغيرين.. طويلٌ مُستَدِقٌّ. أيكون هو الآلة لتمزيق اللحم؟ نعم، إنَّه لكذلك! فهل يخلع لي أبي نابَيَّ حقَّاً؟
وفي صباح اليوم التالي اختلسَ ياسرٌ النظرَ إلى أبيه وهو في الحمَّام. رآهُ واقفاً أمام المرآة والمنشفةُ على خصره، يحلق ذقنَه فاتحاً شدقَيه حذراً من الشفرة. فلمحَ له نابَينِ كبيرَينِ لم يكن قد انتبهَ إليهما من قبلُ! قصَد توَّاً إلى حُجرة النوم. فألفى أمَّه ترتِّبُ السريرَ المُزدوِج. وقفَ عند العتبةِ يرمُقها مُقطِّباً. فابتسمت المرأةُ إليه وسألته عمَّا به. فتحَ الصبيُّ فمَه ليسألها عن بُقعة الدم الصغيرة التي رآها يوماً على شرشف هذا السرير. ولكنَّه عدل في اللحظة الأخيرة عندما أدرك فجأةً أنَّ أباه إنَّما يأكلُ لحماً في هذه الحُجرة! هي حُجرةٌ مُنعزلة، مُزوَّدٌ بابُها بقُفلٍ ومفتاح. إنَّه لا يُريد أن يُطعمَني مما يأكله من لحم، ويُحاذر أن أراه وهو يأكله! وما شأنُ أمِّي في الأمر؟ هي كلُّ شيء! أليست التي تُعِدُّ له اللحمَ في ألَذِّ طبق؟ في حين ترمي إليَّ أنا بضُمَّة الفجل! لا عجبَ أن تبدوَ عليه الصحَّةُ وتورُّدُ الوجهِ بالعافية، وأموت أنا جوعاً!.. وعادت أمُّه تسأله في استغراب: ما بك يا ماما؟ رفع إليها عينَين قاسيتين، ثم ركض إلى حُجرته ساخطاً.
* * *
لم ينفعْ شيءٌ في تحسين صحَّة ياسر، سواءٌ أقبلَ على الطعام الموصُوف له بفائدتهِ الغذائيَّة العالية، أم أعرضَ عنه بتمرُّد، راجياً أمَّه- في غياب أبيه طبعاً- أن تُطعمَه شيئاً من اللحم- مُلمِّحاً إلى ذاك اللحم الذي يأكله أبوه في حُجرتها. ولكنَّ المرأةَ تتجاهلُ رغبةَ ولدِها وهي مُستغرقةٌ في طهي أكلاتٍ جديدةٍ له- لعلَّ نفسَه تنفتح لها.
وما هي سوى أيامٍ بعد ذلك حتى انطرحَ ياسرٌ في فراشه من الضعف والإعياء.
راح الجيرانُ يعودُونه صباحَ مساءَ. وكان الصبيُّ يمقُتُ دخولَهم عليه حُجرتَه، ويمقُتُ أمَّه لأنها أبَتْ إلَّا أن تُدخلَهم عليه من باب اللياقة. يحدجُهم بحقدٍ وهم مُتحلِّقونَ حولَ سريرهِ، مُصوِّبينَ عليه نظراتِ الاستطلاع والفضول. يتصنَّعُون مُواساته مُدارِينَ ازدراءهم به، واشمئزازَهم من تلك الرغبةِ المُقرفةِ في نفسه. حتى صاحَ بهم يوماً على وَهَنهِ وقد تكاثروا حولَ سريره:
_ ترقُبونني أمُوت؟
شَهَقت أمُّه في ارتياع. وتجلَّى الامتعاضُ في وجُوه العُوَّاد. غير أنَّ الصبيَّ المريضَ أضافَ قائلاً وقد اتَّسعَتْ عيناهُ الغائرتانِ في حملقةٍ مُخيفةٍ:
_ تستأثرون باللحم من دوني.. وتُمثِّلون عليَّ القرَفَ والإنكار!
ثم قال لأُمِّه وهو يَلهَثُ من الخَوَر:
_ هاتي لي لحماً يا ماما..
وهوى رأسُه على المخدَّة.
* * *
فتحَ ياسرٌ عينَيه فسَمِعَ والدَه يقول:
_ اخرُج يا بُنيَّ إلى الحارة لعلَّك تقعُ على صيدٍ سهل!
التفتَ ياسرٌ إلى أمِّه وهو لا يكاد يُصدِّق أذنيه. فهزَّت رأسها وهي تُسبل جفنَيها. وابتسم الصبيُّ عن نابَين لامعَين..
* * *
أفاقت أُمُّ نعمة على حركةٍ في جوف الليل. رفعت رأسَها عن المخدَّة وأنصتت بالظلام الشامل حتى سمعت صفيراً خافتاً وتصفيقاً بالأجنحة. فتمتمت بجزع “دجاجتي!”.
أزاحت عنها الغطاء. أشعلت الشمعة على الطاولة. تلفَّعت بروبها في عجَلةٍ تراقصَت لها الشعلة. حملت الشمعة وانطلقت خائفةَ الوجه.
في الفُسحة خلفَ المطبخ- شِباكُ القُنِّ مُمزَّقة. الريشُ بالأرض. وغيرَ ذلك لا أثرَ للدجاجة.
* * *
في صباح ذلك اليوم زارت أُمُّ نعمة منزلَ آل ياسر. غيرَ أنَّها- بخلاف الزيارة السابقة- كانت هادئةً واجمة.
استقبلتها أُمُّ ياسرٍ بفتُور. ثم دعتها إلى مُشاركتها احتساءَ القهوة مع أبي ياسر في حُجرة الجلوس.
قام أبو ياسرٍ للزائرة. فبادرته المرأةُ قائلةً بانكسار:
_ ابنُك خطف دجاجتي!
صرخت أُمُّ ياسرٍ مُعترِضة:
_ أليس في الحارة غير ياسر؟ لعلَّ ثعلباً خطفها..
فأسكتها زوجُها بإشارةٍ من يده. وقال للمرأة وهو يهُزُّ رأسَه بحكمة:
_ اجلسي يا أُمَّ نعمة.
جلست المرأةُ. وصبَّت لها أُمُّ ياسرٍ فنجاناً من القهوة وهي ترقُبُ زوجَها بقلق. نادى الرجلُ ابنَه بصوتٍ يَنِمُّ عن نَفاد صبر. فجاء الصبيُّ وفي عينيه توجُّسٌ. قال له أبوه بهُدوء وهو يتفرَّسُ وجهَه:
_ أُمُّ نعمة تسأل عن دجاجتها..
فصاح ياسرٌ مُلوِّحاً بيده:
_ لا أعرف.
فضحك الرجلُ وهو يقول لابنه:
_ قبل أن تُنكر انزع الريشةَ العالقة بشعرك!
جزِعَ ياسرٌ. ورفع يدَه فنفضَ شعرَه. فإذا بريشةٍ شقراء تطير في الهواء! هبَّت أُمُّ نعمة بلهفة. فقبضت على الريشة. واحتضنتها في حنان. ثم رفعت وجهها مُحدِّقةً إلى الصبيِّ وتمتمت بإشفاق:
_ أكلتَها؟
فقال ياسرٌ بلهوجة:
_ لا.. لن آكلَها إلا بمُوافقتك!
فهتفت أُمُّه مُتعجِّبةً:
_ لمَّا تأكلها بعد!
فأشاحَ الصبيُّ بوجههِ ناظراً نحو النافذة. وقال باقتضاب:
_ الدجاجة بأمان.
فصاحت أُمُّ نعمة:
_ أين هي؟
وقال الأبُ بحزم:
_ رُدَّ إلى المرأة دجاجتَها حتى إذا ارتضت أن تهبكَ إيَّاها..
فقاطعته أُمُّ نعمة قائلةً للصبيِّ بحرارة:
_ رُدَّها إليَّ وسأُقدِّمُها لك بنفسي..
ونظرت إلى أُمِّ ياسرٍ وقالت برجاء:
_ هذا أكرمُ أمام أهل الحارة.
* * *
رأى أبو ياسرٍ أن يزورَ إمامَ الحارة مُصطحباً معه ابنَه استرضاءً للشيخ بعدما تناقل الجيرانُ أنَّه مُستاءٌ جدَّاً من الصبيِّ، وقد أفتى بأنَّه “كافرٌ هو الذي يأكل لحماً”. أبى ياسرٌ ذلك- أوَّلَ الأمر- ثم ذهب وهو كارِهٌ.
انتظرا بحجرة الجلوس حتى جاء الشيخ في عباءته البيضاء الفضفاضة عابساً يتجنَّبُ النظرَ ناحيةَ ياسرٍ. لاحظ أبو ياسرٍ ذلك فانقبضَ صدرُه. ولكنَّه قام في احترامٍ وهو يشير إلى الصبيِّ أن يُقلِّده. صافحه الشيخُ مُرحِّباً ثم قال:
_ تفضَّل بالجلوس يا أبا ياسر.. أو يا سعادة النائب. كنتُ أنتظر زيارتَك من زمان!
بشَّ أبو ياسرٍ للقب وقال وهو يتنهَّد:
_ أنساني واجبي أمرُ هذا الصبيِّ.. كيف حالك أيُّها الشيخ وَضَم؟
جلس الرجلان جنباً إلى جنب على الكنبة وراحا يتناجيان. وجلس ياسرٌ قُبالتهما على الكُرسيّ مُرتبكاً بين الحُنق والحياء. وجعل يُحدِّق في فَروةٍ مفروشةٍ تحت قدمَيه، ويسترق النظرَ من آنٍ لآخر إلى الشيخ؛ إنَّه رجُلٌ ريَّانُ الخدَّين، رنَّانُ الضحكة.. ضحكتُه تهتزُّ لها كرِشُه الضخمة.. كرشُه تَسَعُ نعجةً من نعاجِ أبي حافظٍ الراعي، والعجوزُ يحترسُ منِّي أنا!
* * *
كيف تقتنع أمُّ نعمة بالتخلِّي عن دجاجتها الغالية؟
تساءلت أمُّ ياسرٍ وهي جالسةٌ بجانب سرير ابنها، ينتظرانِ رجُوعَ أبي ياسرٍ الذي قصد بيتَ أُمِّ نعمةَ يُرافقُه الشيخُ وَضَم، وصديقُه المُعلِّم مَسالخي- لطلب دجاجتها للصبيِّ.
إنَّها دجاجتُها الوحيدة. سمينةٌ، شقراءُ الريش، قِرمزيَّة العُرف، في مِشيتها دلالٌ وبَطَر. والمرأة تتفانى في رعايتها؛ تُطعمها أجودَ أنواع القمح. وتحرسُها من الثعالب. وتُعلِّمها وتؤدِّبها.. وما كان أمَرَّ دفاعَها عنها عندما تقوَّلَ عليها الجيرانُ!
فكيف تقتنعُ أمُّ نعمة بالتخلِّي عن دجاجتها للصبيِّ يأكلها؟ لعلَّها رجعت عن كلمتها، وسترُدُّ الرجالَ خائبينَ مُشيَّعينَ بباقاتٍ من سبابها البذيء.
ولمَّا عاد أبو ياسر بادرتْه المرأةُ قائلةً في تخمين:
_ رفضت أمُّ نعمة التضحية بدجاجتها. أليس كذلك؟
فابتسم الرجل المُتعَب وهو يهُزُّ رأسَه في سُرور:
_ بل التزَمت أمام الشيخ وَضَمٍ أن تطهوَها وتُقدِّمَها لياسرٍ بنفسها على مائدته!
فبَرقت عينا ياسر، وسألَ والدَه بغير تحفُّظٍ- وقد بدأ يشعر نحوه بمودَّة:
_ متى يا أبي ، متى؟
_ غداً مساءً!
* * *
قبل غُروب الشمس بدأ الناسُ بالتجمُّع في باحة بيت آل ياسر.
ذهلَ أبو ياسر لكثرة الحاضرين، في حين سارعت أمُّ ياسر فأنارت الباحةَ، واستقدمت الكراسيَّ، ودارت بأطباق الحلوى وأكواب العصير مُرحِّبةً مُتهلِّلة. ليس هذا فحسبُ ولكنَّها أصرَّت أيضاً على أن يخرُج ياسرٌ- الذي بدا أنَّه استعاد نشاطَه- في البدلة السوداء الأنيقة ذاتِ المنديل الأبيض حولَ الرقبة- لشُكر أهلِ حارتهِ وقد جاؤوا يتمنَّونَ له الهناء! ولكنَّ الصبيَّ كان قَلِقاً في مقعدهِ بين الناس، لا يُطيق انتظارَ دجاجتهِ التي تُطهَى له في هذه الأثناء وقد تُبِّلتْ- كما أسَرَّتْ إليه أمُّه- بالشطَّة الحمراء، والبهار الأسود، والهال، وجوزة الطِّيب.. أيُّ طهيٍ، وأيَّةُ بهارات؟ إنَّه لَيشتهي أن يأكلها نَيئةً بريشها! وما زادته تلك النقراتُ التي تلقَّاها منها في ذراعَيه- ليلةَ اختلى بها في قبو البيت- إلا تشهِّياً لها، ورغبةً فيها- وإن عجِب غايةَ العجبِ لتمنُّعها عليه تلك الليلةَ، وصدِّها إيَّاهُ بالمنقار والبراثن بعدما كانت تستجيب يوميَّاً لندائه “تيعا تيعا تيعا” في قُنِّ صاحبتها، فتهرعُ إليه لتنقُدَ الحبَّ من راحته، وتشربَ الماء من بين شفتيه.. ثم ترفع رأسَها نحوه امتناناً، وتجثُم لِصقَه ليُداعبَ نحرَها بأُنمُلته حتى تُردِّدَ قرقرةً خفيضةً راضية!
لم يكُن ياسر الوحيدَ الذي يُعاني بلاءَ الانتظار. فبين المُحتفلين كان يجلس أبو حافظ، راعي الأغنام العجوز، مُعتمداً على عصاه العجراء. وكان أصرَّ على الحُضور- فيما بينه وبين نفسه- ليشهدَ هذه “المجزرة” كما وصفها، غيرَ مُصدِّقٍ ما سمِعته أُذناه ذلك الصباحَ. وجعل العجوزُ يلحَظ ياسراً أو “الجزَّار”- كما يدعُوه- بنظراتٍ حانقة. حتى أنه راحَ يحدجُ الصبيانَ- الذين يضجُّون بالرقص والصياح حولَ ياسرٍ- بحذرٍ وريبة أن يكونُوا هُم أيضاً على شاكلته!
ولم يكُفَّ ياسرٌ عن سُؤال أمِّه عمَّا أخَّر أُمَّ نعمةَ- كُلَّما مرَّت به في سَعيها بين الساهرين تقُوم بواجب الضيافة. وقد رجاها الصبيُّ مِراراً أن تذهبَ إليها في منزلها القريب لتستعلمَ عن الدجاجة المُنتظَرة. ولكنَّ الأمَّ كانت تُطمئنُه داعيةً إيَّاه إلى التصبُّر وهي تَطوي عنه ما شعَرَتْ به من غَيرةٍ أليمةٍ لتفضيل ابنِها طهيَ أُمِّ نعمةَ على طَهْيِها- هي أُمَّه!
وجلس أبو ياسرٍ في الصالة وَسْطَ وُجَهاء الحارة الذين شرَّفُوه بحُضورهم. وكان الشيخُ وَضَمٌ يقول:
_ له أن يأكلَ ما شاء من اللحم.. (ثم يُضيف مُشترطاً).. على أن يكون الذَّبحُ وِفقاً للشريعة.
فاستدرك المُعلِّم مَسالخي تاجرُ السكاكين قائلاً:
_ ولكنْ بسكِّينٍ حادِّ الشفرة.
فأجابه أبو ياسرٍ غامزاً بعينه:
_ كالسكاكين التي تبيعُها!
وبغتةً ارتفعتْ ضجَّةٌ صاخبةٌ من التهليل والصياح في الطريق خارجَ الدار.
تلفَّتَ ياسرٌ يسأل بجَزَعٍ عن الخبر. وإذا بأُمِّه تظهر على عتبة الباب وتُزغرِد عالياً، ثم تهتف مُعلِنةً بفرح:
_ وصلت الدجاجة!
في صينيَّةٍ واسعة، مُحاطةً بألوان الخُضار كالفجل والفُليفلة والبصل والخس والبقدونس والروكَّا.. تربَّعت الدجاجةُ كأشهى ما تكون، عليها غطاءٌ أبيضُ شفَّافٌ يحفظُ حرارتَها ونكهتَها لأوَّل آكلٍ للحم الحيوان، ياسرٍ الذي هَبَّ واقفاً، ثم تقدَّمَ من دجاجته- شاهراً بيُمناهُ سكِّيناً وبيُسراهُ شوكةً- في شبه ذهولٍ لم يُوقظه منه الصبيانُ الذينَ واكبُوه وهم يصيحون ويُصفِّرون.
أما أبو حافظٍ الراعي فقد اتَّسَعَتْ عيناهُ رُعباًَ إذ رأى أشداقَ الصبيان جميعاً تنفرجُ عن أنياب مُفترسة!