زيارة للعقل العربي “المسيحي”
لكي تتم قراءة هذا المقالة من قبل الجميع بعقل منفتح، وبطريقة إيجابية، فلا بد لي أن أذكر أنني مسيحي أرثوذكسي، لكن أهم ما أعتز به وأعتبره إنتمائي الأول والأخير أنني عربي مقدسي ترجع أصولي إلى داخل السور بالبلدة القديمة المحتلة، كما أنني إبن عمان التي أحب وبها تربيت. بالنتيجة، فأنا عربي مسيحي أعتز وأفتخر بحمل هذه الهوية، وطبعاً من قبل ومن بعد فأنني إنسان.
وبعد،
أكدت نتيجة الدور الأول للإنتخابات المصرية هاجساً بدأت ألمسه منذ عشرات السنين، وها هو يتعمق رويداً.. رويداً. بدأ الهاجس يتعمق عندما سافر الشباب العربي إلى أفغانستان لتحريرها من السوفيات وحلفائهم الأفغان اليساريين، بينما فلسطين تحت الإحتلال والقهر وتتعرض يومياً لعمليات التهويد والإستيطان منذ أكثر من ستين عاماً.
تشكلت دولة طالبان برعاية من المجاهدين العرب، ثم حدثت تفجيرات 9/11 في نيويورك التي قامت بها مجموعة من الشباب العربي السعودي أصحاب الفكر الجهادي السلفي الوهابي الذين يحاربون الطاغوت الأكبر، أميركا الكافرة في عقر دارها. وللحقيقة، ورغم إدانتي التامة لقتل المدنيين أياً كانوا، فإنني أستطيع أن أقرأ ما كان يختلج في نفوس هؤلاء الشباب من كره لأميركا راعية الإرهاب في عالمنا العربي وراعية الصهاينة المحتلين لأرض العروبة… فلسطين.
أتت الطعنة بإحتلال أميركا وحلفائها العراق العربي، وما تلا ذلك من تكريس للفكر الطائفي والمذهبي مع إستمرار عمليات الإرهاب، مما أدى إلى تهجير الملايين من العراقيين ومنهم العرب المسيحيين.
ولن ننسى ما يحصل في فلسطين منذ عشرات السنين، حيث أن صعوبة الحياة، وتعرض الشعب العربي الفلسطيني للقهر والقمع أدى إلى تهجير وهجرة العديد من الفلسطينيين بمن فيهم المسيحيون، كما أن القوانين التي فرضتها حماس في قطاع غزة، كاللباس الشرعي على طالبات المدارس، ورفض التعددية المجتمعية ساعدت في زيادة المهاجرين.
الهاجس الذي بدأ ينتاب العديد من العرب المسيحيين منذ بداية تشكل الوعي لديهم أخذ يتحول إلى شبه حقيقة على مر السنين، وكان ما كان خلال الإنتخابات المصرية من توجه كبير من المصريين الأقباط للإقتراع لأحمد شفيق وهو آخر رئيس وزراء زمن مبارك، أي أنه من فلول النظام الذي قامت الثورة المصرية المجيدة للقضاء عليه.
إن توجه أعداد كبيرة من المصريين الأقباط لتأييد فلول نظام فاسد ديكتاتوري عميل للغرب هو تأكيد أن هناك تغييراً بنيوياً اساسياً قد حصل داخل العقل العربي المسيحي ولامس وجدانه، مع التأكيد أن هناك أعداداً لا يستهان بها من المصريين الأقباط قد إقترعوا لمرشح الثورة حمدين صباحي بل أن جزءاً رئيساً ومهماً من حملة صباحي كانوا من الشباب المصري القبطي.
قبل الدخول في صلب الموضوع، فإنه لا بد لنا من التأكيد على بعض العوامل التاريخية والموضوعية التي تتعلق بالعرب المسيحيين (وأنا أصنفهم هنا بهوية فرعية طائفية ليس قناعة بالتصنيف إنما لأجل النقاش):
– العرب المسيحيون في بلاد الشام والعراق ومصر عرب أصيلون وهم موجودون بالمنطقة منذ آلاف السنين، بل أنهم كانوا سكاناً للمنطقة قبل ظهور الإسلام وقبل التغير الأساسي الذي أحدثه الدين الإسلامي الذي أصبح ديناً للأغلبية العربية قبل حوالي خمسة عشر قرنا.
– طوال مئات السنين من العيش الواحد المشترك ما بين مختلف الأديان والمعتقدات وقف العرب المسيحيون مع أبناء قوميتهم ضد كل الهجمات والإحتلالات، فقد شاركوا في الفتوحات الإسلامية ضد الفرس والروم كما شاركوا إبان حروب الفرنجة، كما كان دورهم القومي واضحاً إبان الإستعمار الغربي الحديث.
– ساهم المثقفون والأدباء المسيحيون، وهم عرب أقحاح في الحضارة العربية… الأدب والفلسفة والشعر والطب وحافظوا على اللغة العربية خلال الخلافة العثمانية التي إنتهجت سياسة التتريك ضد العرب جميعاً.
– كان العرب المسيحيون مع العرب جميعاً رواداً في نشر فكر العروبة والقومية العربية، وكان العديد من منظري الحركات القومية العربية من العرب المسيحيين.
– العرب المسيحيون كانوا في طليعة القادة والتنظيمات الذين تصدوا للهجمة الصهيونية الغربية في فلسطين منذ بداية القرن العشرين مروراً بالثورة الفلسطينية الحديثة التي إنطلقت في الستينيات من القرن الماضي.
– كان العرب المسيحيون دائماً من العاملين ضمن القوى، الحركات والأحزاب التي تحمل الفكر القومي العربي التقدمي والإنساني في أنحاء العالم العربي. خصوصاً في بلاد الشام. هذه القوى هي التي حملت الهم القومي وهم تحرير فلسطين وعملت جاهدة للتخلص من التبعية للأجنبي، وإعادة محاولة بناء مجتمعات عربية أفضل: اقل فقراً… جهلاً… وأكثر مساواة.. عدلاً.. وحضارة.
– إن قيم العدالة… الحرية… المساواة… الصدق… الشفافية… محاربة الفساد ورفضه… محبة كل الناس… العيش المشترك… الرحمة وغيرها هي من صلب الإيمان المسيحي- كما الإيمان الإسلامي- وبالتالي فلا بد للعربي المسيحي أن يكون دائماً داخل صفوف من يحمل هذه القيم ويدعو إليها ويطالب بها، ولا يمكن أن يكون أبداً مع الظلم… الفساد… القمع… القتل… التمييز والتبعية للأجنبي.
هذا هو تاريخ العرب المسيحيين وهذه مبادؤهم، فلماذا هجرتهم المستمرة؟! وما سبب تصويتهم المكثف لمرشح ينتمي للماضي الفاسد الإستبدادي، والتأييد لأنظمة مستبدة فاسدة عميلة لا يمكن الدفاع عنها في أكثر من موقع عربي؟ ولماذا يبتعد الكثير من العرب المسيحيين عن العمل الذي يهدف إصلاح الوضع السياسي بشكل عام في زمن الربيع العربي؟!.
عوامل عديدة تؤثر على الفكر العربي المسيحي، علينا أن لا نعتبرها قدراً بل نحتاج إلى إستراتيجية تعالج نتائج هذه العوامل:
الرعب من الإسلام السياسي العامل الأساس والأهم الذي لا يقتصر على العرب المسيحيين بل يطال نسبة كبيرة من العرب المسلمين، رعب لا يتعلق فقط بالخطاب الديني، ولكنه يتخذ صوراً تزيد من حالة الفوبيا التي يعيشها المسلمون المعتدلون والمسيحيون. عندما ينظر هؤلاء إلى أنظمة عربية أو إسلامية تتخذ الفكر الديني منهاجاً لها مثل: السعودية، الصومال، السودان، أو قطاع غزة، فإنهم يصبحون متأكدين أن تؤدي مثل هذه الأنظمة إلى أوضاع سيئة للمجتمعات العربية كافة.
العامل الثاني: محاولة الإسلام السياسي إقصاء الحركات والأحزاب السياسية غير الدينية عن المشاركة في صنع القرار السياسي.
العامل الثالث: اهتمام خطاب الجماعات الدينية بأمور لا تستحق الاهتمام مثل الحجر على الفن والموسيقى وطريقة اللباس، وإهمال الأمور الحياتية الملحة التي يعاني منها المواطن العربي كالجهل… الأمية… الفقر.. التخلف.. الكرامة… التبعية للأجنبي.
العامل الرابع : اعتقاد الغالبية العظمى من العرب المعتدلين أن سيادة التيارات الإسلامية الدينية للسلطة في الدول العربية كافة مسألة محسومة بل قدر محتوم، فإنتصار الإسلام السياسي في ليبيا، تونس، المغرب ومصر يخيف الغالبية العظمى من العرب المعتدلين، حيث سيقيد حريتهم، ويعمل على أن تبقى المجتمعات العربية مغلقة بعيدة عن الإبداع، التسامح والديمقراطية.
يسود المجتمعات العربية اليوم رأيان أحدهما يطالب السماح للقوى الدينية المحافظة أخذ فرصتها في الحكم، فقد تثبت صلاحيتها وقدرتها على تحقيق طموحات ومطالب الشعوب، والآخر أن الحركات الدينية لا تؤمن بتداول السلطة، ولن تنتهج الديمقراطية، وتنادي باحتكار السلطات.
النهج الذي اتبعته التيارات الدينية أدى إلى عدم طمأنة القوى العربية من يساريين، قوميين، ليبراليين، وأصبحت عندهم قناعة شبه راسخة بأن هذه التيارات الإسلامية تتبنى خطابا مطمئنا، ولكنه ليس حقيقيا مما دعاهم إلى الإيمان بأن استلامهم السلطة سيكشف عدم صدقية خطابهم مع اقتناعهم أن بعض رموز التيارات الإسلامية تتبنى بشكل حقيقي وصادق خطابا مقبولا شبيهاً بالنموذج التركي.
لو درسنا التحليل السابق، فإننا نخلص الى أن مواقف وتصرفات العرب المعتدلين والتقدميين بمن فيهم المسيحيون نتاج طبيعي لما سبق، وليس كما يسمونه فوبيا الأقليات. إن العرب المسيحيين يشعرون أنهم عندما يتواجدون داخل نظام يعتمد أساسا دينيا– ليس قوميا وليس على أساس المواطنة- فإنهم يصبحون عمليا مواطنين من الدرجة الثانية، فهم ليسوا جزءا من أغلبية عربية بل هم أقلية مسيحية داخل دولة مسلمة. فتتطور الحالة لتصل إلى كوابيس قد تطالهم مثل أن تتم معاملتهم كأهل ذمة لا مواطنين، أو ربما إجبارهم على دفع الجزية، عدم تمكينهم من الخدمة المدنية والعسكرية وعدم توليهم لأي مناصب عامة.
ما حدث قبل أسابيع في الإنتخابات الرئاسية المصرية ربما يعيد الكثير من الأمور إلى نصابها. فالنتيجة التي حققها المرشح القومي اليساري التقدمي حمدين صباحي بحصوله على أكثر من 20% من الأصوات في حين حصول مرشح الإخوان المسلمين على 25% من الأصوات فقط نتيجة منطقية مهمة يجب الإهتمام بها وتحليلها تحليلاً علمياً منطقياً.
هذه النتيجة في البلد القائد للأمة العربية تثبت أن هناك تياراً واسعاً من المؤمنين حقاً بالدولة المدنية الديمقراطية عمادها العروبة… القانون… المواطنة… الحريات… العدالة الإجتماعية.
إن وجود هذا التيار هو رسالة واضحة للعرب كافة بما فيهم العرب المسيحيين في مصر والدول العربية الأخرى بأن المجتمعات العربية مثلها مثل المجتمعات في العالم كله تؤمن أيضاً بمبادىء المواطنة… الحرية… المساواة والعدالة الإجتماعية ، وأن هناك تياراً واسعاً يتشكل ويتأطر هو التيار العروبي التقدمي الذي يجسد بحق القيم السامية التي يؤمن بها العرب بمن فيهم المسيحيون وهو مستعد للدفاع عنها وتقديم كل التضحيات لسيادتها. وإن العديد من العرب المسيحيين يعملون ضمن هذه الأطر القومية والتقدمية كما أنهم يشاركون بفعالية كبيرة في الحراكات المطالبة بالتغيير والإصلاح والدولة المدنية الديمقراطية.
على الجزء “المذعور” من العرب المسيحيين أن يراجعوا أنفسهم فوراً، وأن يقوموا بتصحيح مسارهم، وأن يخرجوا من ذعرهم وأوهامهم، وأن يعودوا ليؤمنوا أنهم فعلاً جزء أصيل من الغالبية العربية وأنهم مواطنون كاملون لا رعايا. عليهم أن يكونوا جزءاً من التيار الديمقراطي العروبي التقدمي، كما عليهم أن لا يتصرفوا كطائفة واحدة، فليس مسموحاً ولا مقبولاً ولا محموداً للعرب المسيحيين أن يتصرفوا ككتلة طائفية بل عليهم أن ينخرطوا ضمن القوى السياسية والفكرية التي تتناغم مع أفكار كل منهم، فبعضهم قد يلتحق بتيارات سياسية عروبية أو يسارية أو ليبرالية. كما أن على رجال الدين المسيحيين ألا يتدخلوا بالحياة السياسية، وألا يلعبوا دوراً ليس لهم– و كذا على رجال الدين المسلمين-. على البطاركة والمطارنة والكهنة أن يتركوا السياسة لأهل السياسة وأن لا يتدخلوا في الحياة الدنيوية للناس وإن تدخلوا فليكن حفاظاً على الوحدة الوطنية وعلى القيم الإنسانية العليا.
يجب على هذه الفئة من العرب المسيحيين أن ينهضوا من هذه الغفلة المفاجئة، وأن تكون هذه قيامتهم الجديدة وأن يقفوا في نفس الصف مع أبناء أمتهم ويؤيدوا قوى التغيير والتقدم والحراكات والثورات في البلاد العربية كافة المطالبة بالإصلاح والحرية والمساواة والكرامة والخبز وبنفس الوقت يكونوا سداً منيعاً في مواجهات الأطماع والمؤآمرات التي تحاك للأمة العربية هادفة تقسيمها لمصلحة المشروع الأميركي الصهيوني وعملائه.
كلمة أوجهها لإخوتنا وأبناء وطننا وأمتنا العربية في الحركات الإسلامية بأن مسؤوليتهم أكبر من إخوانهم العرب المسيحيين فهم الذين من المفترض أن يقوموا بطمأنة أبناء وطنهم كافة، بمن فيهم الذين يحملون فكراً سياسياً مخالفاً، بأنهم فعلاً مع مواطنة الجميع ومع دولة مدنية ديمقراطية– بدون ربطها بمرجعيات دينية- ومع الحريات الإجتماعية والسياسية وحرية حقيقية للمرأة ويؤكدوا أنهم مع تداول السلطة دون أي شروط. هكذا نبني مستقبلاً مشرقاً لكل أبناء أمتنا العربية الواحدة ونأخذ لنا موقعاً تحت الشمس وقد حان الوقت لنبدأ خطواتنا الحقيقية نحو التقدم والحضارة.