طه محمد علي… الشاعر الذي استعاد حياة المكان لا نكبته
فراس خطيب
المشهد الثقافي الفلسطيني بدا بالأمس أشدّ فقراً مع غياب الشاعر “غير العادي” طه محمد علي. أبو نزار، الخاص في كل شيء، لن يطل ثانية بحضوره الممتلئ حياةً رغم تثاقل الخطى وتعب الجسد. أغمض الشاعر الكبير عينيه بعد ثمانين عاما ًتاركاً من ورائه القضية والإنسان في صلب القصيدة.
الشاعر المولود في قرية صفورية المهجّرة عام 1931، جعل من سيرته الذاتية قصة إنسانية عن فلسطين. قصة بعيدة عن الشعارات الرنانة وقريبة من القلب. كان عمره 17 عاماً عندما هُجِّر وأهله في ليلة الخامس عشر من تموز العام 1948 من قريتهم، وحطّتهم رحلة اللجوء في لبنان، لتبدأ رحلة أخرى تشبه “العودة” بعد عام قضاها بعيداً عن الوطن. عاد الشاعر إلى فلسطين. لكن عودته لم تكتمل. فلم يسكن الشاعر صفورية المهدومة، فاستقر به المقام في مدينة الناصرة، وهي المدينة الفلسطينية الأكبر في داخل الخط الأخضر، التي لا تحمل من سمات المدينة سوى الاسم. سكن الشاعر في أحد الأحياء التي جمعت مهجّرين آخرين من قرى كانت ولم تعد قائمة في ذلك القضاء.
افتتح محلاً لبيع السوفينير في سوق “الكزانوفا” في الناصرة، على مقربة من كنيسة البشارة. فصار مكان القطع التذكارية حاضراً لأبي نزار، علاوةً على كونه “مكتبته الخاصة”. في ذلك المكان الصغير قرأ وكتب قصائده التي نشرت وتلك التي لم تنشر، فالتأني قبل النشر كانت من سمات الشاعر الكبير الذي بدأ الكتابة والنشر بعد نهاية عقده الرابع. كان مراراً يتحدث عن شرعية النشر، عن الجهوزية في اللغة قبل الإصدار. صاحب “ضحك على ذقون القتلة” غادر الديار، بعدما نال حقه دولياً لكنه، ككثير من المبدعين، لم ينل حقه في فلسطين والعالم العربي. لم يدخل ابو نزار السياسة ولا تجارب الأحزاب، ليبقى بعيداً عن المشهد من دون أن يسوّق له سياسيون. علماً بأنَّ شعره كان في صلب المشهد.
عند استعادة سيرته، من أولها حتى نهايتها، يجد المرء ذاته أمام أشياء تتبدى في اجتماعها، وفي كل منها على حدى، أشبه بميكروكوسموس لفلسطين، التي كانت، والتي صارت، والتي ستكون. وقد نراها أيضاً في قصة لا تخلو من البساطة والعمق في آن واحد. ونراها جلية في شعره، حين قال في قصيدة “فلاح”: “”فلاح…/ ابن فلاح/ بي سذاجة الأم/ ولي مكر/ بائع سمك/ لا أوقف الجرش/ وفي حلق جاروشتي/ قبضة حب/ ولا أكف عن الحرث/ ما بقي في خرجي/ من بذاري/ ملء كف!”
في رصيده العريض خمسة دواوين شعرية: “القصيدة الرابعة وعشر وقصائد اخرى” (1983)؛ “ضحك على ذقون القتلة” (1989)؛ “حريق في مقبرة الدير” (1992)؛ “اله، خليفة وصبي فراشات ملونات” (2002)؛ “ليس إلا” (2006)، ومجموعة قصصية واحدة وهي “سمفونية الولد الحافي- ما يكون وقصص أخرى” (2003). صدرت أعماله الكاملة أخيراً عن دار “راية” (2011).
تُرجمت قصائده الى ما يقارب 12 لغة، ومن بينها أيضاً قصائد مختارة ترجمت للعبرية (ترجمة أنطوان شماس صادرة عن منشورات أندلس 2006). ويقول الناقد الأدبي أنطوان شلحت، الذي ربطته علاقة طيّبة بأبي نزار، إنَّه بعد صدور الترجمات العبرية “اعترف بعض النقاد الإسرائيليين، في لحظة صراحة نادرة، أن قراءة شعره من شأنها أن تجعل المتلقي الإسرائيلي يدرك أنه يقف، في مقابلنا، شعب فلسطيني مرتبط بأرضه ليس أقل من ارتباطنا بها، ولا ينوي أن ينسى هذه الرابطة”.
“إلى أي حقبة ينتمي أبو نزار؟”، سألنا شلحت، فأجاب أن الراحل “لم ينشأ وسط ظاهرة “شعر المقاومة الفلسطينية”. غير أن ما أنتجه، على مدار مسيرته الشعرية، لا يقل خطورة وتميّزاً في سياق الشعر الفلسطيني الحديث لأنَّ الأصل في هذه التجربة، منذ بداياتها، أنها كانت بمثابة نُشدانٍ لفنِّ الشعر الصافي، وشفّت عن “نداء الداخل”، الذي يعبّر بدوره عن أسرارِ النفسِ البشريةِ القلقة”.
ويرى الأديب الفلسطيني سلمان ناطور، الذي كان مقرّباً من أبي نزار، وقع الغياب بقوله إنَّ الراحل “لم يكتب في قصائده عن القضية إنّما عن الإنسان البسيط في القصة. والحياة اليومية للإنسان البسيط. ما كتبه عن صفورية استعادة صفورية بحياتها وليس بنكبتها وليس بموتها. هو حاول كثيراً ان يبتعد عن الكتابة البكائية والكتابة النكبوية. كتب عن الانسان المتمسك بالحياة وليس الذي يبكي على ماضيه”.
وتابع ناطور أن طه محد علي “كتب شعراً بسيطاً لكنه عميق المعاني. ابن اللجوء والقرية والحياة البسيطة والبيادر والناس البسطاء استطاع ان يحول هذه البساطة الى بلاغة أدبية”. ولا يظن ناطور أن هناك شاعراً عربياً استطاع ان يحول هذه البساطة الى مثل هذه اللغة الادبية المتميزة”، مضيفاً “أن عودته للماضي كانت من اجل استمداد القوة من الحياة”، مشدداً على “السخرية التي تميز بها ابو نزار في شعره وفي قصصه. عودة الى شخصيات قد تكون موجودة في كل مكان ولا ينتبه اليها سوى الشعراء”، خاتماً بالقول إن “طه محمد علي قرأ الواقع وهو يجب ان يقرأ بشكل مختلف. يجب ان تكون قراءة غير عادية. عندما أقرر ان أقرأ اي مجموعة أستعد ذهنياً لقراءة من نوعٍ آخر. هكذا تعيش قصائده. لأنه شاعر غير عادي”.