كردستان سوري يقلق تركيا
باريس – بسّام الطيارة
إن بدا بعض العجب من أن الاهتمام التركي انتقل من سوريا إلى … «كردستان»… يجيب مصدر ديبلوماسي بأن «هم تركيا الأول ليس سوريا ولا فلسطين ولا موقع في الشرق الأوسط بل فقط الأكراد».
أما الآن وقد بدأت المناطق الكردية في شمال سوريا تحاكي إقليم كردستان العراقي وإحكام الأحزاب الكردية قبضتها على «مناطقها» ورفع علمها على الإدارات والمباني الرسمية ومعابر الحدود، فإن الهاجس التركي المتمثل بـ«كردستان تركي» بات بين فكي كماشة يشكلها كردستان العراقي وكردستان السوري. لم تكن هناك ضرورة من تنبيه إلى أن نظام الأسد إذا حشر في الزاوية فسوف يخرج من جعبته ورقة مؤلمة لتركيا هي ورقة «أكراد سورية» خصوصاً وأن المعارضات السورية على اختلاف مشاربها كانت ترفض تقديم أي تنازلات للأقليات الكردية مثل حكم ذاتي أو اعتراف بالأكراد كمكون للمجتمع السوري، ما دفع بالأحزاب الكردية الكبرى إلى «ثورة موازية» ورفض الخضوع لأي هيئة من الهيئات المعارضة مثل «المجلس الوطني الكردي» و»حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» إلى جان بشلة من الأحزاب الصغيرة.
وبينما كانت المعارضات الخارجية والداخلية تنتقل من عاصمة إلى أخرى ومن مؤتمر إلى لقاء بين القاهرة وباريس، وبينما كانت قيادة الثورة المسلحة على الأرض تتفسخ قيادات متعددة تحتل سبحة من المراكز على الحدود التركية. كان أكراد سوريا ينظمون «إقليمهم» بالتوافق إن لم نقل بالاتفاق مع ممثلي السلطة المركزية أي النظام. من دون قتال ومن دون مذابح تم «التسلم والتسليم» وباتت الأحزاب الكردية التي تعمل تحت راية «مجلس شعبي وطني» برئاسة «عبد السلام محمد» تسيطرسيطرة تامة ما تسميه «إقليم غرب كردستان».
في هذا الإقليم لا يجود جيش حر ولا جيش نظام، إنه تقرير مصير لا يقول اسمه. وهذا ما يزعج تركيا التي بدأت تعيد حسابات استراتيجيتها التي دفعت بها إلى واجهة الثورات العربية إلى جاب قطر والسعودية.
وفي الواقع فإن نظرة إلى ظروف «عودة تركيا» إلى ساحة الشرق الأوسط من الباب الفلسطيني تضيء الكثير من الزوايا التي بقيت في عتمة التساؤلات.
أولاً لماذا استفاقت تركيا فجأة على مآسي فلسطين بعد عقود من التعاون مع حليف أساسي لها في المنطقة وماذا أوصل الأمر برجب طيب أوردوغان إلى شبه قطيعة مع «الشريك السابق» الاسرئيلي؟ يقول البعض إن «الحرب على غزة» (نهاية ٢٠٠٩ وبداية ٢٠١٠) استثارت حمية الحزب العدالة والتنمية «الإسلامي الحاكم» رغم أنه وصل إلى الحكم منذ عام ٢٠٠٢، وعلماً أن الحزب منشق أصلاً عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يتزعمه نجم الدين أربكان والذي حكم ثلاث سنوات قبل حل حزبه للمرة الثالثة وكانت له علاقات مع الدولة العبرية. يقول البعض أن أوردغان يريد «أني يحي العثمانية»، وقد وافقهم وزير الخارجية أحمد داود أوغلو بتصريح ناري له في 23 تشرين الثاني/نوفمبر عام ٢٠٠٩ بقوله في لقاء مع نواب الحزب:«لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية» وتابع في إشارة لمن يعير على تركيا توسيع بيكار اهتمامها «نعم نحن العثمانيون الجدد. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا». قال ذلك قبل الربيع العربي وقبل شهر من بدء حرب غزة، وكان التوتر قائم مع إسرائيل وأفضل دليل على ذلك «تبادل الشتائم» بين أوردوغان وشيمون بيريز في محفل دافوس في الشهر الأول من نفس العام ٢٠٠٩.
في الواقع لقد ساهم تطور الوضع الكردي في شمال العراق في قطع حبل الود والتحالف الاستراتيجي بين حليفي أميركا.
لم يكن خافياً على تركيا العلاقة «القديمة» بين أكراد العراق وخصوصاً فصيل آل برزاني والتي تعود إلى ما قبل ١٩٤٨. وفي الستينات من القرن الماضي عندما انتدبت تل أبيب خبراء عسكريين لتدريب المقاتلين الأكراد التابعين للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البرزاني غضت تركيا «العسكرية الأطلسية» الطرف على اعتبار أن تقوية هذه المليشيا تدخل ضمن استرتيجية الحرب الباردة والتصدي للشيوعية ولحلفاء موسكو في المنطقة. ولم يتخفى البرزاني الأب عندما زار اسرائيل عام ١٩٦٧ مهنئاً بنصر «حرب الأيام الستة» وقدم خنجراً كردياً كهدية لموشي دايان وزير الدفاع حينذاك وطالب خلال الزيارة بتسليح لحزبه.
كانت أنقرة تتابع ولكن لا تحرك ساكناً إذ أن إسرائيل كانت تدعم أكراد شمال العراق بينما لم تكن تدعم على الاطلاق حزب العمال الكردستاني التركي الذي يحارب الحكومة التركية .
كان الإسرائيليون يطمئنون أنقرة بأن الهدف هو إيران وبالفعل كشفت وثائق «ويكيليكس» أن قوات إسرائيلية خاصة بالتعاون مع مقاتلين أكراد قامت بتدمير منشآت بحث نووية إيرانية. رغم هذا فإن أجهزة المخابرات التركية بدأت تحذر الحكومة التركية بأن أكراد العراق بدأوا يشكلون خطراً متزايداً ليس على العراق لا بل على تركيا. وكشفت مجلة «نيويوركر» بتاريخ ٦آذار/ مارس ٢٠٠٦ أن ضباط من الموساد الإسرائيلي يقومون بتدريب مليشيات (كوماندوس) أكراد في العراق. ونقل مسؤول مخابراتي بأن «الإسرائيليين يرون في تركيا خطر إسلامي» وأن دعم الأكراد هو لتشكيل «ورقة ضغط» يمكن استعمالها في حال «شطحت إسلامية الحكومة التركية».
ولكن بدأ التوتر بين كردستان العراق وبين تركيا يخرج إلى الظاهر مع تطور الوضع الكردي اقتصادياً وعسكرياً، وبدأ مسعود برزاني يحاول لعب دور «يتجاوز الحدود» وأشهر مواقفه الحادة عندما هدد بالتدخل في شئون إقليم «ديار بكر» التركي ذي الأغلبية الكردية إذا تدخلت تركيا في شئون مدينة «كركوك» العراقية الغنية بالبترول والتي يرغب الأكراد في ضمها إلى إقليم كردستان العراق.
وعلى الرغم من أن «تهديدات» برزاني الأبن ليست أكثر من محاولة «غير موفقة» كما وصفها أحد الديبلوماسيين آنذاك، إلا أن الرد التركي جاء عنيفاً ومباشراً في تصريح حاسم لأردوغان قال فيه: «هناك شمال عراقي محاذ لتركيا يرتكب خطأً جسيماً في طريقة تصرفه، وقد يرتب عليهم ثمناً باهظاً، لقد تخطى بارزاني كل الحدود، وأنصحهم ألا يتفوهوا بكلام لا يستطيعون تحمل عواقبه، وأن يدركوا حجمهم لأنهم قد يسحقون من جراء هذا الكلام». وهو تهديد صريح بغزو الشمال العراقي.
بدأ كل ذلك قبل حرب غزة وقبل الربيع العربي وصادف ذلك مع عودة التوتر إلى المناطق الكردية في تركيا.
على الجانب السوري كان الوضع هادئاً. ليس لأن الأكراد أقل «حماسة وطنية كردية» من أكراد تركيا أو العراق (أو إيران)، بل لأن النظام السوري كان يمسك بيد من حديد المناطق الكردية ولكن هذه القبضة الحديدية كانت مغلفة بحرير إذ كان وزن الأجهزة الأمنية خفيفاً جداً في تلك المناطق في شمال سوريا وكان الحزب الرئيسي «الاتحاد الديموقراطي الكردي» يلعب دوراً أساسياً في «ضبط إيقاع الوتر الوطني الكردي»، إلى جانب حوافز اقتصادية وتسهيلات لتجارة عبر الحدود مع الجار التركي، وهو ما أسس لعلاقات ودية بين دمشق وأنقرة وصلت إلى حد إلغاء تأشيرات السفر بين البلدين … قبل اندلاع الثورة.
ما يحصل في كردستان سوريا يبدو للوهلة الأولى عامل ضعف لنظام بشار الأسد الذي يتهاوي، ولكنه في الواقع عامل توتر لتركيا أيضاً التي بات «كردستانها» يستند على كردستان عراقي شرقاً وكردستان سوري غرباً. كما يمكن أن يكون «التساهل» الذي واجه به النظام سيطرة الأحزاب الكردية على المنطاق الشمالية، ضمن استراتيجية «تقسيم إتني لسوريا» بحيث يكون للعلويين ما للأكراد في محاكاة لما حصل في العراق بين الشيعة والسنة والأكراد.
ماذا يمكن لتركيا أن تفعل؟ معلومات عسكرية غربية تقول إن أنقرة تحضر لدخول منطقة «الإقليم الكردستان» بحجة إقامة منطقة آمنة للاجئين. ويفسر هذا إقفال تركيا للمعابر التي تسيطر عليها بينما (قامشلي ونصيبين) بينما أقفل الأكراد معابر تل كوجك وتل أبيض ودرباسية وراس العين تخوفاً من الانتشار التركي العسكري الجديد على طول الحدود.
ويبدو أن هناك سباق بين التحضيرات التركية لغزو الشمال السوري وبين التحضيرات الكردية لـ«مأسسة» إمساكهم بالأرض وذلك على الطريقة العراقية. وبالفعل فقد وقعت الفصائل الكردية أتفاقاً في بينها برعاية برزاني نص على وقف الحملات الأعلامية , والغاء المظاهر المسلحة في القرى والمدن تشكيل لجنة أمنية واعادة اجراء انتخابات الإدارة والمجالس في الشمال السوري.
وفي حال دخول القوات التركية من الشمال الشرقي يكون بشار الأسد قد وضع بين قواته وبينها إقليم كردستان سوري وجعل الأكراد السوريين «حلفاء بالقوة» لمقاومته وفي نفس السياق جعل من أكراد تركيا حلفاء داخل إن لم نقل طابور خامس في ظهر القوات التركية. ما يمكنه في حال خسارته لمعركة حلب الانكفاء نحو الساحل حيث المعقل العلوي. أما الأقلية العلوية في تركيا فلها قصة أخرى تفتح سجل لواء اسكندرون.