محمد نور الدين: أصبحت تركيا أكثر قرباً من واشنطن والأطلسي
تحت عنوان « تركيا والمنطقة: المأزق المستمر»، حاضر خبير الشؤون التركية الدكتور محمد نور الدين، بدعوة من منتدى دلتا للأبحاث المُعمّقة في مقر المنتدى في بيروت، حيث قدّمه مدير المنتدى الكاتب محمود حيدر.
يقول نور الدين الذي يدير «مركز الدراسات الاستراتيجية في بيروت، والذي يصدر المجلة الفصلية المُتخصصة «شؤون الأوسط»، إن «شكل وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة عام 2002 محطة فاصلة بين مرحلتين. فبعدما كانت لاعباً اقليمياً من داخل محور الغرب والأطلسي، حاولت تركيا مع حزب العدالة والتنمية أن تؤسس لنفسها حيثية لا تتعارض مع انتمائها الأطلسي لكنها تتيح لها أن تعبّر أكثر عن البعد الإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية. وهذا ما جعل تركيا تضع أمامها هدف أن تكون لاعباً أساسياً مؤسساً لنظام إقليمي جديد، وفقاً لما يكرره دائما وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو».
لهذا يشير أستاذ اللغة التركية في الجامعة اللبنانية الى أن اتباع سياسة الانفتاح على دول الجوار القريب والبعيد أو ما عرف بسياسة تصفير المشكلات.. كان من أولويات السياسة التركية لتصبح لاعباً أساسياً.
وتحقق بالفعل هذا الأمر لتركيا بحسب الخبير اللبناني، حيث «قدمت هذه السياسات لتركيا ما لم تقدمه أية سياسات سابقة. فتحولت علاقاتها الى علاقات استراتيجية مع دول كانت الى الأمس القريب عدوة أو مصدر تهديد مثل سوريا، إضافة الى العراق وايران ولبنان ودول الخليج. وانتقلت صورة تركيا من البلد المعادي لمحيطه والحليف لإسرائيل والمهدد للأمن القومي العربي الى بلد ينظر اليه الجميع بإعجاب».
ويضيف الدكتور نور الدين أن «أحد العوامل الأساسية لنجاح هذا الدور وسطوع هذه الصورة أن التعاون التركي كان مع دول مختلفة عنها سياسياً وثقافياً وحتى مذهبياً. وهو ما أعطى أملا لبدء مرحلة جديدة من تاريخ المنطقة في أن تعيد ترتيب تحالفاتها على قاعدة تجاوز الحساسيات الاتنية والمذهبية ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ولا سيما منها الأطماع الغربية وصولا الى الحديث عن محور ثلاثي أو رباعي يضم تركيا وسوريا وايران والعراق».
لكن هذه السياسة لم تدم، فقد ظهر «عاملان أثرا سلباًعلى استمرار هذا النهج التفاعلي بين تركيا ودول الجوار ولا سيما المباشر منها: الأول هو الاعتداء الاسرائيلي على سفينة مرمرة في نهاية أيار 2010 والذي استهدف الدور التركي المتعاظم بعد نجاح تركيا مع البرازيل في التوصل الى اعلان طهران قبل ذلك في 17 ايار 2010 حول البرنامج النووي الايراني.
العامل الثاني تمثل في ما سمي بـ«الربيع العربي» والذي وجد فيه الأتراك فرصة للتفلت من أن تكون تركيا مجرد شريك للاعبين اقليميين آخرين مثل ايران في تزعم المنطقة وتنتقل لتكون اللاعب الإقليمي الأوحد. وهذا كان يتطلب إضعاف اللاعب الإيراني تحديداً ومن معه».
ويخلص نور الدين الى القول: «إذا كانت رسالة العدوان على مرمرة قد ترجمت المزيد من التعاون التركي مع الغرب وصولاً الى ظهور تركيا بمظهر الوكيل للسياسات الغربية والأميركية تحديداً، فإن وصول حركة الاحتجاجات العربية الى سوريا مثّل فرصة تاريخية لتركيا وفقا لحساباتها لكي تنتقل الى مرحلة العمل على تعزيز نفوذها وكسر التوازن الاقليمي مع إيران وحلفائها وتزعم المنطقة بمفردها بما يعكس حيثية خاصة بتركيا بمعزل عن طبيعة ارتباطاتها الاقليمية والدولية».
ويرى خبير الشؤون التركية أن مصطلح «العثمانية الجديدة» لم يعد مجرد شعار يفتري به البعض على سياسات حزب العدالة والتنمية بل بات يعكس واقعا فعلياً. وتجلى ذلك أخيراً في محطتين بارزتين.
1- في 27 نيسان 2012 أطلق داود اوغلو ما يشبه «المانيفستو العثماني» وذلك في خطاب شهير أمام البرلمان التركي لم يجد الصدى الذي يستحقه في الإعلام العربي ولا الاهتمام الضروري من جانب الأنظمة العربية سواء منها المتحالفة مع تركيا أو المعارضة لسياساتها.
صال داود اوغلو وجال في جميع قضايا المنطقة حاملا على كتفيه انقاذ المنطقة والبشرية أيضاً، معتبرا ان تركيا خلقت لهذه «المهمة».
استكمل داود اوغلو في خطبته ما كان بدأه قبل سنوات في تطلعه الى تركيا «عظيمة» وفي ان يكون الشرق الأوسط الجديد الذي يولد على شاكلة تركيا. وينقل نور الدين في سياق محاضرته عن الكاتب الاسلامي المنتقد أحيانا لسياسات حزب العدالة والتنمية، ممتازير توركينيه، قوله في مقالة نشرتها صحيفة «زمان» التركية بعد الخطاب بيوم واحد، أن داود أوغلو تكلم في البرلمان «كوزير خارجية الدولة العلية» في عز عظمتها، وعلى ظهره قفطان زهري اللون مرصّع باللؤلؤ، مستحضراً «الرابطة العثمانية» وواعداً بإحيائها».
ويرى نور الدين بعد ان ينقل أقوالاً عديدة لوزير خارجية تركيا أو مهندس السياسة الخارجية لتركيا، «أن كلام داود أوغلو عن ان تركيا ستكون صاحبة الشرق الاوسط الجديد وقائدته والناطقة باسمه ورسم ملامحه بنفسها، يثير تساؤلات كثيرة عن طريقة تعاطيها مع قضايا المنطقة ويضعها في موقع الساعي الى التغيير وفقاً لما هي تراه والى تفردها في القيادة على حساب الجميع من دون استثناء أحد من دول وازنة مثل مصر والسعودية وايران، وهو ما يثير شكوكاً جدية في طبيعة المشروع التركي في المنطقة الذي يحمله حزب العدالة والتنمية وما يكتنفه من حساسيات مختلفة تؤثر سلباً على الاستقرار، خصوصاً انه يتحرك في ظل غطاء غربي– أطلسي وتطابق شبه تام بين سياسات انقرة وواشنطن في قضايا المنطقة».
ويلفت الأستاذ الجامعي اللبناني الى أن المحطة الثانية من سياسات العثمانية الجديدة كانت في 13 تموز عندما كشف رئيس الحكومة التركية بوضوح، في خطاب في قوجالي، إن ما يحرك سياسته في سوريا والمنطقة هو النزعة العثمانية. وقال اردوغان: «يسألوننا عن اسباب انشغالنا بسوريا. الجواب بسيط للغاية. لأننا بلد تأسس على بقية الدولة العلية العثمانية. نحن أحفاد السلاجقة. نحن أحفاد العثمانيين. نحن على امتداد التاريخ أحفاد أجدادنا الذين ناضلوا من أجل الحق والسلام والسعادة والأخوة».
ويخلص نور الدين الى أن «تركيا نجحت في الأعوام التي سبقت «الربيع العربي» في أن تتحول الى لاعب مؤثر. فمارست أدوار القوة الناعمة والوسيط في النزاعات والمسافة الواحدة من الجميع والحرص على الاستقرار والتفاعل الاقتصادي مع الجميع. وهو ما انعكس ايجاباً على الداخل التركي وعلى صورة تركيا في المنطقة والعالم.
لكن انقلاب تركيا على سياساتها للأسباب التي أشرنا اليها سابقاً أطاح بالكثير من هذه الانجازات».
ويرى ان تطور الأحداث منذ سنة ونصف في سوريا وفي المنطقة لم يمنح الفرصة التي كانت تترقبها تركيا.
«فالرهان على سقوط النظام بسرعة لم يحصل.. لأن تركيا فضّلت لحسابات خاطئة ورهانات غير واقعية تنم عن قلة معرفة في حقائق وتوازنات المنطقة، اتباع سياسة الصعود بالمصعد فحرقت المراحل مفوتة فرصة ان تكون اطفائي الفتن لتكون المحرض عليها والمغذي لها. كذلك تحولت سياسة «صفر مشكلات» الى سياسة «صرف مشكلات» أو سياسة «كلها مشكلات». فساءت علاقات تركيا مع كل جوارها من سوريا والعراق ولبنان وايران الى روسيا وصولا الى قبرص واسرائيل فضلا عن ارمينيا».
ويشدد نور الدين على أن «سياسة الدور الوسيط غابت عن تركيا وباتت تحتاج الى وسيط لحل مشكلاتها ولم نعد نسمع منذ سنة ونصف السنة عن «سندباديات» وزير الخارجية التي اشتهر بها».
وبذلك «انتقلت تركيا من دور القوة الناعمة الى القوة الخشنة التي تهدد الجميع من سوريا واسرائيل الى قبرص».
ولعل أهم ما توصل اليه رئيس تحرير «شؤون الاوسط» في محاضرته هو أن السياسة التركية اكثر اطلسية وبالتالي اكثر ارتماء في أحضان الناتو.. وأكثر قرباً من واشنطن في كل المجالات.. وباتت السياسة التركية أكثر مذهبية من خلال مواقف وتصريحات ومن خلال التعاون مع دول ذات طابع سني فقط. وهذا امر خطير للغاية لأن الحفر في الحساسيات التاريخية والسعي لكسر التوازنات الحالية رغم تباين الأحجام لصالح الأكثرية التاريخية السنية سيدخل المنطقة في حروب صفين وجمل جديدة لا معنى لها ولن تكون في مصلحة احد ولن يخرج احد منها سالماً».
ويستنتج المحاضر انه كان لا بد تبعاً لكل هذه التحولات ان يتراجع النفوذ التركي في المنطقة وتتحول الى طرف في الاصطفافات الاقليمية له طابع سياسي ومذهبي ويخرج بالتالي تركيا من قوتها الأساسية كبلد له ميزة التعاون والتواصل مع الجميع.
وفي الخلاصة «فشلت سياسة العمق الاستراتيجي وانهارت سياسة تصفير المشكلات وباتت تركيا في مأزق عدم القدرة على ترجمة طموحها بأن تكون لاعباً اوحد في المنطقة لا مجرد شريك للاعبين آخرين، وأن تكون جزءاً من هوية المنطقة لا مجرد تابع للسياسات الغربية. وبات من الضروري الاعتراف بأن خطأ استراتيجيا قد حصل في كل البناء الفكري للنظرية التي حكمت السياسة الخارجية التركية منذ العام 2002 وحتى الآن».