رومانسية الخطاب الثوري ورُعْب الواقع
هي اليمن لم تزل مُعَلَّقة بين غبار التاريخ وضباب الآتي، ولن تصبح كما ارادت لها الشعارات الثوريه، بمجرد ان الشعب قد قال كلمته، فالثورات تهدف اساساً الى تغيير آليات الحكم ووسائله، ومن خلال ذلك (إن نجحت) فإنها تنتقل الى شرعية الدوله لتقود المجتمع في عملية تاريخيه طويله تتوقف أمام محطات عسيرة في مواجهة الموروثات القديمه بكل أشكالها السياسيه – الاقتصاديه – الاجتماعيه والثقافيه وتتحمل أعباء التحدي لعقود حتى يبدأ نموذج الدوله الحديثه او تباشيرها.. وبين البداية وتلك النتائج المستهدفه هناك عوالم من المتغيرات الضروريه وهناك إمكانيات متوقعه للإخفاق وربما السقوط.
إن العرب اكثر شعوب الله هوَساً بالخطاب والمنابر، ويحتل الخطباء مركزاً معنوياً عالياً وانتشاراً اجتماعياً دون الحاجه لفواصل تلفزيونيه تجاريه للترويج لهم، فالطبيعه الانسانيه للعربي موروث ثقافي ضارب في القدم تجعله ينصهر روحياً في إتون الخطابه وخاصة حين تخرج من أفواه الزعماء ذوي الصفات المنبريه والنبرات الآسره. وبهذه الآليه المحببه تتشكل الاحلام في النفوس وتتورَّد الخيالات ويُرَى الواقع كحقول بنفسج صفراء فاقع لونها تنثر أريجها فوق السهوب البعيده وحين تجتمع فنون الخطابه مع قدسية مواضيعها ذات البعد الديني أو الوطني القومي فإنها قادره على تشكيل وعي اجتماعي واختراق خطير للعقول الناشئه ولذوي القدرات الفكريه المحدودة وهم يشكلون قطاعات شعبيه واسعه.
أمَّةٌ تحتفي بنظام الخطابه وتعيش من الناحيه الفنيه على إعادة استهلاكه.
وإذا قبلنا أن اليمن يمثل عالماً ثالثاً أكثر تخلف من محيطاته العربيه والاسلاميه فان رومانسية الخطاب الثوري تحفر عميقاً في نفسيته العطشى وتتوغل في سراديب الذهنيه الآدمية المحدوده لتشكل وقوداً حيوياً وعفوياً مندفعاً دون ان (يتَبَوْصل) مع انعدام الحصانه الفكريه، مما يجعله متيقناً انه بعد غد سيتحول اليمن مثلاً الى دوله سكندنافيه على الاقل وقبل ذلك سيتم حلَّ كل الازمات والمعضلات.
فاقدون الإحساس بالتاريخ و(متعامون) عن الدروس المؤلمه التي مرت والتي ستعود بصيغة اخرى وربما أشدَّ قسوه.
فعندما دخل اليمن وحدته اشترط قادة الجنوب ان تكون وحده مضاف لها ديمقراطيه وكأنها وصفة يتم إعدادها في مطعم شعبي ولم يدركو ان الديمقراطيه عملية تاريخيه وقيمة حضارية بعيدة المنال، وحين انتبه القوم كان الموت قد حاصرهم فتركوا سلاحهم وخطابم و(شردوا).
وبالعوده لثورة التغيير فانه يمكن القول إن الجميع الآن يعيش وضعاً ثورياً (ناقص او سالب) لم تكتمل شحنته تماماً كما سعى لها شباب التغيير الذين سُٰفِكت دماؤهم، بل كما يعلم الجميع تم التحول نحو آلية وفاقيه.
إن ما يعنينا هنا ليس تقديم تحليل سياسي مرحلي، وانما محاولة كشف الفجوه الكونيه بين رومانسية الشعار ورُعْب او قسوة (خفيفه على السمع) الواقع.
إنَّ ما قدمته الثوره هو انها أخرجت الازمات والمعضلات أجمعها الى السطح ووضعت الجميع أمام تحدي هائل مع تغيير نسبي تمثل في وضع الية للحكم الموصوفة ضمنياً بالانتقاليه، أي بمعنى آخر ان الواقع الان هو من يتكلم بصوت صدَّاح ويؤشر الى حقيقه بان من الازمات والمعضلات التي تكشفت ما يحتاج الى تاريخ طويل (مثل الانتقال الى دوله مدنيه وزرع قيم حديثه وحل الصراعات الطائفيه والجهويه والقبليه وكذلك التنميه الانسانيه والاقتصاديه… الخ).
وان من الازمات الأخرى والأهم ما يحتاج الى واقعية سياسيه واعتراف بالحلول الموضوعيه واتخاذ قرارات تاريخية شجاعه (كالقضيه الجنوبيه مثلاً) حتى يغدو كل شئ جزءاً من الماضي، إذا لم ينتكس المسير ويضاف كركام فوق سابقه (وهو امر وارد).
إن الوضع الانتقالي هنا لا يشمل كل شي بل الفوز بالتهدئه وإقرار مبادئ عامه كقواسم يأخذ بها الجميع لنزع فتيل الانزلاق الى هاوية اللاعوده… وهذا أمر ضروري لكن يجب الاعتراف ان أي آلية حتى لو كانت حواراً شاملاً لن تنتج حلولاً سحريه لتفكك المعضلات او تحجمها تمهيداً لإجراء علاج ناجع.
ليس الامر هكذا. فالثورة نجحت في تفكيك المشهد ولم تحقق اجتياحاً شاملاً يبطل مفعول ازمات التاريخ بعلاجات راديكاليه لا مساومة فيها كما هو شأن الثورات الاخرى، على خلفية (خصوصية اليمن… الخ أو هكذا يُشاع)، وبهذا فان الحاجه الى ترتيب الوضع بشكل آخر وبلمسات ثوريه مع الاحتراس من مناطق الخطر والتعامل معها بحذر شديد، أصبح محتوى الفعل الحالي ولا ينفع التنبؤ حيال ماذا سيؤول اليه.
وهذا لعلمنا جميعاً صيغة مهادِنه كما هو حال الوفاق في كل الدنيا، ويحتاج الى نَفَسْ طويل المدى وقابل للتمديد بل الاعتراف ان الحوار المنشود آليه تجريبيه وليست هدفاً، ولن تنجح تلك الآليه الا اذا اعترف الجميع بان المعضلات التاريخيه الكبيره تحتاج الى حلول تاريخيه مؤلمه وهي معادلة يفهمها كل رجالات التاريخ في الدنيا وعبر العصور.
اما الدروس التي تعلمناها من عمليات الوفاق المفروضة من الخارج فهي ليست الا اختصار لصفة التهدئه المزَمَّنَه (مصطلح كئيب) ما ان تلبث حتى تتراكم غيوم اكثر سوادا، فالوفاق بين خصمين يتقاتلان على السلطة والمصالح والسياده المطلقه، وفي دولة بدائيه لا مدنيه لا ديمقراطيه، هو وفاق بين الشرارة والبارود وحين يصبح الوفاق يمنياً يكون اللحن أكثر رومانسيه.
لكن دعونا نترك الامر للمستقبل القريب ونعود لكلامنا وهو انه وفي ظل هذا الوضع المتحرك فانه يجب الاعتراف بالواقع وهو ان اليمن لن يتحول بالسرعة التي تمناها الشباب واستهواها من ركبوا الامواج بخفة معهودة، وحين نعترف بذلك فان علينا اسقاط التسويفات والوعود والاعتراف بان هناك معضلات حقيقيه لا تنفع معها دروس الخطابه او كيد المنابر.
إذاً الابتعاد اولاً عن الرومانسيه الخطابيه وثوابتها المتعفنه، في بلد يجثم فوق حقول من الاتعاب ولم تنتقل السلطة فيه بشكل كامل بعد، وإن انتقلت بعد حين فلا بد ان لا تنتقل من اليد اليمنى الى اليد اليسرى بل بمفهوم الانتقال الديناميكي النوعي.
ان الخلاصه من هذا الامر تصب في ضرورة الاعتراف بالأزمات الكبيره وعدم الانقلاب على الحلول الموضوعيه التي لن تاتي في سياق عقليات الماضي بتطويع الواقع خلف الاحلام بل بقبول نموذج عقلاني يتحلى بالثبات وترشيد الاحلام لتركيبها بواقعيه على أرض يجد الشقاء فيها موطناً أصلياً.