نظرتكم لي… “عاطلة”!!
القدس ــ فادي أبو سعدى
“لم أكن أعلم بمرضي بعد، وكل ما حدث هو أخذ عينة من دمي لفحصها والخروج بنتيجة لما أعانيه، كل ما كان هنالك أنني أعاني أوجاعاً في المعدة.. لكن هذا لم يكن حال الناس في البلد، الذين قرروا عني بأنه تبقى لي عشرة أيام فقط قبل الموت، ومنهم من قال ثلاثة أشهر، وهناك من قال “وجهي أصبح من البلاستيك”، أو أنهم أخرجوا كل ما في بطني وقاموا بتنظيفه وأعادوه كما كان! ولا أعرف من أين جاءت كل هذه التنبؤات وكأنهم كانوا معي في العملية، أو داخل المستشفى”!
هذا ما بدأ يحدثنا به “ر-ش” الذي التقته “أخبار بووم”، بعد قرابة عام من علاجه الذي انتهى، ورغم أن مرضه لا يصنف علمياً بأنه من أمراض “السرطان” إلا أن علاجه أقسى من علاج السرطان، لكنه يشبهه من حيث استخدام “الكيماوي” والكثير من العلاجات الأخرى للتخلص مما يعانيه.
“البداية كانت بأن الطبيب لم يخبرني بمرضي، لكن وللأسف “البلد بأسرها” علمت، وهنا بدأت الشائعات والأقاويل من كل من أعرفه ولا أعرفه، حتى وصل بهم الحال القول بأن زوجتي اتصلت بأهلي وقالت لهم “تعالوا دبروا حالكو مع ابنكو.. أنا ما بخصني.. وقالوا أنها تركت المنزل وأخذت طفلتي معها”!
في إحدى المرات تعبت وأنا في المنزل، وكنت أنا وزوجتي لا زلنا بانتظار نتائج تحليل الدم، ولا نعرف أكثر من أن لدي “تقرحات في المعدة”، فاستدعينا الطبيب لأنني بحاجة إلى جرعة من “الكلوكوز”، وما أن انتهى الطبيب، وذهبت زوجتي لتدفع له “ثمن الكشفية” قبل خروجه، حتى فاجئها بالقول “بسيطة.. معو المرض في الغليظ، بس لا تخافي بتعالج، أو بقصوا شوية من المصران، مع شوية كيماوي وأشعة.. يعني سنة زمان وبرجع منيح”! فكانت الصدمة على زوجتي رهيبة.
“الناس تعتقد أنني أشعر بالخجل من المرض” يقول ر- ش، أو أنهم يشعرونك بأن المرض عيب، أو عورة، ولا أعرف لماذا يتعاملون معي هكذا؟ أو تشعر بأنهم عندما تمر بهم وكأنهم يقولون “ها هو المريض”، لماذا ليسوا صريحين معي، ولا يحبون الحديث إلا من وراء ظهري؟ رغم أنك تشعر بأن الجميع يريد أن يعرف كل شيء”.
“أسوأ ما في الموضوع كان بعد كل جلسة علاج بالكيماوي، وعند عودتي للمنزل، تجد أن كل “البلد” أتت لزيارتي، وأن خطوط الهاتف الأرضي والنقال لا تتوقف، بينما بينهم أناس لا أعرفهم ولا تربطني علاقة بهم، لكنهم يتصلون في محاولة لمعرفة تفاصيل عن حالتي ووضعي، لمزيد من الشائعات”.
“كما أنني وفي تلك الحالة، تكون مناعتي منخفضة بشكل كبير، ولست في وضع نفسي يجعلني أريد رؤية أي شخص أو الحديث مع أي أحد”.
“أكثر ما كان يؤثر سلباً في علاجي خلال فترة العلاج، هو موقف “البلد والناس” ولأن كل مريض بحاجة لأن تكون معنوياته عالية كي يستطيع المقاومة، كانت الشائعات والكلام الغريب الذي كنت أسمعه “يتعبني بشدة”.
“حتى أنه وفي مرة من المرات أتى أحد أقرب المقربين لي لزيارتي، والسؤال عني بشكل غريب، بعدما وصل إلى مسامعه من “البلد” بأنني عدت إلى المنزل “لأموت.. لأنو ما في فايدة مني”!
خلال مرضي، يحدثنا ر-ش، بأنه شعر بالمرض مرتين أخريين، وقصد بذلك صدمات سلبية تلقاها بينما هو بحاجة لمزيد من المعنويات العالية للتغلب على المرض، وبينما يهم بإخبارنا بتلك الصدمات، آثر أن يبدأ بالقول “بينما كنت أتعالج توفي أكثر من عشرين شخصاً في المستشفى “بمرض السرطان”.
“كان بجانبي شاب من غزة، ضخم، ورغم العلاج، كان يستطيع أن يأكل ما يريد، بينما لم أكن استطع أن أشرب الماء، وكان ينزل مشياً إلى الطوابق السفلية في المشفى ليدخن! وخلال غيابي عن المشفى وعودتي إليه في إحدى المرات قالوا لي إنه “رحل” فاعتقدت بداية أنه عاد إلى غزة، حتى قالوا لي انه “توفي”، فتعبت بشدة لأنه كان أقوى مني بكثير، ورحل، فكيف سأكون أنا؟”.
“الحادثة الثانية لرجل من المدينة كان مصاباً “بالسرطان” وفي إحدى المرات بعد عودتي من المستشفى، جاء لزيارتي في المنزل وقال لي بالحرف “جئت لأودعك، فقد قالوا لي بأن وضعك صعب للغاية”، وبعد أيام عدت للمشفى لمواصلة العلاج، وإذ باتصال يخبرني بأنه توفي! رغم أنني رأيته هو الآخر أقوى مني عندما أتى لزيارتي”.
“الأمر الثاني المتعب كان “الأطباء” الفلسطينيين، الذين بالكاد كانوا يتحدثون إلي.. وإن فعلوا فإنهم لا يوصلون المعلومات الكافية لي كي أعلم أين أقف، أو وكأنهم لا يملكون تلك المعلومات، لكن وللأسف يقول ر-ش، “أولاد العم” من الأطباء الإسرائيليين كانوا يعطونني الكثير من الوقت، ولا يتركونني إلا بقول “هل وصلتك كل المعلومات التي تحتاج؟ وهل هناك ما تريد أن تعرفه ولم نقله لك؟”.
“وهنا أستذكر بأن بدايتي كانت من أسناني، واضطررت على اثرها لزيارة 17 طبيباً، كلهم جربوا معي كافة أنواع المضادات، دون أن يعرف أحدهم ما أعانيه، أم ماهية مرضي، ما جعل الأمر يأخذ وقتاً طويلاً، وجعلني حقلاً للتجارب”.
“الأطباء نفسهم في مستشفياتنا الفلسطينية”، يقول مريض آخر لـ”بووم” “قالوا لي مرة إن هناك خلايا “عاطلة” تبينت لنا في الفحص الأولي ولا أعرف لماذا يسمونها “عاطلة”، ولا أعلم إن كانت الكلمة بحد ذاتها تمثل مصطلحاً طبياً، وأقول صراحة، “إن مشاعرنا تهان باستخدام هكذا كلمات بحقنا”.
“العناية الإلهية حاضرة دائماً” يقول ر-ش، “هذا ما كنت أشعر به دائماً، فقدت علمت بمرضي في نفس اليوم الذي علمت فيه بأنني سأرزق بمولود جديد، وعندما علمت بأنني تعافيت تماماً من المرض، كان ذلك في نفس الوقت الذي وضعت فيه زوجتي مولودنا الجديد!”
وختم ر-ش حديثه لنا، أقول لكم صراحة، “إنني أعلم بأنكم لن تصدقوني لو قلت لكم بأني شفيت، لكني شفيت فعلاً” وأعلم بأنكم ستواصلون النظر لي ولغيري ممن تعلمون أنهم مرضى أو كانوا كذلك، بتلك النظرة التي نكرهها، بينما لا تعرفون حقيقة مشاعرنا، ولا ما نحتاج إليه منكم.. وهو ليس الحزن أو الشفقة علينا من طرفكم!.”