تكتيكات القيادة السورية: النسف بالقصف
فداء عيتاني – ريف حلب
يتحرك المقاتلون من ثوار سوريا في سيارات مكشوفة، وعيونهم نحو السماء، انها الطائرات التي تمطرهم بالصواريخ والقنابل المصنعة محليا في سوريا والتي يطلق عليها اسم البراميل، كما بخزانات وقودها المثبتة على جانحيها، والتي لا يميزها الثوار عن البراميل المتفجرة، كما تمطرهم بنيران رشاشاتها من عيار 30 ملم، الغزيرة الطلقات، الثوار يتحركون وهم على الشاحنات الصغيرة، تماما مثلما اعتادوا التحرك في حياتهم المدنية.
العيون مثبتة على السماء فان غابت الطائرات تظهر المروحيات، التي عادة ما تمطر القرى والطرق بالنيران، تماما كما الطائرات، الا ان للمروحيات مهمة اضافية: نقل الامداد الى المواقع السورية التابعة لقوات الجيش المحاصرة من قبل الثوار.
في المساءات تنزل القذائف المدفعية على القرى، وعلى الطرق العامة، مدفعية من عيار 122 ملم، او اخرى من عيار 130 ملم، تنفجر، وعادة ما يسقط المدنيون في انفجاراتها، فيركض السكان المتبقون في القرى لانتشال الضحايا، وللمشاهدة، يقفون حول المكان المقصوف، يتجمهرون، قبل ان تسقط بعد دقائق قذيفة اخرى في الموقع نفسه لتسقط المزيد من الجرحى والقتلى.
تكتيكات الجيش السوري تغيرت منذ معارك حلب، كان القرار هو ترك الريف لسكانه الثائرين، الحفاظ على المواقع التي يمسك بها النظام في عمق الريف ومدها بالمؤن والذخائر عبر الطائرات المروحية، وتبديل العناصر كل بضعة اشهر، او تعويض الخسائر في الارواح بالاسلوب نفسه، والحفاظ على المواقع الرئيسية حول المدن باي ثمن.
حين سقطت اغلب مناطق حلب بيد الثوار تحولت تكتيكات الجيش السوري الى ممارسة ضغط ناري متواصل على المناطق الريفية كما على المناطق الثائرة في المدينة، القصف المتواصل، الغارات الجوية، تحليق المروحيات بشكل متواصل، نسف القرى بقنابل جوية (براميل) تحمل 500 كيلو من المتفجرات، تحويل الحياة الى جحيم يومي في كل القرى والمدن القريبة بشكل خاص من مدينة حلب، وخاصة تلك التي تشارك قواتها في الدفاع عن مواقع الثورة في المدينة الكبيرة.
بعد اشهر قليلة على اعلان جبهة النصرة، التنظيم الجهادي المرتبط كما يبدو بتنظيم القاعدة، عن تكتيك “القصف بالنسف”، وهو ما بدأ يثير انزعاجا بين ابناء الريف السوري، وخاصة قيادات الثورة المحلية، بدأ النظام السوري من ناحيته تنفيذ تكتيك “النسف بالقصف”.
تحلق الطائرات من طراز L 36 التدريبية، سريعة الحركة والقادرة على المناورة، فوق القرى، تدور حول هدفها مرة اثر اخرى، احيانا يتمكن السكان من الفرار من بيوتهم نحو الحقول قبل حصول القصف، تنقض الطائرة في المرة الاولى ثم ترتفع مجددا في الجو، وفي كثير من الاحيان تتعرض لرمايات عشوائية من رشاشات ثقيلة سبق ان غنمها الثوار من الجيش السوري، رمايات من رشاشات 23 ملم، او حتى من رشاشات من عيار 12.7 مثبتة على شاحنات رباعية الدفع محليا، وفي بعض الاحيان يعم الجنون بين المقاتلين، وتأخذهم الحماسة بعد رؤيتهم الانقضاض الاول، او الغارة الوهمية للطيار ورصدهم قرب الطائرة منهم، فيشرعون باطلاق النار من رشاشاتهم، محاولين اللحاق بحركة الطائرة السريعة والزئبقية، ثم ينقض الطيار مرة اخرى ويرمي برميلا، فيشاهده الجميع وهو يهوي متقدما في الهواء نحو هدفه، ببطء مقارنة بسرعة الطائرة التي القته، قبل ان ينفجر.
عادة يكرر الطيار هجومه، فيعاود الانقضاض، راميا موقعا اخر، او حاجزا للثوار بنيران رشاشاته الثقيلة، او ملاحقا سيارة على الطريق العام خارج القرية بهذه النيران، قبل ان يحلق عاليا ويغادر القرية.
في ليال عديدة يتحرك الطيران ويغير لمدة تفوق النصف ساعة، وفي كثير من الاحيان تحلق الطائرات النفاثة سواء من طراز L 36، او ميغ 23، او حتى سوخوي، فوق القرى بينما تتولى مروحية او اكثر القصف واطلاق نيران الرشاشات من جانبيها على المناطق.
في بداية عمليات القصف في اشهر حزيران وتموز 2012 كان توقيت القصف متوقعا، هو ليلا، لشل عمليات تنقل الثوار على الطرق الرئيسية، وعمليات تبديل قواهم، او منعهم من اقامة كمائن، او تعطيل حراكهم حتى داخل قراهم، وهذه العمليات كانت في تلك المرحلة متواضعة، فبضعة قذائف على كل قرية من القرى الاكثر نشاطا والاكبر كانت كافية بنظر ضباط الجيش النظامي لارباك حراك الثوار.
استثني من هذه العمليات الصغرى قرى كعندان واتارب، التي كانت محاور قتال مباشرة بين الجيش النظامي والثوار نظرا الى طبيعة مواقعها الجغرافية الحساسة، فتعرضت لتدمير كبير عبر القصف المدفعي بعد ان فشلت عدة هجمات للجيش النظامي عن اقتحامها، وتحولت في النهاية الى قرى خالية من السكان نهائيا ولكن ليس قبل ان تسقط كل مواقع الجيش السوري في محيطها.
اليوم تغيرت التكتيكات، صار القصف المدفعي مفاجئا، وكذلك غارات الطائرات التي لم تعد تلتزم بزمن محدد، ومثلها المروحيات التي تنثر نيرانها في كل الارجاء، الا ان الطائرات كما المدفعية حافظت على تقليد دائم ظهر منذ لحظة بداية استخدامها في المعركة: عدم اصابة الاهداف، او عدم الضرب على اهداف محددة اساسا.
فها هي طائرة ترمي نصف طن من التي ان تي على مقبرة، فتطيح بالقبور وعظام الموتى من اعلى المقبرة الى اسفل الطريق العام، وها هي مروحية تضرب مكان اشتباك فتصيب الجنود التابعين للنظام، وتلك قذائف تضرب احياء للمؤيدين للنظام، وتغير طائرة حربية برشاشاتها على شاحنة قاطرة فتفسد مئات من البدلات الرجالية الرسمية وربطات العنق والملابس الداخلية البيضاء المصنوعة في سوريا بقطن سوري مئة بالمئة.
ينظر الثوار الى السماء طوال الوقت، متخوفين من الطائرات، ويرددون حين يسهرون انهم لم يتوقعوا يوما ان يتعرضوا لكل هذه النيران، “في البداية كنا نقول ان النظام لن يستخدم الجيش، ثم قلنا ان الجيش لن يستخدم رشاشات (BKC) في قمعنا، ثم قلنا انه وان استخدم هذه الرشاشات فلن يستخدم الدبابات، ثم اعتبرنا انه من المستحيل ان يستخدم القذائف، وبعدها الطائرات، وها نحن اليوم نرى كل شيء يستخدم ضدنا ولا زلنا نقول انه لن يستخدم الغازات السامة والاسلحة الكيميائية”.
اغلب الثوار هم اما مسرحون من الجيش النظامي بموجب قانون الخدمة الالزامية الشاملة في سوريا، او مقاتلون منشقون من صفوف الجيش فروا الى مناطق الثورة، ولكن خبراتهم العسكرية اقل من متواضعة، يشبهون الى حد كبير تلك القوات الكبيرة من المشاة التي يواجهونها من الجيش النظامي، جنود يحملون اسلحة قديمة ومستهلكة بخبرة تكاد لا تسمح لهم الا باطلاق النار، دون امكانية اصابة الاهداف.
هؤلاء الثوار – الهواة على المستوى العسكري القتالي، بداؤا مؤخرا بالتعرف على الاسلحة التي تستخدم ضدهم، واستهلكوا اسابيع طويلة في التأقلم معها، قبل ان يصلوا الى خلاصات بسيطة تقضي بالانتشار فور تحليق الطيران، والامتناع عن التجمع لحظة القصف المدفعي العشوائي، الا ان ما يعرفه هؤلاء لا يلتزمون به دائما، كما ان من الصعوبة بمكان ضبط حركة المدنيين الموجودين في مناطق القصف والغارات.
في المقابل يعلم من يرسم الخطط العسكرية في قيادة الجيش السوري، كما يعلم كل من تابع نظريات الحرب الحديثة الصادرة في الولايات المتحدة والمطبقة في لبنان من قبل الجيش الاسرائيلي العام 2006، ان نظرية الانتصار من السماء، وحرب الطائرات قد سقطت، وبالتالي فان افضل ما يمكن ان تؤدي اليه الحرب من السماء هو ضرب الاهداف وتشتيت القوى واحداث خراب وفوضى، ومنع التجمعات واستهداف مخازن الاسلحة والطعام، وربما ضرب المعنويات، دون ان تؤدي الى تحويل في طبيعة المعركة.
انها الطائرات تغير مجددا فوق قرى حلب، وبدل ان يتعامل الثوار بجدية مع تكتيكات خصمهم، وابتكار تكتيكاتهم المقابلة يتكاسلون مفضلين انتظار المبادرات العسكرية للنظام والصراخ في البرية دون مجيب.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة