سوريا..غزّة..لبنان: موازين القوى في تحولاتها
طانيوس دعيبس
سبق وأشرت إلى أن لبنان يمر اليوم في لحظة تصادم وليس في لحظة توافق. ولا تنقص الأدلة على ذلك بالتأكيد. لا في خطاب حزب الله ولا في خطاب قيادات 14 أذار. ولا في دوافع مبادرة وليد جنبلاط “لصيانة السلم الأهلي” على ما هو واضح من أهدافها. وتتفاقم الأزمة باضطراد بفعل غياب النقاش السياسي في البلاد بشأن إمكانية إدارة الصراع من دون اوهام تحقيق المشاريع المتضاربة. وتحل محل هذا النقاش الضروري القطيعة بين القوى السياسية والتراشق الكلامي الموجّه للمحازبين أكثر مما هو موجّه للخصوم، لأن الوقت هو وقت شد العصب وعدم تراخي الإصطفاف.
الخنادق المتواجهة تعتقد كل صحبة من أصحابها أن ميزان القوى يميل لصالحها. وأنها بصمودها على سقوفها العالية ستصل في النهاية إلى لحظة الإنتصار. الرهانات في ذلك هي طبعاً على الخارج. فبه الإنتصار على الداخل. أو بتعبير أدق، يتحقق انتصار الداخل كنتيجة حتمية لإنتصار الخارج. والمقصود الأول بالخارج هو الأقرب، سوريا. غير أنه ليس الوحيد، بفعل التظهير السياسي المضاف الذي ساهمت بكشفه حرب غزّة.
إن عنصر المقاومة والمواجهة مع إسرائيل أساسي، بل يكاد يكون في الظاهر الوحيد المحدد لطبيعة الصراع في لبنان ولموازين قواه ( في الكامن هي أشمل من ذلك وأوسع ). وما ظهّرته حرب غزّة زاد في إرباك هذه الموازين. فحماس تقاوم وتواجه في غزّة بعد أن أقفلت مكاتبها بالشمع الأحمر في دمشق قبل أيام، ودمشق ، بالنسبة لحزب الله، ركن من أركان المواجهة مع العدو. والوسيط الرئيسي في التفاوض مع إسرائيل هو السلطة المصرية، سلطة الأخوان المسلمين، التنظيم الذي تنتمي إلى تياره حماس. والذي يتولى الدفاع الديبلوماسي عن غزّة هو الثلاثي المصري- القطري-التركي، الثلاثي الذي يسعى إلى إسقاط النظام في سوريا. والذي يتظاهر في بيروت دعماً لغزّة هو تيار المستقبل ، ووفد 14 أذار يزور السفير الفلسطيني داعماً ومناصراً، فيما هو معروف الموقف السلبي لهذه القوى من مقاومة حزب الله في لبنان. وحزب الله يكتفي بالتركيز على امثولة المقاومة في غزّة كطريق وحيد يجب اعتماده، في اللحظة التي كان فيها خالد مشعل، زعيم حماس يقود التفاوض لوقف النار في القاهرة.
هو مشهد متداخل ومعقّد ومن الصعوبة بمكان الإحاطة به بشكل كامل وواضح. لكنه عاكس في الوقت ذاته لمتغيرات من الخطأ، إذا لم يكن من الخطيئة، تجاهلها. وهي متغيرات فاعلة على مستويين في لبنان: مستوى مقاربة الكتل المتواجهة لمفهومها لميزان القوى، ومستوى صياغة الموقف السياسي الداخلي استناداَ إلى هذا المفهوم. في المستوى الأول يتبدى تراجع الدور الإيراني في حمل راية التصدي لإسرائيل، واضمحلال الدور السوري المستدير كلياً باتجاه داخله المتفجّر. وبالمقابل تصدّر الثلاثي التركي-المصري-القطري لحمل الراية، من موقع العلاقة والتفاوض مع إسرائيل. ( يلاحظ هنا أيضاً غياب الدور السعودي ). الأمر الذي يترك حزب الله شبه وحيد، بالرغم من استناده إلى الدعم المادي واللوجستي الإيراني، داخل جبهة الممانعة. وهو ما تحسبه قوى 14 أذار اختلالاً يرجّح غلبتها.
قراءة حزب الله مختلفة طبعاً. ويمكن الإستنتاج من التصريحات المعلنة والتحاليل المستندة إلى مصادر مقربّة من الحزب ومنشورة في الصحف أن قناعة حزب الله وحلفائه تقوم على تقدير يفيد بصمود النظام في سوريا، وان التوازنات الدولية والإقليمية لا ترجح سقوطه، بل بالعكس فهي تظهر أهمية وحاجة بقائه لعدم سقوط سوريا بأيدي التيارات السلفية المتشددة. بالإضافة إلى أن التغيير الحاصل في المنطقة هو في جوهره معاد لإسرائيل، وبالتالي هو يصب في مصلحة المقاومة التي يتبناها حزب الله وتدعمها إيران.
وهذا يقودنا إلى المستوى الثاني من الفعالية، مستوى صياغة الموقف. ذلك ان القراءة المتناقضة تقريباً لعناصر الإختلال بموازين القوى، تقود إلى صياغة مواقف متضاربة وعالية السقف من الجانبين. موقف القطيعة ورفض التفاوض من جانب قوى 14 أذار، على اعتبار أن قواعد الإشتباك التي بنيت على قاعدة عناصر القوة لحزب الله ومحور الممانعة انتهت مبرراتها وصلاحيتها. وموقف الرفض القاطع من جانب حزب الله لما يعتبره أحلام يقظة عند الخصم، وإسقاط رغبات على واقع مغاير، أو لم يتغيّر بما يسمح بترجيح خسارته.
خطاب الإستقلال الذي ألقاه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان أمس، والذي شذّ تلفزيون حزب الله عن بثه في التوقيت نفسه مع بقية الشاشات اللبنانية، أكد على اولوية اعتبار “إعلان بعبدا” الذي سبق وأقرته طاولة الحوار، خريطة طريق يجب السير بمقتضاها لتحصين لبنان من مخاطر الزلازل المحيطة به. وقد يكون موقف الرئيس محاولة للسير بين نقاط الموقفين المتضاربين لخندقي المواجهة. إلا أن نجاحه غير مضمون بعد، لأنه مرهون بحوار لا يبدو ان أوانه آن. وقد يكون مرتبطاً بمصير مبادرة وليد جنبلاط، التي في ضوء نتائجها قد يقرر زعيم المختارة اي طريق حاسم سيسلك..