غزة الآن
غزة فلسطين- فداء عيتاني
الحياة العادية في غزة، اطفال يلعبون قرب الشاطئ، يتحول منظر الاطفال هؤلاء الذين يلهون غير بعيد عن مراكب الصيادين الى كليشيه لدى المصورين الغربيين والعرب، كل شيء في غزة يشبه معرض الصور، الاطفال، الرجال، عربات تجرها البغال، المباني، المناطق التي تعرضت للقصف. ويعيش اهل غزة الذين يعدون مليون و800 الف انسان في حالة من حصار ملتبس، حصار ولا حصار، تهريب من ناحية مصر ودخول شرعي للبضائع من ناحية اسرائيل، مع تقنين متواصل في البضائع وانواعها وباقي الحاجيات الضرورية للحياة.
لسبب ما، ربما هو الكليشيهات، او صورة الحلم، او الصور الفوتوغرافية التي طالما كنت نحدق فيها منذ الصغر، لم اعتقد للحظة بان السماء يمكن ان تكفهر في فلسطين، او ان يغطي الغيم ارض القطاع، كنت اراها دائما مشمسة او صافية السماء، ولحظة دخلت باحثا عن حالة الطقس في الانترنت اكتشفت انها تمطر اليوم، في ذكرى الانتفاضة، وفي ذكرى انطلاقة حماس، السماء غائمة وتمطر في بلاد لا اراها في مخيلتي الا صافية ومشمسة.
ولم اجد تلك المناطق التي كنت اتخيلها او التي رسخت في ذاكرتي من فلسطين الصور الفوتوغرافية، وجدت ارضا تشبه كل بلادنا العربية التي تجولت فيها، تشبه بعض مناطق سوريا وتشبه بعض مناطق لبنان، وتشبه عالما ثالثا فقيرا يعيش حياة رتيبة. اين اختفت حالة الحرب بهذه السرعة؟ كما هي العادة، وكما اعتدنا في لبنان وفي كل مناطق الحروب في بلادنا، حين يتوقف دوي القنابل فان الحياة تعود لتستمر ولو باصعب الاشكال والظروف.
يستمر البحر بضرب شاطيء غزة، ولكن ومنذ الليل كان الصيادون ينشرون شباكهم في المياه، صيادو غزة يستدعون في ذاكرتي جدودي الصيادين في رأس بيروت، اولئك الذين اخذوا الى معركة الفشل في تحرير فلسطين قبل ان نبدأ بالقول ان الامر كله كان خيانة، وقبل ان يخرج جيل المقاومة العام 1968 ويتابع بالتطور في العام 1982، ويصل الى تحرير العام 2000.
في ارض غزة تشعر بان كل ما فعله اهلنا ورفاقنا واخواننا وعلى اختلاف رؤاهم السياسية وقناعاتهم الفكرية، كان يهدف الى اعطاء الحرية للانسان في هذه المنطقة، الارض نفسها لا قيمة لها الا بمن يعيش عليها، وبما تختزنه من عبق انسان كان هنا في الماضي ورحل تاركا لنا تاريخا على ارضنا.
ابتسم من اعماقي حين يقول لي صديق ونحن نعبر اخر نقطة مصرية نحو ارض فلسطين: “من هنا والى الداخل الفلسطيني ستفقد انت كلبناني حق العمل وكل الحقوق الاخرى، التملك وغيرها” يضحك الصديق واجيبه بانني مستعد ان افعل مثلما يفعل الفلسطينيون في لبنان “سأعمل سائق اجرة ودون معرفة السلطات”.
هنا يشعر ابن فلسطين اللاجيء انه اخيرا يملك وطنا، قال احدهم لحظة دخل الباص الى معبر رفح من ناحية غزة “لقد اصبحنا في الوطن” لم يستخدم تعبير وطننا، او فلسطين بل “الوطن” ويكفي هذا ليشير الى ان لا وطنا له غير هذا، ولا يرى في نفسه الا انسان فلسطيني.
سائقي الباصات على المعبر لم يكونوا بالسرور نفسه، وهو امر طبيعي، ثقل الحياة والحروب والصراعات والحصار يلقي بنفسه عليهم، الحياة اليومية تبقى حين يتراجع الخبر الفلسطيني عن ان يكون اولا على شاشات التلفزة وفي الاعلام، وهم يتابعون حياتهم بمفردهم في ظل نزاعات لا تنتهي بين اطراف فلسطينية متعددة، ومع عدو واحد، لا يرى فيه السائقون الا محتلا.
ولكن هذا المحتل لا يزال موجودا بينهم، يخرج سائق الباص من جيبه كيسا صغيرا ملئيا بالقطع النقدية الاسرائيلية، ويظهرها لي: “هذا الشيكل الاسرائيلي، لا زلنا نتعامل بالشيكل، انا احمل العملة الاسرائيلية، عملتهم قوية، هم دولة قوية، وهم زبدة الحضارة الاوروبية” يقول وهو يهز كيس الشيكلات ليصدر رنين عملة العدو.
ليس كل اهل غزة حماس، او كلهم من المتشددين دينيا كما يرغب البعض في تصوير الامور، او كلهم من المسلحين المقاتلين، الحياة هنا ايضا طبيعية الى حدود ما، ولا يربي اهل غزة كلهم الذقون، وحين وصل خالد مشعل الى الجانب الفلسطيني من معبر رفح كان في استقباله شخصيات من فصائل فلسطينية متعددة.
لم يلغ التنوع في غزة وان كانت القيادة لحماس، وستسمع من سكانها تعابير مثل “انسان مناضل” وانت تتوقع تعبيرا كـ “انسان مجاهد”، سترى الاسواق المتنوعة، ستسمع الى اراء مختلفة، وستسمع سائق الباص المعتز بانتصار غزة يقول “لقد ارسلت لنا الولايات المتحدة امير قطر حتى لا ينفجر الوضع، قالوا له اذهب واعطهم بعض المال” قبل ان يضيف “حين ضربت المقاومة تل ابيب خاف العالم على الهيبة الاسرائيلية فاوقفوا الحرب، نحن لم ندمر اسرائيل، وما ضربته المقاومة لا يقاس بما ضربته اسرائيل، ولكن ممنوع ان تمس هيبة اسرائيل”. يقول الرجل الخمسيني ثم يعيد كيس الشكيل الى جيبه.
في غزة صورة اخرى لم ننتبه لها ونحن نحدق في صور فلسطين حين كنا اطفالا او حين حملنا السلاح لمقاومة الاحتلال، في غزة صورة اخرى ليست نمطية، هي غزة الان وغزة البحر والانسان.
انها تمطر الان في غزة.
الاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة