مسارات متعرجة لأخوان سوريا
فايز سارة
تعود جماعة الأخوان المسلمين السوريين في تأسيسها إلى أواسط العقد الرابع من القرن الماضي، عندما بادر مصطفى السباعي وزملاء له درسوا في مصر وتأثروا بالإخوان وبمؤسس الجماعة حسن البنا إلى تأسيس الجماعة، والتي تحولت من جماعة دعوية إلى حزب سياسي إسلامي، شارك في الحياة العامة في فترة مابعد الاستقلال، قبل أن يتم حظر الجماعة في فترة الوحدة السورية المصرية 1958- 1961، لتعود إلى نشاطها في فترة الإنفصال، قبل أن يتم تجديد حظرها بعد وصول حزب البعث العربي الإشتراكي إلى السلطة عام 1963في سياق حظر نشاط الأحزاب والجماعات السياسية باسثناء حزب البعث الحاكم، لكن الحظر لم يمنع الجماعة من المساهمة في نشاطات المعارضة الهادفة لإسقاط النظام في الستينات وحتى أواسط السبعينات عبر المشاركة في معارك سياسية وتحركات شعبية، قام النظام بقمعها مراراً بعنف شديد ووحشي في دمشق ومحافظات أخرى.
ومنذ أواسط السبيعينات، أخذت الجماعة، تشهد ميولاً نحو إستخدام القوة والعنف في أساليب عملها. حيث أخذت تتكون بذور جماعات مسلحة داخل تنظيم الأخوان، أبرزها الجناح المسلح بقيادة مروان حديد الذي بدأ عمليات مسلحة في ذلك الوقت عبر إغتيالات وتفجيرات، فيما كان الأخوان يقومون بالتعبئة الدينية والسياسية ضد نظام البعث، وكلها أدت إلى توسيع العنف وتعميمه في أنحاء مختلفة من البلاد، وصولا إلى أحداث حماة 1982، التي كانت ذروة الصدام بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة وأبرزها الطليعة المقاتلة، والتي قتل نتيجتها عشرات الآلاف من الأشخاص في حماة وغيرها من المحافظات على أيدي قوات النظام.
كانت النتائج السياسية والعسكرية لأحداث الثمانينات بمثابة كارثة على البلاد وعلى المعارضة السورية ولاسيما الأخوان المسلمين والجماعات المسلحة بما حدث فيها من قتل وتدمير، إضافة إلى تداعيات القانون 49 الصادر عام 1980 الذي تنص مادته الأولى على “يعتبر مجرماً ويعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الأخوان المسلمين”، وكان ذلك بين عوامل دفعت الجماعة للاختفاء من المسرح السياسي السوري، حيث غادر إلى المنافي من لم يقتل أو يسجن منهم بفعل الأحداث، وهكذا تحولت الجماعة إلى حزب في المنفى، لم تنجح جهود كثيرة لإعادة ترتيب أوضاعها مع النظام في دمشق أو عودة كوادره إلى العمل في سوريا.
إن تحولات النصف الثاني من السبعينات وماتلاها من مسار الجماعة نحو إستخذام العنف في السياسة، إنما كانت تعني حدوث تغييرات في النمط والتفكير السياسي للجماعة، وكان من مؤشرات هذا التغيير إنتقال الجماعة من العمل السياسي السلمي على نحو ما كانت تفعل منذ تأسيسها وحتى أواسط السبعينات، التي تبلور فيها خيار اللجوء الى العمل المسلح بدلاً من العمل السياسي أو إلى جانبه على نحو مايقول بعض قادة الأخوان، وهم يردون على من ينتقد تحولهم الى العنف المسلح في مواجهة النظام.
والمؤشر الثاني لتغييرات النمط والتفكير السياسي عند الجماعة في تلك الفترة، هو ارتباك الموقف السياسي، والذي عبر عنه تحالفها مع نظام البعث العراقي وانصاره من السوريين في مواجهه شقيقه البعث السوري الذي يستند إلى ذات المضمون الأيدلوجي والسياسي، وله ممارسات سياسية وأمنية متشابهة، وهو تحالف غير منطقي وعصي على الفهم والتفسير، لكنه كان يؤشر في الأهم من دلالاته إلى مؤشر ثالث في تغييرات النمط والتفكير السياسي عند الجماعة، وهو إنخراطها في نوع من الإنتهازية السياسية، التي لا يمكن تفسيرها إلا بسعي الجماعة وتسريع خطواتها باتجاه الوصول إلى السلطة في دمشق عبر أي طريق كان.
لقد انعكست تلك التغييرات في المرحلة التالية من حياة الأخوان السوريين، فعانت الجماعة بعد خروجها إلى المنفى من صراعات داخلية، توالت فيها الخلافات والإنشقاقات في ظل أحاديث عن مراجعة ونقد مرحلة العمل المسلح، وإعادة بناء منظومة التفكير والممارسة السياسية للجماعة مجدداً، وهو جهد مازالت الجماعة تتابعه حتى الآن، كما هو معلن، وقد تم في سياقه إصدار العديد من الوثائق الإصلاحية، التي يقول الأخوان المسلمون، أنها جاءت في سياق مراجعة مسيرة العقود الثلاثة الماضية وأبرزها: المشروع السياسي لسورية المستقبل، سورية التي نريد، وعهد وميثاق من جماعة الأخوان المسلمين في سوريا.
ولاينفصل ما تقدم من جهد سياسي، عن سلوك مضت فيه الجماعة في تعاملها مع جماعات المعارضة السورية، التي نهضت بفعل الحراك الثقافي/السياسي الديمقراطي في فترة “ربيع دمشق”، وأثمر في أحد جوانبه إعلان المعارضة ضرورة رفع الحظر السياسي عن الإخوان في سوريا، والمطالبة بإلغاء القانون 49 لعام 1980 الذي يجرم الأخوان، وأعقب ذلك تشكيل إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في العام 2005 باعتباره إطاراً جامعاً للمعارضة السورية، ضاماً جماعات يسارية وقومية وليبرالية إلى جانب شخصيات مستقلة، انضمت اليه الجماعة دون اي تحفظات أو ملاحظات على الوثيقة الأساسية للإعلان، و التي تضمنت سعياً سلمياً إلى نظام ديمقراطي تعددي يحقق العدالة والمساواة لكل السوريين، وقد كررت الجماعة الخطوة ثانية، عندما انضمت إلى المجلس الوطني السوري عند قيامه أواخر العام 2011، وقد ضم هو الآخر جماعات يسارية وقومية وليبرالية وشخصيات مستقلة، مع تأكيد الإختلاف بين التجربتين في ظرفهما ومحتواهما.
غير أن هذه الخطوات “الإيجابية” في تفكير وسلوك الإخوان السوريين، ترافقت مع أخرى ذات طابع “سلبي”، تمثل في محتوياتها وسلوكياتها إستمراراً لما تمخضت عنه مرحلة الثمانينات من تغييرات، والأهم في هذه الخطوات، كانت نقلة الإخوان السوريين من تحالف إعلان دمشق في العام 2006 إلى التحالف مع نائب الرئيس السوري الأسبق المنشق عبد الحليم خدام في إطار جبهة الخلاص، وهو تحالف لم يقيض له الإستمرار، فانفصلت أطرافه عن بعضها، ثم كانت خطوة تالية أشد رداءة، عندما جمد الإخوان معارضتهم للنظام بسبب موقفه الداعم لسلطة حركة حماس الفلسطينية في قطاع غزة، قبل أن يعودوا مجدداً إلى صفوف المعارضة السورية.
وإذ فرض إندلاع الثورة السورية على المعارضة مهمات وأعباء جديدة، فقد كانت الإستجابة ضعيفة، ولم يكن الإخوان استثناء في هذا السياق رغم أن ظروفهم ربما كانت الأفضل من حيث التنظيم لوجودهم في خارج يسمح لهم بالحركة والتنظيم ومن حيث الإمكانات المادية بما لهم من مصادر دخل ودعم، ولعل ذلك شجعهم للسعي نحو السيطرة -ولو المقنعة- على مشاريع تحالف قوى المعارضة من مشروعات المجالس الأولى في إستانبول إلى مسعى تشكيل التحالف الوطني السوري في الدوحة في صيف العام 2011 إلى جانب إعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطنية وضمنهما معظم أحزاب وجماعات المعارضة السورية، وقد تحقق لهم مستوى من السيطرة في تشكيل المجلس الوطني السوري في أواخر العام 2011، فأخضعوه لنفوذهم وتوجهاتهم، واستخدموه واجهة لتعزيز مكانتهم ولتقوية شبكة تحالفاتهم الإقليمية.
ورغم ماهو عليه حال الإخوان السوريين من مكانة قوية داخل المجلس الوطني السوري، فإنهم يسعون إلى تحالفات تعزز سيطرتهم خارجه على نحو ما فعلوا في إنضمامهم إلى “التجمع السوري للإصلاح” الذي عقد مؤتمره التأسيسي بالقاهرة مؤخراً، وضمّ خمساً وعشرين حزباً وجماعة إسلامية، وهو ماحاولوا فعله في الدوحة مؤخراً لتعزيز مكانتهم وعدد رموزهم داخل الائتلاف الوطني، وهذا لايمكن تفسيره إلا في إصرار الأخوان على إحكام قبضتهم على ما أمكن من تكتلات سياسية، والوجه الآخر لهذه السياسة، هو سعي إلى حصار وتهميش القوى والتكتلات الأخرى.
ومساعي الإخوان للسيطرة على حركة المعارضة، تقابلها مساعي للسيطرة على الحراك السوري في الداخل سواء كان الحراك السياسي أو الحراك المسلح الذي كان الإخوان أحد أبرز دعاته في سياق عسكرة الثورة، وفي الحالتين فإن المال السياسي هو أهم وسائل السيطرة سواء تم ذلك عن طريق الجماعة مباشرة، أو عن طريق مكتب الإغائة في المجلس الوطني الذي يتحكم به نائب المراقب العام للإخوان.
ورغم أنه لايبدو في الظاهر وجود تنظيمات عسكرية إخوانية بين التشكيلات المسلحة للثورة السورية، لكن من الثابت سعي الإخوان إلى تعزيز وجودهم وتدخلاتهم في تشكيل جماعات دينية مسلحة، كما عززوا وجودهم في بعض التشكيلات من خلال بعض المساعدات، وكل التشكيلات المسلحة بحاجة مساعدات في ظل الواقع القائم، أو من خلال إستغلال الميول الطبيعية لسكان الريف وفقراء المدن وأغلبهم من أصحاب الميول الدينية، أو من خلال العاملين معاً، وتزايد تأثيرات الجماعة ربما هي التي جعلت نائب المراقب العام، يطلب من قائد الجيش السوري الحر العقيد رياض الأسعد، التخلي عن منصبه والإنضمام إلى القيادة المشتركة للجيش الحر، التي يعتقد أن للإخوان نفوذاً داخلها.
ولايمكن الفصل بين السلوك العام للإخوان في التعامل مع القوى المؤثرة في الثورة السورية من معارضة سياسية وحراك شعبي وجيش حر، وبين التوجهات السياسية للجماعة، والتي حاولت أن تأخذ الثورة السورية نحوها في تشجيع عسكرة الثورة وتحويلها الى العمل المسلح، وتقوية التوجهات الداعية إلى تدخل دولي، كانت من مؤشراته قيام المراقب العام للجماعة بدعوة تركيا صراحة للتدخل العسكري في سوريا.
خلاصة الأمر، إن مسارات الإخوان السوريين، تبدو متعرجة، وهذا ليس ثمرة معطيات الواقع الراهن، وإن كان الواقع يدعم هكذا مسارات، بل نتيجة لتحولات فرضها العقد الممتد مابين منتصف سبعينات وثمانينات القرن الماضي، يوم توجه بعض الإخوان نحو خيار العنف والعمل المسلح أسلوباً للتغيير في سوريا، ومازالت آثاره تتفاعل في واقع الإخوان وسياساتهم القائمة، والتي يشهد عليها وجود عدد من كوادر العمل المسلح وبعض قادة تلك المرحلة من الإخوان في الصف القيادي الأول لدى الجماعة، وكلها حيثيات تترك أثرها في الواقع السوري الراهن.
خاص – صفحات سورية –