الأزمة المعيشية السوريّة بين الإضطرابات وسياسة الحكومة والتجار
دمشق ــ رغدة العزيزي
لم يعد شارع الحمرا في العاصمة السورية كما الاعوام السابقة في مواسم الاعياد، فالمارة مجرد عابرون لا تستوقفهم أي دعوة من العاملين في المحال التجارية. السيدات اليوم بتن، وعلى غير العادة، وبسبب الظروف التي تمر بها سوريا، يفضلن شراء المواد الغذائية الاساسية خوفاً من مجهول بات يلوح في الافق، فغلاء الاسعار واضح المعالم، وخصوصاً للكهربائيات، الالبسة، ومواد البناء. والاهم من ذلك المواد الغذائية الأساسية التي فقد بعضها، عدا عن ظاهرة عزوف الكثير من الشباب عن الزواج في ظل ازدياد غير محصي في نسبة البطالة. كل هذا وغيره يعزيه الدكتور موسى الغرير، احد المدرسين في كلية الاقتصاد جامعة دمشق، الى غياب الاستقرار والفوضى “نتيجة الاعمال التخريبية التي يقوم بها المسلحون”.
اما التجار فيتهمون العقوبات الاوروبية بارتفاع الاسعار والرقود التضخمي الذي يشهده السوق اليوم. إلا أنه في حال قراءتنا لتاريخ الاقتصاد السوري، نلحظ أن نمط العلاقة الاجتماعية الاقتصادية القائمة بين التاجر، المنتج والمستهلك وموقع الفرد من العملية الانتاجية اعطى التاجر اولوية في تحديد اسعار القطع وجعل السوق في حالة تحرير أسعار وانفلات تمويني، ما أدى إلى تشكيل مستوى طبقي. وحسب الاحصائيات، فان نسبة من هم تحت خط الفقر تشكل في سوريا 42 % من السكان. وترتفع نسبة البطالة الى 16 % من السكان البالغين سن العمل، وهذا الرقم ازداد بنسب غير معروفة في فترة الازمة بسبب استغناء ارباب العمل عن جزء من موظفيهم. ولم تحل القرارات والمراسيم الصادرة عن رئاسة الوزراء بتثبيت العاملين وفتح فرص للتوظيف المشكلة، بل كانت حبراً على ورق كما سواها.
ومع غياب العدالة الاجتماعية والانصاف في توزيع الدخل عبر الاربعين سنة الماضية، كان توزيع الثروة الوطنية على الشكل الاتي: 25% من الدخل الوطني لصالح 95% من المواطنين. و75 % من الدخل لصالح 5 % من السكان، ما ادى الى اختلال في توزيع الدخل الوطني.
وثمة جانب آخر لمشكلات الاقتصاد السوري يمثله خلل في الفلسفة التي تقوم عليها الهيكلية التنظيمية بين قطاعات الصناعة، التجارة، السياحة والزراعة، التي عانت من الجفاف وسوء إدارة الموارد المائية. وتشهد هذه القطاعات ضعفاً في هيكلية وإنتاج كل منها. وليس بإمكاننا نسيان قطاع الاستثمار الذي تم استجرار المشاريع الانشائية والخدمية في اطاره الى البلاد، وغابت الصناعية منها.
وفي منحى تفسير ما سبق، فان الخطة الخمسية العاشرة في عام 2006، كان لها الفضل الاكبر بضرب الاقتصاد السوري بقرارات كسرت الانضباط الاقتصادي وضبط الاسعار، وعطلت فعالية قوانين الاقتصاد الكلية في السوق السورية، كقانون العرض والطلب والاستيراد. وما زاد الطين بله إقرار قانون اقتصادي يشرعن الاحتكار، وذلك السماح للتاجر بالسيطرة على مادة ما في السوق الاستهلاكية بنسبة 30%. فيكفي لثلاثة تجار ان يسيطروا على منتج واحتكاره دون السماح لأي منافس جديد. واستطاع التاجر خلق عوز في السوق من خلال حجب السلعة في المستودعات واطلاقها متى يشاء، مع فرض السعر الذي يريد. وهذا ما يبرر زيادة في غلاء الاسعار ورقود تضخيمي في الاسواق. وبات بالإمكان مراقبة زيادة في التحرر أو انفلات اقتصادي غير المبرمج للأسواق. وبالتالي ضعف القدرة الشرائية ما اثر على المستوى المعيشي، وأدى الى أزمة اليوم.
وفي غياب كامل لدور حكومي فاعل، خُلق ما يسمى السوق الفردي، القائم على محاباة اصحاب الفعاليات الاقتصادية وتحكم اصحاب رؤوس الاموال بالأسعار على حساب الطبقات الشعبية من ذوي الدخل المحدود. ولا تزال الحكومة السورية غافلة عن ما يحدث رغم توفر الحلول بين يديها، فمن الممكن ان تقوم بتعديل قانون منع الاحتكار، ودخولها بعملية العرض والطلب، واستيراد السلع التي ترتفع اسعارها وضخها في المؤسسات الاستهلاكية، وبذلك لن يكون للتاجر سلطة على السوق او رفع سلعه ما بشكل غير مبرر كما اليوم. عدا عن امكانية الاستفادة من الضغوط على البلاد من خلال تعبئة الطاقات والامكانات الموجودة لدينا، وايجاد منتجات جديدة محلية عوضا عن المستوردة تحول العقوبات الى فرصة تنموية.
وردا على حجج التجار، ينفي الدكتور الغرير، وبعض اساتذة كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، أي اثر سلبي ملحوظ للعقوبات الاوروبية إلى الان. ويؤيد احد خبراء الاقتصاد ما قاله الأساتذة. ويضيف “رغم انكماش الاقتصاد بمعدل ثلاثة بالمئة هذا العام بسبب الاضطرابات وتراجعه عن نمو بمعدل اربعة بالمئة في عام 2010، الا انه ليس هناك ما يدعو للخوف في الوقت الحالي، لكن عامل الزمن يلعب دوراً سلبياً بالنسبة للعقوبات في حال طال اكثر من ذلك”. ويضيف الخبير “اذا استمرت البلاد على هذا النهج من قفز غير موضوعي للأسعار واستغلال التاجر لما يسمى العقوبات الاوربية، سوف يسوء الحال أكثر، وليس بالإمكان التنبؤ بالعواقب”
ما يخيف الآن في لعبة استغلال التاجر السوري للفرص ليس عزوف النساء عن النزول إلى الأسواق التجارية والتوقف عن التبضع. بل ارتفاع نسب الفقر والجريمة، تدني المستوى الاخلاقي والقيمي للأفراد، الشروخ والثغرات في العلاقات الاجتماعية، التي كانت سبباً في انهيار الكثير من المجتمعات في حال لم تضع حكوماتها سياسات مناسبة.