المحرقة النازية والعرب
معمر عطوي
لا أعتقد أن كاتباً عربياً سبق وإن قارب المحرقة النازية بحق اليهود بموضوعيّة وشمولية كالكاتب اليساري جلبير الأشقر. ففي كتابه “العرب والمحرقة النازيّة” الصادر عن دار الساقي، يجري الدكتور جلبير دراسة موسّعة مدعومة بالوثائق والمصادر التي تجعل معالجته لإشكاليات المحرقة وانعكاساتها على قضايا العرب لا سيما قضية فلسطين معالجة يستخدم فيها البُعد الثالث –اذا صح التعبير- لتوضيح الصورة من كافة جوانبها.
ليست القضية قضية صدور كتاب، بقدر ما هي قضية معالجة إشكاليّة أصبحنا نحتاجها برؤية غير آيديولوجية أو قومية أو دينية. رؤية فلسفية إنسانية قد تؤلم في بعض مواضعها حين يذهب الأشقر الى تهفيت شخصيات تاريخية مناضلة لم يكن موقفها من المحرقة أو حتى من المسألة اليهودية ذاك الموقف الإنساني الذي يخدم قضيتنا، وربما وقع هنا في خطأ المحاسبة القاسية الأليمة – التي لم تعد تنفع- لبعض أشخاص كان لمواقفهم أسباب أو ظروف منها الانقسام الدولي بين محورين والتعبير عن اشمئزاز من واقع استعمار دول الحلفاء للمنطقة وتداعياته السلبية التقسيمية. أسباب عديدة جعلت شخصيات تاريخية لها اعتبارها النضالي والسياسي والديني أصبحت أسرى ردة الفعل تجاه سايكس بيكو وتداعياته، بدلاً من صياغة الموقف على ضوء العقل وفي سياق هادئ يحسب حساب الربح والخسارة في معادلة علاقة «النحن» بـ «الآخر».
في أي حال فإن التقسيم الذي ذهب إليه الأشقر في كتابه الضخم الذي يتجاوز عدد صفحاته الـخمسمئة صفحة، كان تقسيماً يدل على نيّة الكاتب بمعالجة هذه المسألة معالجة حاسمة غير مُبتسرة ولا متعجّلة. والأهم من ذلك أنها أتت باللغة الإنغليزية قبل أن يعمد بشير السباعي الى نقلها للعربية.
لم يكتف الأشقر ببحث العلاقة المُعقّدة بين العرب والمحرقة النازية، بل أجرى مقاربة مشابهة لتصريحات ومواقف غربية عن المحرقة وكيفية تناولها والمغالطات التي تقع فيها بعض الإنتلجنسيا الغربية وأيضاً الصهيونية ومواقف بعض أركان الكيان العبري في طريقة التعاطي مع هذه الكارثة الإنسانية بما يصبّ في خدمة “اللا إنسانية” وبما يسئ الى الضحايا أنفسهم. عن ذلك يقول في مقدّمته: “تحدوني الرغبة في شق سبل للتفكير من شأنها تجاوز الصيغ الكاريكاتورية التي ابتليت بها مناقشة الموضوع؛ إنها صيغ لا حصر لها. ومن المؤكد أننا نجد الكثير من المواقف الغربيّة والمُقزّزة في العالم العربي حيال المحرقة؛ لكننا نجد أيضاً في كل من إسرائيل والعالم الغربي تفسيرات مشوهة، تجمع الحابل بالنابل إلى حد العبث، للتلّقي العربي للمحرقة. وهدفي هو مكافحة هذه الصيغ الكاريكاتوريّة التي يُناظر بعضها البعض الآخر، وهو فهم لا يمكن أن توجد في غيابه، عملية سياسية- بالمعنى الإغريقي القديم لكلمة “سياسة”، الذي يُحيل إلى كل من العقل والتمدّن ورقة الشمائل”.
وللإحاطة بكافة مكوّنات المجتمع العربي، استعرض الكاتب ردود الفعل العربية حول “الشوعاه” أي ما يُعرف بالإبادة باللغة العبرية وهو الاسم المستخدم للمحرقة أو للهولوكوست. لذلك تضمنت دراسته آراء الماركسيين والقوميين والليبراليين والتغريبيين والإسلاميين، بعد أن استرسل في شرح مصطلح “محرقة” ودلالاته على ضوء أصله العبري. ولعله بالغ حين لم يرحم أحداً من رجال التاريخ بمن فيهم بعض القادة الثوار الذين تركوا بصمات رائعة على مسيرة النضال ضد الصهيونية في فلسطين من أمثال عز الدين القسام.
لكن ورغم أن التوضيح قد يكون أحد أهم مسؤوليات الكاتب في كشف الملابسات قد تكون الإشارة الى بعض رجالات النضال بهذه الطريقة حكماً متعسفاً، سيما أن مواقف قد تكون صحيحة وقد يكون سند صحتها ضعيفاً وضد تكون في سياق طويل ينفي عنها عنصريتها أو وقوعها في المغالطة.
انطلاقاً من هذه المعطيات يصبح الحاج أمين الحسيني ضاراً بقضية فلسطين أكثر من كونه مناضلاً في سبيلها، وربما يذكّرنا موقف هذا الرجل الذي كان صديقاً لزعيم النازية الألمانية أدولف هتلر ووقف إلى جانبه على أنه قاتل “أعداء الأمة الإسلاميّة”، بموقف بعض قيادات المقاومة في فلسطين ولبنان من نظام بشار الأسد في سوريا وصمت بعض هذه القيادات تجاه ما يرتكبه النظام من مجازر بحق الشعب العربي السوري الذي طالما وقف إلى جانب المقاومة ورفع رايتها وصور قادتها في شوارع دمشق ودرعا ودير الزور وحمص وغيرها.
لقد ساهم “المفتي الأكبر” أمين الحسيني في إعطاء صورة ساديّة عن العربي الذي يتلذذ برؤية الدماء بحجة أنها دماء الأعداء، مثله مثل رشيد رضا وشكيب أرسلان وحزب “مصر الفتاة” والكثيرين من رجال السياسة والدين والفكر في عالمنا العربي، الذين ظنوا أنهم سيحظون بموقع استراتيجي على خريطة امبراطورية هتلر المفترضة.
ولعل هؤلاء المدفوعين بحماسة طفولية لتأييد النازية وفاشية بينيتو موسوليني في إيطاليا، قد نسوا أن ضحايا النازية لم تقتصرعلى اليهود بل شملت كل القوميات والأديان بمن فيهم مسلمون. وقد شهد التاريخ ولا يزال حتى الآن، وقوف مؤرخين وكتاب وصحافيين ومفكرين يهود – بعضهم نجا من المحرقة- إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وإذا كان زعماء الصهاينة قد استغلوا هذه المحرقة لتبرير جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، فهذا لا يعني أن المحرقة كانت كذبة أو إسطورة كما يتحفنا بعض جهابذة الآيديولوجيا المتهافتة، والذين أساؤا بممارساتهم القمعية والتعسفية الى القضايا العربية أكثر مما خدموها. لكن المغالطة التي قد يقع فيها بعض المدافعين عن وجود المحرقة هي تسليمهم برقم الستة مليون يهودي ورفضهم مناقشة هذا الرقم أو حتى مناقشة كم هو عدد غير اليهود الذين سقطوا نتيجة سياسة الفوهرر الألماني والدوتشي الإيطالي.
فالإيمان بالحريّة الذي يجعلنا نناقش صحة حتى الكتب السماوية ووجود الله والتشكيك فيها، لماذا يمنعنا من وضع خطوط حمراء على مناقشة دراسات واحصاءات خضعت للتسييس والتوجيه الأيديولوجي بهدف خدمة فكرة واحدة هي “مظلومية الشعب اليهودي”، وقد تكون هذه المعطيات أيضاً صحيحة أو اقل من الواقع.
لكن إذا كان تسليمنا بوقوع المحرقة بما هي فعل ليس بعيداً أبداًعن سياسة هتلر الدموية فهذا لا يعني تحويل كل التفاصيل الذي نجحت الصهيونية في ترسيخه في ذهن الأوروبيين والعالم، إلى مقدّس لا يمكن مناقشة بعض تفاصيله أو التطرق الى التشكيك في بعض رواياته. ولعل الكاتب قد عالج هذه النقطة حين تحدث عن مغالطات شعار “معاداة السامية” وكيفية استخدامه لخدمة السياسة الصهيونية.
ربما أصبحت المحرقة النازيّة من الماضي مثلها مثل مجازر الأتراك بحق الأرمن والأوروبيين بحق الهنود الحمر، لكن من المفيد جداً التنبه إلى قضايا الصراع وعدم مزجها بالعامل الإنساني المُراد منه أصلاً أن يدخل على خط الصراع لتشويه بعض محاوره. فكما يمكن تحويل المحرقة إلى سبب دفع الصهاينة إلى الانتقام من فلسطين ومحاسبة الشعب الفلسطيني بجريرة بعض قادته مثل المفتي الأكبر، كذلك يمكن يصبح نفي المحرقة تحويلاً لحقيقة الصراع بجعل الضحية جلاداً والجلاد ضحيّة.
منطق الأمور لا يستقيم إلاّ إذا فصلنا العامل الإنساني عن المؤامرات السياسيّة وبذلك نكون فعلاً مع الضحيّة حتى لو كانت يهودية أو فلسطينية أفريقية أو هندية الخ..