ثورات مأجورة؟ بقلم معمر عطوي
يستسهل الأوصياء على أنظمة القمع العربيّة لغة التخوين، فيروّجونها بين أزلامهم والمنتفعين على موائدهم، بهدف النيل من هيبة معارضيهم وتهفيت خطواتهم النضالية، عبر إلقاء التهم على ثورات الربيع العربي ونعتها بالعمالة والخيانة.
وهم بهذه السياسة المتغذّية من ذهنية المؤامرة يحاولون إضفاء مشروعية على سياستهم الأمنية التقليدية الباعثة على الرعب والخوف وسط مواطنيهم، وتبرير قتلهم لكل من تجرأ على المطالبة بأبسط حقوقه.
وفي المقابل، يتصرّف بعض قيادات الثورات بطريقة تدعم فرضية السلطة حول تآمرهم مع العدو ضد الوطن، من خلال تجسيد آداء لا ينم إلاّ عن عمىً سياسي أو رغبة في منافع معينة، فيشوّهون صورة الثورة المُشرقة التي انتظرها الناس على مر عقود، ويحاولون- عن غير قصد ربما- تأكيد تهمة أن “الثورات مأجورة”.
ففي حين تحمل الثورة قيماً إنسانية نبيلة أهمها طابعها السلمي وحرصها على السيادة الوطنية والإستقلال، يجنح البعض نحو لغة السلاح فيُجهض كل الخطط المرسومة للتغيير بطرق ديموقراطية حضارية ويحوّل وجهة الصراع نحو المشهد الأكثر سوداوية، فيما ينبري بعض جهابذة التغيير إلى التعبير عن نفاد صبر في غير محلّه، معلناً أنه مستعد للتعامل مع الشيطان لإسقاط النظام.
فما بالك بدعاة التدخل الأجنبي في شؤون البلاد والعباد، بدءاً من طلب فرض العقوبات وصولاً الى النزول العسكري على الأرض مروراً بالحظر الجوي والدعم اللوجستي والاستشاري. ألم يكن أحد أهداف الثورات هو تغيير الطبقة الحاكمة لأسباب عديدة من بينها ولاؤها المطلق للغربي وتقديم كل الامتيازات المادية والمعنوية لإداراته المتعاقبة، مقابل سكوته عن فسادها وبقائها في السلطة؟
ليس خافياً على أحد أن مسؤولين أميركيين وأوروبيين وبعض الشخصيات الإسرائيلية قد دخلوا على خط الثورات العربية من أجل تشويه صورتها والإيحاء بأنهم هم من يقف خلفها؛ ممارسة هدفها الأول التشكيك بمصداقية ووطنية القائمين على هذه الثورات لأن الأنظمة السائدة تخدم مصالح الدول الكبرى أكثر من أي سلطة مجهولة المعالم يمكن أن تحملها الثورات الى الحكم. إلاّ أن ذلك لا يعفي بعض قيادات الثورة في هذا البلد أو ذاك من الخطأ الذي وقع فيه، إن كان بدعوة للتدخل الأجنبي كما حصل مع بعض أقطاب المعارضة السورية والليبية، أو من خلال السماح لأشخاص، معروفين بولائهم لإسرائيل، التدخل في صياغة الخطط السياسية والعسكرية للمجالس التي تقود الثورات، مثلما حصل مع الفيلسوف الصهيوني برنار هنري ليفي واليميني الأميركي السيناتور جون كيري ومساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفري فيلتمان، الذين كانوا ضيوفاً فوق العادة لدى المجلس الوطني الانتقالي الليبي في بنغازي.
أو قد يكون هذا الخطأ بمحاولة البعض “الحج” الى واشنطن للحصول على بركة البيت الأبيض؛ نموذج الناشطة اليمنية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام كرمان توكل، وأمين عام حركة النهضة الإسلامية في تونس محمد الجبالي وبعض كوادر المجلس الانتقالي الليبي وغيرهم.
أسئلة عديدة يمكن لها تهفيت الثورات وإسقاط مشروعيتها فيما لو تعاملنا معها بمنطق التخوين والحكم الشمولي ولم نعطها فرصة لتصويب مسارها. فالثورة بحد ذاتها كمفهوم يجسّد إرادة التحرّر من العبودية المعاصرة ويسعى للحصول على الكرامة الإنسانية وتأمين التكافؤ والعدالة الاجتماعية، من شأنها أن تبقي الرهان على التغيير قائماً رغم كل هذه العصي التي تُوضَع في دواليبها، ورغم وجود شخصيات انتهازية ومأجورة في صفوف قيادات الثورات تعمل على تأمين مطامع الأعداء أكثر من تحقيق طموحات شعوبها.
في أي حال، قطار الثورات انطلق من واقع التراجيديا العربية المُزمنة، ولم يسير وفق جدول عمل لهذه الدولة أو تلك إلاّ بعدما اخترقت هذه الدول وأجهزة استخباراتها بعض محاور الثورات بهدف الإساءة إلى صورتها بالدرجة الأولى ولحجز مقعد على القطار الذي يبدو آتياً من وجع المسحوقين والمظلومين في هذه البقاع الجنوبية من الكرة الأرضية.
أمام هذه المعضلة لا يمكن العودة الى الوراء والتسلح بمقولة أن الاستقرار في ظل أنطمة استبدادية أفضل من التدخل الخارجي، ولا يمكن ترك الساحة مفتوحة للانتهازيين والعملاء المأجورين لكي يصادروا الثورات ويدوسوا براعم أزهار ربيعها الآتي بلا محالة. فالمعادلة ببساطة أصبحت كالتالي: ثورة سلمية كما يحدث في اليمن والبحرين وكما حدث في تونس ومصر، تتواصل مهما طال أمدها ومهما سقط من ضحايا بأيدي جلاوزة هذه الأنظمة. وبالطبع لن تكون فاتورة الثورة بعد التحرير والاستقلال بحجم ربع ما دفع ثوار ليبيا من بشر وأموال وارتهان نفطي وسياسي وأمني، وما سيدفعه ثوار سوريا لو استمر بعضهم باستخدام السلاح أو الركون الى الأجنبي.
هنا لا يكون التخويف من واقع العراق تجسيداً لذهنية المؤامرة ولا هو دعوة للتمسك بالسلطات الفاشية القائمة، إنما ينبغي النظر الى عدد ضحايا غزو بلاد الرافدين الذي تجاوز المليون قتيل ومئات آلاف المصابين والى ما أصبح عليه العراق من محميات طائفية تخدم بلدان الجوار أكثر مما تخدم مصالح العراق. ألا يمثل ذلك صورة تُبين حقيقة تهويمات الشعارات الغربية في نشر الديموقراطية الجوفاء؟ أم أننا لا نزال نؤمن أن الغرب يخدمنا لسواد عيوننا؟