أطفال الثورة السورية ضحايا واقع القمع
دمشق ــ رغدة العزيزي
اليوم اصبحوا يفرقون بين معنى الموت ومعنى القتل. اطفال يُنتزعون من وحل العابهم ولا يزال معلّقاً على احذيتهم المهترئة. يُخطفون من حقول كان سمادها بعض احلامهم وخيالاتهم. كان بينهم معن ابن العاشرة. اغرته اصوات هتافات المتظاهرين المترافقة بقرع الطبول، ليخرج تاركا اشكاله الرملية مبعثرة في حقل بجانب بيته. وما لبث ان تغلغل بين الجموع الثائرة حتى اعتقله الامن السوري مع عشرة من اصدقاء طفولته، ليخرج جثة هامدة. اما البقية، فكان منهم المشلول والاخرس، واخرون مصابون بأمراض نفسية عدة.
اما ابراهيم الشيبان، ابن التاسعة، لم تكن الاعراس تفتنه، بل صلاة تقربه من الخالق، لتشده الى استشهاده. في جمعة «مهلة الجامعة العربية»، كانت اسئلة الموت ترافق مسيره الى الجامع مع اخيه الذي يكبره بسنتين. هو من سأل، قبل ساعات من استشهاده، كيف يكون احساس الطفل عندما تدخل بجسده طلقة؟ هل هي مؤلمة؟ أتنزل دمعة من عيني اذا دخلت رصاصة في جسدي؟ لم تتباطأ خطى الاجوبة كثيراً، فرصاصة الامن السوري دخلت قلبه وهو في طريق عودته، ليجده اهله بعد ساعة مرمياً في بركة دم. ابن التاسعة لم يحب الاعراس يوما، الا ان تشييعه تحول إلى عرس حقيقي زف فيه الى قائمة شهداء الثورة السورية.
بعد اليوم، سيذهب اخو ابراهيم وحيدا الى الجامع، وفي ذاكرته ذات الاسئلة التي كانت تدور بذهن ابراهيم، لكن هذه المرة بنية الانتقام لأخيه الاصغر. وهكذا يكون الطفل السوري دخل نفق حياة مختلفة تناسب من هم اكبر منه سنا، محروما من اشياء طالما عشقها، لتحكمه ظروف بيئية تسهم في تكوين شخصيته وربما في مصير حياته، غافلة اهمية تفهم اختلاف وخصوصية الفئات العمرية، لتحدث دمجاً عشوائياً بين عالمي الراشد والصغير، من دون اي فرز في مهمات الافراد حسب أعمارهم وقدراتهم. فيقلد الاطفال سلوك الراشدين حيث يتأثرون بانفعالاتهم وافكارهم وتطبيقها من دون وعي، ما ادى إلى أدلجة وتنميط افكارهم بشكل متقدم عن مراحل نموهم، وهذا يفسر مشاركتهم في التظاهرات، وبهذا الشكل يعتقد المراهقون أنهم سيكسبون الثناء من الكبار ويجسدون سلوكهم. فالانتماء والاستقلالية والتعبير عن الذات كبالغ، ضرورات ملحة عند المراهق، الا ان استغلال هذه الخصائص تؤدي الى زجهم في صراع ليسوا طرفاً فيه، ما يعرضهم لخبرات قاسية. وما يحدث أن هناك الكثير ممن يمتطي هذه الحاجات عند الطفل لتمرير رسالته.
والسبب الاخر لتفاقم المشكلة يكمن في الانفجار الديموغرافي الذي يهدد البلاد، فقضاء الاطقال القسم الأكبر من وقتهم في الشارع يلعب الدور الاكبر في ادخالهم ضمن الصراع السياسي، ويكسبهم ملامح مشوهة ليس لها علاقة بالطفولة، وبالتالي ينخرطون في اي تظاهرة يشاهدونها امامهم من دون امتلاكهم الوعي بشعاراتها او ظروفها..وليس الإعلام بريئاً من هذا التجييش، فالتكرار الذي تحدثه القنوات الفضائية لصور اطفال قتلوا او خطب ثورية يلقيها اطفال، ينتج لدينا ما يسمى بالإشباع عند المتفرج، فيعتاد الصور وبذلك تكون مشاركته في التظاهرات شيئاً بسيطاً وسهلاًومألوفاً فيخرج مقلدا ما يراه. ويبقى الامن السوري متجاهلا خصوصية الطفل ليصل في تجاهله او ربما جهله بالكارثة المتوقع حدوثها في سوريا جراء تعرض الاطفال للعنف، ان كان بشكله المباشر المتمثل بالاعتقال والخطف، او غير المباشر متمثلاً بمشاهدة العنف والقتل، اما عن طريق التلفاز او من خلال سلوكيات الامن في حال اعتقال افراد متظاهرين او اقتحام البيوت لاعتقال احد افراد الاسرة.
وهذا ينتج لدينا مجتمعاً معرضاً لمواجهة اثار الأمراض نفسية والاجتماعية عند الجيل الذي تعرض للعنف الحالي وباحتمالية اصابته باضطرابات عدة كتبعات للصدمة، فيصاب الطفل بالقلق والخوف او النوم المفرط وذلك للهروب من المشكلة، وهذا ما يؤدي الى كارثة مستقبلية، تمكننا من القول ان ضحايا العنف هم مشروع معتدين في مرحلة ما بعد الصدمة، وهذه السلوكيات العدوانية هي اكثر ما يخيفنا.
ويبقى الأطفال هم من يدفع الثمن الاكبر، حيث تتوالى المخالفات القانونية والاجرائية التي ترتكب بحقهم من دون الأخذ بعين الاعتبار وعيهم القاصر. وذلك بتجاهل الحكومة السورية معاهدات حقوق الطفل التي وقعت عليها، او القوانين السورية الخاصة بالأطفال الجانحين، والتي تلعب بدورها الحامي لهم، فتمنع ضربهم واستخدام العنف ضدهم. لكن ما يجري بالمشهد السوري مخالف لما ورد، فهو يُقتل ويُعذب ويُخطف لمجرد التظاهر ويحاكَم على نحو ما يحدث للكبار. فضلا عن ان القوات الامنية لم تفرق بين الكبير والصغير في التجمعات المتظاهرة، مستغلة ضعف الاطفال لاستخدامهم كأوراق يضغطون بها على الشعب. أو أداة تصور وجهة النظر الامنية القائلة بان هناك جماعات إرهابية تقتل الاطفال، فليس من المعقول ان تقتل الحكومة اطفالها حسب رأيهم، لتستجر عطف الداخل والخارج وتجيش الناس لصالحها وبذلك تشكيل راي عام محلي وعالمي، بالوقت الذي تقف فيه الامم المتحدة مكتوفة الايدي جراء ما يحدث مقتصرة على ادانات تندد بسلوكيات العنف تجاه الاطفال ليس إلا.
ومما يعطي القضية ابعادا اشد خطراً، ان نسبة الاطفال في سوريا كبيرة، وتتجاوز ثلث عدد السكان، وقسم كبير ممن يخرجون للتظاهرات تتراوح اعمارهم ما بين سن العاشرة والسادسة عشر، ولا يستثني الامن السوري هؤلاء في عداد اجراءات القوة والعنف والاعتقال، وهذا يضع البلاد بين خيارين اما ان تباد أو أن يكون مستقبلها مليئاً بالأمراض .