من يتحمل مسؤولية فشل الجيش في عرسال؟
فداء عيتاني – عرسال
“لم نتشرف بعد بالدخول في الدولة” يقول احد وجهاء بلدة عرسال البقاعية في معرض حديثه عن الوضع العام للبلدة، كل ما يريده هذا الوجيه من الدولة اللبنانية هو الجانب الامني، لم يعد احد يرغب في البحث عن اية حلول لمشكلات المنطقة، مصير المنطقة مبتوت به، هكذا كانت وهكذا ستبقى، ولكن على الاقل فلترسل لنا الدولة قواها الامنية لنعيش “كما كنا في زمن الاحزاب الوطنية”.
“نعلم ان الضابط بيار بشعلاني والرقيب ابراهيم زهرمان قد فقدتهما عائلتيهما، ولكن ماذا عن خالد حميد؟ هل هو ابن كلب؟” يقول احد ابناء البلدة، واخر يضيف “ان كان خالد حميد متورط في ملف خطف الاستونيين فلماذا يقتلونه؟ لم يبق احد من المتورطين في الملف الا وتمت تصفيته”.
عرسال ليست قرية فقيرة، على الاقل لم تعد كذلك، مع نهاية الحرب الاهلية في لبنان وارتفاع حظوظ سوق البناء والعقارات اكتشفت القرية مقالع الحجر، “ثروتنا في أرضنا، علينا ان نتعب حتى نخرجها، ولكننا لم نعد قرية فقيرة، وننظر الى الجرد والقرى حولنا، فنرى اننا محظوظين” يقول احد اصحاب المقالع بعد ان صار الطلب على الحجر عاليا وازدهرت اعمال البلدة.
صاحب منشرة حجر يدخل مساءا الى دكان حلاقة، فيجد مجموعة من الشبان الصغار الذين يبادرونه بان “على القرية ان.. وان تحمي… وعلينا ان ندافع…” لا يستمع كثيرا الى هذا الكلام الحماسي، بل يبادرهم بتذكيرهم بانه من المقاتلين السابقين في الحرب الاهلية وفي جبهة المقاومة ضد اسرائيل، قبل ان يضيف “انتم لم تشهدوا الايام الصعبة، ليس ايام الحرب، بل الايام التي كنا ننام فيها في المستودعات في بيروت او مناطق اخرى، وننهض صباحا على فراش غارق بالمياه من الرطوبة، فننشره ليجف بالشمس ونذهب الى اعمالنا، ثم نعود مساءا لننام من التعب في المستودعات وعلى الفراش نفسه، انتم لم تعرفوا ايام كانت القرية فقيرة، اليوم تعرفون انكم تعيشون بقليل من الرفاهية، انظروا حولكم في القرى المحيطة، من يعيش افضل منا؟ لا احد. وتريدون ان تشعلوا معركة بوجه السلطة من اجل ماذا؟”
معركة في الجرود
في الاول من شباط وبحسب ابناء البلدة البقاعية، تعرض خالد حميد، المقاتل في سوريا الى كمين، قتل خلاله مباشرة، ومن دون مقاومة، واطلقت النيران على سيارته التي لا تزال في البلدة من امام السيارة ومن خلفها، اكثر من 40 طلقة اخترقت السيارة، وبحال كان الرماة 3 فان كل منهم اطلق ما يقارب 12 طلقة، وسحبت جثة الشاب الى داخل سيارة فان، كانت اضافة الى سيارة CRV Honda تقل المسلحين بثيابهم المدنية، وتضيف رواية ابناء القرية بان السيارتان توجهتا بطريق ترابية نحو الحدود مع سوريا، ما لبثتا ان اصطدمتا بانغلاق الدرب بالثلوج، فعادتا لتستقلان طريقا اخر، واستغرق الامر وقتا طويلا.
في هذا الوقت كان رئيس البلدية وعدد اخر من اعضاء المجلس البلدي يتلقون اتصالات من السكان بان ثمة اطلاق نار من مسلحين مدنيين على خالد حميد، وان المسلحين اتجهوا نحو الحدود مع سوريا في طرق جردية، ودارت اتصالات ما بين الساعة 12 وحتى الساعة الثالثة لمعرفة من هم هؤلاء، وهل هم من الاجهزة الامنية ام لا، وحتى الساعة الثانية كان كل من اتصل بهم المعنيون في القرية يؤكدوم عدم معرفتهم باية عملية تجري في المنطقة مصرين على خلوا المنطقة من دوريات تابعة للاجهزة التي يمثلونها (من جيش ومخابرات للجيش اللبناني وحرس الحدود وفرع المعلومات).
في هذا الوقت كان اقارب خالد حميد وعدد كبير من الشبان قد شرعوا في البحث عن القتلة في الجبال والجرود، واخيرا عثروا عليهم، فبادرهم المسلحون باطلاق النار من مسافة 150 مترا، قبل ان يتمكن ابناء البلدة من معرفة هل هم من القوى النظامية ام من “شبيحة النظام السوري ام من عناصر حزب الله”.
ليست هي المرة الاولى التي تتم فيها عمليات امنية في البلدة، بل سبقها عمليتان، مما راكم لدى ابناء البلدة حالة من الحذر والشك اضافة الى حماسة للدفاع عن منطقتهم حتى لو بوجه السلطات، خاصة ان البلدة حسمت خيارها الى جانب الثورة السورية.
وليس غريبا ان تسمع في عرسال من يخبرك بان مخابرات الجيش اللبناني تنفذ مخططات حزب الله، بل قد يذهب البعض ابعد من ذلك، في ظل جو سائد يقول ان ابناء عرسال ومقاتلي حزب الله يتصارعون ضد بعضهم البعض ولكن على الاراضي السورية، وانه لم يعد سرا ان حزب الله يرفع السواتر والدشم في المناطق السورية تحت اسم حماية الشيعة في تلك القرى، وان حزب الله يرسل المقاتلين والمدربين تحت نفس المسمى، وان الحزب يرغب بشدة في رؤية المقاتلين العرساليين الذين يذهبون للقتال في سوريا في عداد الاموات، وان خالد حميد لم يخف يوما قتاله في سوريا، وان كان لا جرم عليه في لبنان، الا ان موقفه المؤيد للثورة، كما كل اهالي البلدة وضعه في خانة الاستهداف.
الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر يوم الاول من شباط بدأ تبادل اطلاق النار بين الدورية التي تضم عناصر مدنية وبين شبان من عرسال يقدرون بحوالي 80 شابا، تبادل اطلاق النار تم من مسافة 150 متر تقريبا، ودار اشتباك وصفه احد وجهاء القرية بالاستنزاف، تدخلت على اثره سيارتان عسكريتان من نوع هامفي كانتا متوقفتين في مكان مخفي عن الانظار، وشاركتا باطلاق النار دفاعا عن العناصر المحاصرة بنيران ابناء البلدة.
لم تتوقف نيران ابناء البلدة، بل على العكس، بدأت تطال الاليتان العسكريتان، سبق السيف العزل وصارت الان معركة مباشرة مع اليات الجيش ومع السيارتين التين انتشر منهما المسلحين.
في الاتصالات اللاحقة التي اجراها رئيس البلدية مع امنيين قيل له انك تدخل الى فخ، وان عليك الانتباه الى حياة العسكريين. ولكن عند الساعة الثالثة كان كل شيء قد انتهى، مخفر عرسال رفض التدخل، وبكل الاحوال فالمخفر يضم عنصرين فقط، يناوبان بشكل منتظم، ومخفر اللبوة حيث توجه احد اعضاء المجلس البلدي العرسالي اتصل بمسؤوليه وبدأ تجهيز قوة من الامن مجمعة من كل المنطقة قبل ان يلغى كل شيء بعد اتضاح مشاركة عسكريين في العملية.
طوال هذا الوقت لم يصل اي اسناد للقوة العسكرية التي كانت تقاتل في الجرود جنوب غرب عرسال بمسافة حوالي عشرة كيلومترات، غرق المتقاتلون في الوحل وسط بقع الثلوج، واستمروا باطلاق النار حتى رصاصاتهم الاخيرة في وجه قوة كبيرة من ابناء عرسال.
لم تتدخل اية قوة من الجيش النظامي لحمايتها، او لسحبها، او لقمع المهاجمين، لم يحصل اي تحليق مروحي فوق بقعة الاشتباك، لم تقترب دوريات من مناطق بعلبك للمؤازرة، بقيت القوة الضاربة في مخابرات الجيش اللبناني تقاتل بمفردها في الجرد، وامتنعت عن ترك السيارات والتحرك بين الاراضي الوعرة، كما احتفظت بجثة خالد حميد معها الى اللحظة الاخيرة.
وحين اقترب ابناء البلدة من المكان بعد نفاد ذخيرة القوة المقاتلة حملوهم الى البلدة، بطلب من الامنيين (هاتفيا الى رئيس البلدية) وحاولوا تسليمهم الى المخفر الذي رفض استلامهم، كما حاولوا تسليمهم الى نقطة عسكرية للجيش اللبناني (قرب المهنية في البلدة) الا ان النقطة ايضا رفضت استلام العسكريين والمدنيين بينهم، فكان ان تم وضعهم في البلدية.
اثباتات مخفية
سجلت الكثير من الشرائط على الهواتف، وبحث من كان في البلدية في اوراق القتلى الثبوتية، اكتشفوا ما باتوا يخشون التحدث به امام الاعلام، الاعلام اليوم ليس صديقا للبلدة، الاعلاميون ينصبون المشانق لابناء البلدة بصفتها عاصية، كل البلدة وكل ابنائها البالغ عددهم 35 الفا وصموا بانهم قتلة ومجرمون وشذاذ افاق وحاملوا بلطات. بينما لم تتضح بعد ملابسات الدورية التي قتلت وهربت وضلت ثم انكرتها الاجهزة الامنية قبل ان يتضح انها تتبع لمخابرات الجيش.
لن يفرج ابناء البلدة عما بحوزتهم من تسجيلات واثباتات الا امام المحاكم، هم سلموا ما لديهم للقضاء، اما الخروج الى الاعلام فمغامرة هم بغنى عنها “اذا اظهرنا ما لدينا ولفقوا (السلطات) لنا سيناريو اخر مستحدث، من سيدافع عنا؟” يسأل احد المعنيين، قبل ان يقول “ليس لدينا اي شيء للاعلام، سنذهب الى القضاء فقط”.
من المرات النادرة التي ترى فيها الجيش اللبناني يتعامل بغاية الترحيب مع الاعلام هي حين تمر على حاجز اللبوة الذي يفصل عرسال عن باقي المناطق، بمجرد ابراز بطاقة الصحافة يمكنك ان تدخل ترافقك ابتسامة من الجندي التابع للفوج المجوقل، اما ابناء القرية وقاصديها فيخضعون لتفتيش وتدقيق.
عادة يستوجب الدخول الى منطقة محاصرة كمخيم عين الحلوة بعض الاجراءات المسبقة مع اجهزة الامن، او بعض التحايل للوصول بصفة مواطن الى داخل المنطقة الامنية، اما في عرسال فان الاعلام وبصفته صديقا للجيش يمكنه التحرك براحته.
اذا كانت عرسال امنة لكل من يقصدها من الاعلاميين فاذا اين تنظيم القاعدة هنا، واين هم جنود الجيش الحر الذين شكلوا من عرسال قاعدة خلفية لهم؟ علما ان الجيش الحر موجود، وكذلك بعض السلفيين، وفي عرسال حوالي 13 الفا من اللاجئين السوريين، وباقل تقدير فان ابناء هؤلاء الشبان منخرطون ولا شك في القتال في سوريا الى جانب الثورة، ولا بد من ان يزوروا عائلاتهم، اضف الى ذلك ان القرية لا تخف حماستها للجيش الحر، فعلى مشارفها رسم علم الثورة على جدار صخري طبيعي، ليستقبل الداخلين الى عرسال.
وعرسال مثلها كمثل أي منطقة ذات صفاء مذهبي سني تشهد وجودا لسلفيين “ولكن تربة عرسال لا تسمح لهم بالنمو”، يقول احد المسؤولين السياسيين في المنقطة، ربما مئة او مئتين من السلفيين على اختلاف انواعهم، يقول مهندس من البلدة، ولكن الاغلبية هنا لا ترغب في السلفية الجهادية، وحين يبدأ احدهم بالتحول الى التدين الشديد يطلق عليه لقب “الملا” سخرية.
ليست التربة هي فقط ما يمنع اهالي عرسال من التحول الى السلفية، او فتح معركة مع الجيش اللبناني، بل ايضا المصالح وتاريخ المنطقة. فمن حيث التاريخ لا يزال الشيوعيون السابقون واليساريون وابناء الاحزاب العقائدية يشغلون اغلب المناصب، وهم وان عاد بعضهم للصلاة في المساجد او انتمى الى تيار المستقبل، الا انهم لن يصلوا يوما الى الترحيب بوجود القوى السلفية بين ابنائهم.
ومن حيث المصالح فان هذه البلدة تعمل بجهد، موزعة قواها العاملة ما بين 10 بالمئة في الوظائف الرسمية والجيش والقوى الامنية، و10 بالمئة على خط التهريب مع سوريا، و10 بالمئة يعملون خارج البلدة، و70 بالمئة يعملون في مقالع ومناشر الحجر، وهم يملكون شاحنات وزبائن من المناطق المحيطة، وتصلهم طريق واحدة بباقي البلد وهي تلك التي تمر باللبوة (الشيعية).
مستقبل الحدود
قبل شهر من الان اخلت قوات الفرقة الرابعة مراكزها الحدودية مع لبنان، وهي كانت الى العمق قليلا من الحدود، وكانت بحسب ابناء البلدة تعد 18 نقطة عسكرية، ولم تتدخل القوى الامنية اللبنانية لتضبط الحدود من الناحية اللبنانية بعد ان كثرت عمليات التهريب المدنية او تلك المرتبطة بالثورة، الفرقة الرابعة لم تتحمل ضغط عمليات الثوار السوريين، فانكفأت الى مواقع داخلية، والسلطات الامنية اللبنانية لم تحرك رمشا، فضلت النأي بالنفس. وفي المقابل فان عرسال ليست موحدة الرأي حول اي السبل هي الافضل للتعبير عن تضامنها مع الثورة السورية، واي السبل افضل لعدم التورط في ما لا تحمد عقباه، ورغم ذلك فان العقاب يشمل كل عرسال وتوضع البلدة بسكانها البالغ عددهم 47 الفا (بعد اضافة اللاجئين السوريين اليهم) تحت حصار القوى العسكرية اللبنانية.
ولن ندخل في سيناريوهات باتت تلوح في اذهان ابناء البلدة، والعديد من القوى الموجودة في لبنان، حول اتفاقات دولية تقتضي بتسوية سورية على دم ابناء الثورة وكل من ناصرها، ولكن في المقابل فان مستقبل الحدود اللبنانية السورية مطروح اليوم، ولا بد من ان يقدم رئيس الحكومة اجوبة واضحة عما حصل، بدل التلطي خلف اصبعه وتقديم اجابات منحرفة عن اسئلة واضحة.
وحين تجمع اركان الحكاية، ستجد نفسك امام مجموعة من الاسئلة الالزامية:
اولا من اعطى امر عملية مماثلة في ظل غياب قائد الجيش عن البلاد.
ثانيا منذ متى تقتضي مذكرة التوقيف (ان وجدت) بقتل الشخص المطلوب توقيفه فورا؟
ثالثا كل الاجهزة الحديثة التي كانت بحوزة المجموعة الخاصة والتي نقلت الى مبنى البلدية في عرسال لم تساعدهم على سلوك طريق امن للانسحاب؟
رابعا وقبل كل شيء لماذا سلوك طريق الجرد والضياع فيها في حين كان بامكان المجموعة الدخول الى البلدة بسهولة، وكان في البلدة نقطة للجيش اللبناني؟
خامسا لماذا لم تتم نجدة المجموعة المحاصرة برصاص ابناء البلدة؟
سادسا لماذا تحميل كل عرسال مسؤولية قتلة اصبحوا معروفين بالاسم؟
سابعا لماذا تحاصر السلطات البلدة حتى اللحظة؟
ثامنا واخيرا من يتحمل مسؤولية العملية الامنية الفاشلة التي ادت الى ما ادت اليه؟
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة