القاعدة في بلاد الرافدين: ماضي العراق هو حاضر سوريا (3)
فداء عيتاني
بداية ظهور تنظيم القاعدة
يختلف العراقيون، وبحسب اهوائهم السياسية والمذهبية، في تحديد وقت دقيق لبدايات ظهور السلفية في العراق، فبين من يؤكد ان عقاب الوهابية في العراق كان الاعدام، وان النظام العراقي في زمن صدام حسين كان رافضا بالكامل لوجود اي عناصر وهابية او سلفية في العراق، ونفي اخرين لهذه المعلومات، وتأكيدات البعض بان العقوبة كانت بحسب قانون استصدر في العام 2000 او 2001 الاعدام لمن يثبت انتماؤه الى المذهب الوهابي، او السلفي، فان تقارير امنية رسمية، واغلب الشخصيات الشيعية (سياسيا) تؤكد ان الوهابية والسلفية موجودتان في العراق منذ ما قبل السقوط، وان النظام كان يغض الطرف عنهما.
كان العراق الى امد قريب يعيش حالة الاسلام الصوفية بشكل شبه كامل، علما ان بعض الفرق الصوفية لاقت انتشارا واسعا مثل النقشبندية وغيرها. الفرق الصوفية لا تزال تشكل ارضية واسعة بين ابناء الطائفة السنية وخاصة في المدن، والمراكز الرئيسية في البلاد.
وبحسب ما هو معلوم فان النقشبندية هي المذهب الذي تبناه عزت الدوري، نائب الرئيس العراقي، المريض بسرطان الدم، والذي يعتقد بنحو واسع في اوساط وزارة الداخلية العراقية حاليا بانه يعيش في سوريا، وهو من يقود جيش النقشبندية وتنظيمات عراقية مقاومة اخرى، كما انه اصبح القائد الرسمي لحزب البعث في الثالث من كانون الثاني العام 2007.
سرعت ممارسات الاحتلال الاميركي في انتشار الفكر السلفي الجهادي، وبينما كانت المقاومة العراقية في بدايتها فانها رحبت بكل المقاتلين الاجانب، خاصة لاحساس ضباط في الجيش من السنة بانهم ارتكبوا خطيئة بحق المقاتلين العرب الذين تركوا ليموتوا بمفردهم في شوارع بغداد في نهاية شهر نيسان من العام 2003، بعد ان وصلوا على عجل في بداية العمليات الاميركية على العراق في شهر اذار من العام نفسه. وهو ما يحاول البعض انكاره بالقول ان العراقيين ساعدوا المقاتلين العرب على الانسحاب والاختفاء في العراق والعودة الى ديارهم، ولكن في شهادات الجنود والضباط السابقين في الجيش العراقي فان التخلي عن هؤلاء المقاتلين بعد كل ما اظهروه من شراسة في الدفاع عن العراق تعتبر نقطة سوداء، ويفسرون عدم الاعتراف بذلك بانه يتناقض مع الشيم العراقية، ويظهر العراقيين كمتخاذلين وجبناء وناكرين للجميل.
المبرر الاخلاقي هذا قد يشكل غطاءا لحاجة فعلية استشعرها القادة العراقيون الذين فقدوا كل امتيازاتهم، من ضباط وعائلات مستفيدة من النظام السابق، وبناء على هذه الحاجة تم الترحيب بكل الوافدين لقتال الاميركيين على ارض العراق، بعد انهيار شامل وسريع شهدته كل اجهزة الحكم في البلاد، وبعد مطاردة ضباط النظام السابق داخل البلاد وخارجها.
ويروي جنود عراقيون شاركوا في معارك مطار بغداد عن بأس وعناد المقاتلين العرب الذين شاركوا في تلك المعارك في الايام الاخيرة قبل سقوط بغداد، وعن تهريب هؤلاء المقاتلين وعودة بعضهم الى بلادهم وبقاء اخرين في العراق للمشاركة لاحقا في تنظيم عمليات المقاومة ضد الاميركيين.
من خلال ما شاهده ابناء المناطق من قتال المتطوعين العرب الى جانبهم، وحماسة العرب لقتال الاميركيين، وسقوط العديد منهم سواء نتيجة العمليات الحربية او نتيجة تخلي السكان المحليين عنهم، وحفاظهم على مواقعهم رغم فرار الكثير من البعثيين من المواقع القتالية، وتخلي العديد من الجنود عن المشاركة في المعارك، فقد استنتج العراقيون اولا ان قادة تنظيم القاعدة الوافدين الى العراق بعد الاحتلال شبيهين بالمتطوعين العرب، قبل ان يظهر لهم ان القاعدة تختلف عما عرفوه وخبروه من المتطوعين خلال فترة الاجتياح وما تلاها. واغلب المتطوعين العرب لم يدخلوا في تنظيم القاعدة بعد ان استقر في العراق.
حربا الفلوجة
كذلك ادت حرب الفلوجة الاولى، وظهور شراسة وصمود المقاتلين العرب والمسلمين في مواجهة الاميركيين ومساندة العراقيين الى تكريس حالة من الاحترام لدى العراقيين السنة، وضباط الجيش السابقين الذين نظموا المقاومة الاولى، ولدى العشائر في المناطق، خاصة ان نتيجة الحرب كانت عدم قدرة القوات الاميركية على استعادة السيطرة على المدينة الواقعة في محافظة الانبار، مما ادى الى تحالف اغلب العشائر في المنطقة مع المقاتلين العرب الذين ينتمون الى القاعدة، وسرع بشكل كثيف في فرض تنظيم وسيطرة التنظيم على المناطق المحيطة، وسهل وصول المقاتلين الى الانبار وانتقالهم الى مناطق عراقية اخرى في العام 2004 وخاصة عبر منطقة دير الزور السورية.
الا ان حالة التحالف والاتحاد ما بين العشائر وما بين تنظيم القاعدة لن تتكرر في الفلوجة الثانية (تشرين من العام 2004) اذ ان القاعدة كانت قد تشكلت كتنظيم بسرعة كبيرة، مستفيدة من عبور القيادة الرئيسية للقاعدة من سوريا وايران (وبصورة اقل السعودية والاردن والكويت وهي حالات محددة) نحو الداخل وتركيبها لهيكلية عملية، ضمت قيادات ومقاتلين عرب، واستخدمت العنصر العراقي كمقاتل عادي يتولى امرته شخص قادم من الخارج دائما، وعملت على الامساك بالارض وبالقرار، عبر عدة وسائل اهمها المال والخبرة والدين، وتولى تنظيم القاعدة في الفلوجة الثانية ادارة المعارك، وترك المدينة تقاتل من دون مشاركة مقاتلين محترفين من العرب، اذ عمد الى سحبهم خلال الايام الاولى للمعارك الى خارج الفلوجة.
فبعد اخذ البيعة من شيوخ العشائر، وبعد ان تمت تنحية قادة عمليات حرب الفلوجة الاولى العراقيين (بالتهديد او الاهانة مما دفع كبار القوم من الضباط الى الانسحاب تلقائيا) وبعد حصر القيادة بيد امراء تنظيم القاعدة، عمد التنظيم الى اعداد خطط معركة الفلوجة الثانية، وبعد ايام من بداية المعركة، ومع اشتداد وتركيز العمليات الحربية تم تجميع المقاتلين العرب والاجانب التابعين لتنظيم القاعدة في احدى نواحي مدينة الفلوجة، ثم ببساطة “اختفوا” بحسب ما يفيد كل من شهد تلك المرحلة من السكان، وتركت المدينة لمواجهة القوات الاميركية بعناصر القاعدة العراقيين، وباوامر تأتي من خلف الحصار الاميركي، وبابناء المدينة الذين قاتلوا بما توافر لهم من مخازن اسلحة سبق ان نهبت بعد ان تركها الجيش العراقي.
وتكثر الشائعات عن مصير مقاتلي تنظيم القاعدة الذين كانوا في الفلوجة وانسحبوا منها، بعضها يفيد بانهم انسحبوا في سيارات بتفاهم مع الاميركيين، واخرى تقول بانهم فروا عبر النهر في مسلك خطر ومكشوف للمروحيات الاميركية ولكنه شكل خط الامداد والهروب الوحيد للمدينة، الا ان احدا لم يشاهد او يعلم بالضبط ما الذي حصل للمقاتلين واين اختفوا.
مصالح متضاربة
هنا كان التنظيم قد تحول من قتال وفق البرنامج العراقي الذي يحقق مصلحة فئة من البلاد (السنة والضباط السابقين، والطبقة التي كانت تستفيد من النظام السابق) الى برنامج متشابك ومعقد يلبي مجموعة من المطالب في ان معا لعدد كبير من الاجهزة الامنية والاطراف السياسية الاقليمية، لم يمر هذا التحول دون صراع ما بين القائد الاعلى له في بلاد الرافدين ابو مصعب الزرقاوي، والقائد الاول للتنظيم في العالم الشيخ اسامة بن لادن، واصدر التنظيم العراقي في تلك المرحلة اشرطة فيديو قطع الرؤوس وحز الاعناق، وبات النزاع يأخذ شكلا مرعبا من القتل العشوائي، الذي ظل تنظيم القاعدة في العراق يصفه بالجهاد ضد الاميركيين، بينما قدراته العسكرية والامنية تركز جهدها على القتل وبالتراتبية: المدنيين من السنة، والشيعة، وبعدها جنود الشرطة العراقية، والجيش العراقي (الحرس الوطني) وبعدهم القوات التابعة للشركات الامنية من المرتزقة الاجانب، وفي نهاية لائحة القتل جنود الجيش الاميركي.
بعد معركة الفلوجة الثانية عاد المقاتلون العرب للظهور في المزارع والاراضي الخالية او في منازل بسيطة لمزارعين وفلاحين في نواحي الفلوجة، وسيطروا بكثرتهم ومع المقاتلين العراقيين على الانبار بكليتها، واصبحوا سلطة مطلقة، الا انهم كفوا عن قتال الاميركيين في تلك الفترة التي اعقبت حرب الفلوجة الثانية، وكانت تلك بداية فترة الحرب الطائفية بين العراقيين، ورغم ان الانبار لا تضم الكثير من العائلات الشيعية، اللهم الا تلك التي كانت تنتقل بحرية للسكن في محافظات مختلفة وفقا لانتقال اعمالها في زمن صدام، الا ان التنظيم فرض سيطرة حديدية، وبدأ حملة تصفيات وتفجير وعمليات شملت السنة بشكل رئيسي، والقوى العسكرية النظامية العراقية مع بداية تشكيلها، وفصائل المقاومة الاخرى التي كانت قوية في الانبار، وشيوخ عشائر رفضوا او اخلوا او اشتبه بانهم يخلون بشروط البيعة المطلقة للتنظيم.
وكان للتنظيم حرية الحركة المطلقة في عبور الحدود مع سوريا، وكان ينقل كبار شيوخ العشائر الى خارج الحدود ليقدموا البيعة لامراء تنظيم القاعدة، وطبعا فان الشخصيات التي كانت تتلقى البيعة كانت تحمل اسماء وهمية، ولم تكن لتظهر في العراق اساسا، وعلى الارجح فانها اما شخصيات وهمية تلعب دور امراء في التنظيم او انها من الجهاز الشرعي الديني في التنظيم.
وبحسب العديد من المصادر، سواء من العشائر او من السلطة القائمة، ووزارة الداخلية، فان السيطرة التي تمتعت بها القاعدة اتت من عدة عوامل، واهمها كانت شعار مقاومة الاحتلال، والقدرة المالية على دعم اي حراك مقاوم، والخبرة القتالية والتنظيمية العالية، والاحكام الدينية، والوجهة الاسلامية التي يحملها التنظيم والمتوافقة مع الجو العراقي العام المتدين (شكلا على الاقل)، وفي مرحلة لاحقة استعملت القاعدة اسلوبي الترغيب والترهيب، وكانت توزع المال على عناصرها والجهات المتحالفة معها، كما كانت تسهل اعمال هذه الجهات، ولكنها في المقابل تطالب بالولاء الكامل، وتحصر السلطات الادارية فيها، وتمنع عن شيوخ العشائر ممارسة سلطاتهم التي يعتبرونها سلطة طبيعية في مناطقهم وعلى ابناء عشائرهم، وكانت القاعدة تعمد الى الترهيب كأسلوب لضمان الولاء، فتبطش بكل من يشذ او يحاول مقاومة سلطتها في مناطق نفوذها، فتعمد الى تفجير منازل ومصادرة ممتلكات، وصولا الى التهديد بالقتل او تنفيذ عمليات قتل لشيوخ عشائر وابنائهم واخوتهم، لمجرد اعتراض على توجه في المقاومة.
في محافظة التأميم (كركوك) وخلال اجتماع لدولة العراق الاسلامية اعلن احد القياديين العراقيين من ابناء العشائر عدم موافقته على الاستمرار بقتال الشيعة والقوات العراقية، وطالب بالتركيز على الاميركيين، وانفض الاجتماع على هذا الكلام، وحين توجه والد القيادي في القاعدة الى المسجد لاداء صلاة الفجر وجد رأس ابنه معلقا امام المسجد بعد ان تم الحكم عليه في الليلة نفسها بمخالفة احكام الدين واتخذ قرار بقتله، فقتل وعلق رأسه امام المسجد في الليلة نفسها.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة