الرئيسية » رأي » روبير بشعلاني »

الغزل على الأوهام

روبير بشعلاني

القوى التغييرية العلمانية في بيروت حائرة في إيجاد المخرج من الحشرة التي وجدت نفسها فيها منذ عقود بعدما أحكمت القوى الإجتماعية الطائفية السيطرة على شوارعها منذ اتفاق الطائف الذي كرّس, فيما كرّس, خروج الحركة الوطنية من الساحة السياسية.
الحيرة تظهر أولاً في الإختيار المتعدد والمتردد لتحركات تتميّز بعناوين سياسية ومطلبية جائلة لا قاسم مشترك فيها ولا جامع. ومن الواضح أن خلفيات القوى والشخصيات التي تقف وراء هذه التحركات تتفاوت في مدى تصوراتها لما يجري على الأرض وفي تفسير أسبابه وخلفياتها.
علينا أولا أن نعترف بأن عدم نجاح مشروع الحركة الوطنية التي قادت حرب “الغربية” منذ 1975 هو فشل سياسي ذريع.وهو فشل لا يتعلق بموازين القوى. أي أن الحركة لم تنكسرلأنها كانت أضعف من الفريق المقابل بل هي سقطت من الداخل بسبب التحولات التي شهدتها الساحة الإجتماعية اللبنانية ولا سيما الساحة الشيعية منها.
على أي حال وأيا تكن أسباب الفشل هذا فالمؤكد هنا أن اصحاب هذه الحركة, أو من تبقى منهم بعد أن تركها قادتها السابقون والتحقوا بغالبيتهم العظمى, مباشرة أم بالواسطة, بفريق “أهل السنة” في لبنان الذي يحمل إسما فنياً هو حركة 14 أذار وبمجمّع عوكر السياحي, لم يدرسوا بعدُ عِبر المرحلة السابقة والأسباب العميقة لخيباتهم. ومن المفارقة هنا أن تجد أطرافاً تعتمد الزيادة في الحركة وتتقصدها بدون أن تجِدّ قليلا في الدراسة والتعليل. يجربون حظهم في الإكثار من الشيء آملين ربما الفوز بالأجرين. التجريب ملك الساحة على بياض.
تعالوا نقارب التحركات الأخيرة والمتنوعة لمختلف مكونات هذا التيار لكي نكتشف سوية الخيط السري الذي يماسكها. من حملات إسقاط النظام الطائفي مروراً بالمطالبة ببنظام إنتخابي حديث وعصري نسبي وغير طائفي فضلا عن مطلب الزواج المدني وتعريجاً على الحملات المطلبية التي تنحصر بغالبيتها بالقطاع العام ولا سيما قطاع المعلمين, وصولا َأخيراً وليس آخراً الى معركة وأد الفتنة, عناوين تشي بالموضع الذي يوجع هذا التيار ويحاصره : الطائفية والطوائف ونظامها. عدة ملاحظات تفرض نفسها هنا :
من الملفت أولا أن أصحاب هذا التيار لم يعودوا الى دراسة نصهم في هذا الموضوع بالرغم من فشلهم فيه بالذات وفي مختلف الحقبات التاريخية السابقة وكذلك بالرغم من عدم بقائه مقتصراً على لبنان “الإستثناء” بعد انتشار “الوباء” اللبناني في طول المنطقة وعرضها. ما زلنا في نظرية النفخ. الطبقات الاحتكارية أو الكومبرادورية تنفخ في أتون التمذهب والتطيف لكي تقسم الطبقات ذات المصلحة. ولم يأتِ على بال هؤلاء أن هذا “الوباء” موجود في منطقتنا منذ قرون وقبل أن يحصل لنا شرف التمتع بولادة الطبقات الكومبرادورية بكثير, وحتى قبل ولادة رب عمل هذه الكومبرادورية, الإمبريالية.
إن نظرة متفحصة عن قرب لمجمل التحركات الأخيرة للتيار التقدمي اللبناني تضمر بوجود نظرتين ورؤيتين تتحكمان بالخلفية النظرية لهذه الحركات. واحدة “طبقية” ترى في العمل النقابي والإكثار منه والتشديد عليه وسيلة ناجعة للشفاء من “الوباء” وثقب الفقاعة الطائفية وتوحيد أصحاب المصلحة الموضوعيين في مختلف الطوائف. وهي التي تقف خلف غالبية التحركات النقابية الأخيرة وتعمل على إذكاء نارها بكل الحطب المتوافر. واخرى سياسية ترى في التشديد على “فضح” علل النظام وسيلة ل”توعية” الجماهير ” المضللة” حكماً. وهي التي تقف وراء التحركات ذات الطابع المدني الحديث والعصري. أما التظاهرة الأخيرة, تظاهرة وأد الفتنة, فهي أغلب الظن محاولة جمع بين النظرتين.
واضح في هذا السياق رهان التيار الأخير على الفئات المحدثة من المجتمع كقوة دافعة ورهان التيار الأول الراديكالي على الطبقات الشعبية. مأساة هاتين النظرتين أولاً قدامتهما. فليس من جدّة في أي منهما. كله مجرب سابقاً وعلى مدى عدة قرون وأثبت فشله الذريع بالوقائع المثبتة بدليل ما نحن فيه اليوم. فالغزل على المنوال نفسه وبالمواد نفسها من الصعب أن يعطي نتائج مختلفة اليس كذلك ؟
إلى ذلك فإن القوى الإجتماعية المعوّل عليها في الحالتين قشرية الجلدة أو جنينية الولادة أو هامشية الترسخ في بيئتها كما تثبت كل التجارب التاريخية السابقة سواء في لبنان أم في دول المنطقة كلها. أضف أيضاً وهم المدرسة الأولى التي تتوجه بمطالبها التغييرية الى نفس “الطبقة” نفسها التي من المفترض أنها هي المستفيدة من الواقع السائد الحالي. فكيف تطلب الإصلاح من المستفيد من عدم وجوده ؟ بالضغط “الشعبي” أي بعدة مئات من السكان على الأكثر لا يملأون مسجداً واحداً من مساجد الطوائف الهائلة العدد والسعة ؟ قليل من الواقعية.

الإكثار من الحلول القديمة والطرق القديمة المجرّبة لا يمكن منطقياً ان يضيف أي شيء على القراءة المتقادمة لنمط العيش العربي واللبناني منه أيضاً. وأما الإعتقاد بأن مأزق النظام الطائفي اللبناني الحالي وعجزه عن متابعة الدوران الإعتيادي هو مؤشر على نهايته وعلى سقوطه الموضوعي فهو. كما أزعم, وهمٌ موصوفٌ, طوباويٌ وطفوليٌ, ذلك أن المظهرَ الذي نراه لا يعبّر حتى الآن عن سقوط النظام كمحتوى طائفي بل عن تغيرات أصابت “ميثاقه” أي بنية قواه الطائفية وتوازناتها الداخلية فيما بينها عطفاً على لحظة تاريخية جديدة أدت من جهة الى بروز ودخول طوائف جديدة قوية العدد والشكيمة سواء في لبنان وخصوصاً في المحيط الإقليمي والعربي ومن جهة ثانية بسبب التحولات التي تجري في المنطقة على خلفية الصراع المحتدم بين الامبريالية الغربية المريضة والدول الصاعدة وكل من حلفائهما الدوليين والإقليميين والعرب.
وهنا نعود الى بيت القصيد, الى المحيط, الى صراعاته العامة التي شكلت وتشكل على الدوام مفتاح التوازن السياسي اللبناني والعربي. المعضلة في مكان والتغييريون اللبنانيون يفتشون في المكان الخطأ حيث يوحد إضاءة. المشكلة الحقيقية اليوم هي في احتدام الصراع على المنطقة ككل, الشرق الأوسط الجديد, على أرضها وإرادتها ومواردها فوق الأرض وتحتها وفي ظل غياب لأي مشروع سياسي عربي رؤيوي يطمح الى بناء الدولة العصرية المستقلة والصاعدة.
ملايين العاطلين من العمل وملايين العاملين بلا أمل وملايين الشباب المهمش, وملايين الفقراء في بلاد غنية , الصعاليك أعداء الطوائف بالطبيعة, يأملون بأن يكونوا وقود بناء دولة وطنية عربية صاعدة لا وقود الحركات الرجعية المشبوهة المتلحفة زوراً وبهتاناً بالإسلام.
المتاهة التي وجد نفسه بها تيار التغيير في لبنان حلّها ليس في اجترار الوصفات السابقة المحلية الضيّقة بل في النظرة الأوسع, الى المنطقة حيث يجري الصراع ُ, صراعُ الوجود والمستقبل. هنا يجب التموضع واتخاذ الموقف الحكيم والشجاع والمبادرة ببلورة الرؤية والمساعدة في بناء هذا المشروع المستقبلي لا في زواريب بيروت ولا على ” جسر القمر” الرحباني.
إن الكلام على وأد الفتنة يتضمن, بالرغم من طابعه الإنساني الشكلي والحريص على بلاده, شكلاً من الإستقالة من الدور التاريخي المطلوب من “أهل التغيير” في لبنان. فالموقف هذا ليس فقط عديم الفعالية, إذ لا يقدم ولا يؤخر في حساب رهانات وصراع المصالح الإقليمية والدولية أوالطائفية المحلية, بل يتميّز بتضليل الناس حول حقيقة طبيعة الصراع الدائر في المنطقة اليوم والرهانات القائمة. كما أنه يحمل كمية من التعمية تتضمن حياداً غير مفهوم من قبل قوى تغييرية عبر المساواة بين فرقاء “الفتنة”.

اقرأ للكاتب نفس:

اُكتب تعليقك (Your comment):

صحافة اسرائيل

إعلان

خاص «برس - نت»

صفحة رأي

مدونات الكتاب

آخر التعليقات

    أخبار بووم على الفيسبوك

    تابعنا على تويتر

    Translate »
    We use cookies to personalise content and ads, to provide social media features and to analyse our traffic. We also share information about your use of our site with our social media, advertising and analytics partners.
    Cookies settings
    Accept
    Privacy & Cookie policy
    Privacy & Cookies policy
    Cookie name Active

    Privacy Policy

    What information do we collect?

    We collect information from you when you register on our site or place an order. When ordering or registering on our site, as appropriate, you may be asked to enter your: name, e-mail address or mailing address.

    What do we use your information for?

    Any of the information we collect from you may be used in one of the following ways: To personalize your experience (your information helps us to better respond to your individual needs) To improve our website (we continually strive to improve our website offerings based on the information and feedback we receive from you) To improve customer service (your information helps us to more effectively respond to your customer service requests and support needs) To process transactions Your information, whether public or private, will not be sold, exchanged, transferred, or given to any other company for any reason whatsoever, without your consent, other than for the express purpose of delivering the purchased product or service requested. To administer a contest, promotion, survey or other site feature To send periodic emails The email address you provide for order processing, will only be used to send you information and updates pertaining to your order.

    How do we protect your information?

    We implement a variety of security measures to maintain the safety of your personal information when you place an order or enter, submit, or access your personal information. We offer the use of a secure server. All supplied sensitive/credit information is transmitted via Secure Socket Layer (SSL) technology and then encrypted into our Payment gateway providers database only to be accessible by those authorized with special access rights to such systems, and are required to?keep the information confidential. After a transaction, your private information (credit cards, social security numbers, financials, etc.) will not be kept on file for more than 60 days.

    Do we use cookies?

    Yes (Cookies are small files that a site or its service provider transfers to your computers hard drive through your Web browser (if you allow) that enables the sites or service providers systems to recognize your browser and capture and remember certain information We use cookies to help us remember and process the items in your shopping cart, understand and save your preferences for future visits, keep track of advertisements and compile aggregate data about site traffic and site interaction so that we can offer better site experiences and tools in the future. We may contract with third-party service providers to assist us in better understanding our site visitors. These service providers are not permitted to use the information collected on our behalf except to help us conduct and improve our business. If you prefer, you can choose to have your computer warn you each time a cookie is being sent, or you can choose to turn off all cookies via your browser settings. Like most websites, if you turn your cookies off, some of our services may not function properly. However, you can still place orders by contacting customer service. Google Analytics We use Google Analytics on our sites for anonymous reporting of site usage and for advertising on the site. If you would like to opt-out of Google Analytics monitoring your behaviour on our sites please use this link (https://tools.google.com/dlpage/gaoptout/)

    Do we disclose any information to outside parties?

    We do not sell, trade, or otherwise transfer to outside parties your personally identifiable information. This does not include trusted third parties who assist us in operating our website, conducting our business, or servicing you, so long as those parties agree to keep this information confidential. We may also release your information when we believe release is appropriate to comply with the law, enforce our site policies, or protect ours or others rights, property, or safety. However, non-personally identifiable visitor information may be provided to other parties for marketing, advertising, or other uses.

    Registration

    The minimum information we need to register you is your name, email address and a password. We will ask you more questions for different services, including sales promotions. Unless we say otherwise, you have to answer all the registration questions. We may also ask some other, voluntary questions during registration for certain services (for example, professional networks) so we can gain a clearer understanding of who you are. This also allows us to personalise services for you. To assist us in our marketing, in addition to the data that you provide to us if you register, we may also obtain data from trusted third parties to help us understand what you might be interested in. This ‘profiling’ information is produced from a variety of sources, including publicly available data (such as the electoral roll) or from sources such as surveys and polls where you have given your permission for your data to be shared. You can choose not to have such data shared with the Guardian from these sources by logging into your account and changing the settings in the privacy section. After you have registered, and with your permission, we may send you emails we think may interest you. Newsletters may be personalised based on what you have been reading on theguardian.com. At any time you can decide not to receive these emails and will be able to ‘unsubscribe’. Logging in using social networking credentials If you log-in to our sites using a Facebook log-in, you are granting permission to Facebook to share your user details with us. This will include your name, email address, date of birth and location which will then be used to form a Guardian identity. You can also use your picture from Facebook as part of your profile. This will also allow us and Facebook to share your, networks, user ID and any other information you choose to share according to your Facebook account settings. If you remove the Guardian app from your Facebook settings, we will no longer have access to this information. If you log-in to our sites using a Google log-in, you grant permission to Google to share your user details with us. This will include your name, email address, date of birth, sex and location which we will then use to form a Guardian identity. You may use your picture from Google as part of your profile. This also allows us to share your networks, user ID and any other information you choose to share according to your Google account settings. If you remove the Guardian from your Google settings, we will no longer have access to this information. If you log-in to our sites using a twitter log-in, we receive your avatar (the small picture that appears next to your tweets) and twitter username.

    Children’s Online Privacy Protection Act Compliance

    We are in compliance with the requirements of COPPA (Childrens Online Privacy Protection Act), we do not collect any information from anyone under 13 years of age. Our website, products and services are all directed to people who are at least 13 years old or older.

    Updating your personal information

    We offer a ‘My details’ page (also known as Dashboard), where you can update your personal information at any time, and change your marketing preferences. You can get to this page from most pages on the site – simply click on the ‘My details’ link at the top of the screen when you are signed in.

    Online Privacy Policy Only

    This online privacy policy applies only to information collected through our website and not to information collected offline.

    Your Consent

    By using our site, you consent to our privacy policy.

    Changes to our Privacy Policy

    If we decide to change our privacy policy, we will post those changes on this page.
    Save settings
    Cookies settings