“ثورات قلقة” تستسلم لنظرية المؤامرة ودوغما الآيديولوجيا
في كتابه الجديد “ثورات قلقة- مقاربة سوسيوـ استراتيجية للحراك العربي”، يواصل “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي” في بيروت سلسلته للدراسات الحضارية، من دون أن يحاول الخروج عن املاءات السياسة ودوغما العقيدة.
ففي كتاب قام بتأليفه مجموعة من الباحثين وأعده وقدّم له الكاتب محمود حيدر، اشكاليات عديدة حول الحراك الجماهيري الذي يشهده العالم العربي منذ نحو سنتين ومعالجة افتقدت أحياناً للرؤية الانسانية الأخلاقية.
من الصعب جداً لدى شريحة واسعة من الباحثين، التحرر من دوغما العقيدة الدينية أو الآيديولوجيا السياسية، في ظل اصطفافات بين معسكرين دوليين يحشدان كل عدّتهما العسكرية والسياسية والأمنية والإعلامية والفكرية في سبيل الانتصار.
المفكرهنا هو ضحية هذا الصراع، فإما يكون مع السئ ضد الأسوأ من منطلق وجوب اتخاذ موقف سياسي للتاريخ، وإما أن يتماهى كلياً مع السياسة الاقليمية او الدولية لهذا الطرف او ذاك، حتى ولو على حساب الموضوعية ومنطق الأخلاق وجوهر الانسانية.
في هذا المنحى يسير كتاب “ثورات قلقة” الذي قد يكون محقّاً في بعض جوانب الأبحاث المُتَضمّنة، لجهة الخوف من اختراق الاستخبارات الغربية للثورات العربية، وصناعة الفوضى الخلاّقة. لكنه لن يكون محقاً في تبرير القتل والخطف الذي تمارسه أنظمة الممانعة بحجة حماية المقاومة، لأن منطق الأخلاق لا يفترض أن تسير السياسة نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية الكبرى بمعزل عن التفكير في الإنسان وهواجسه وظلاماته. والمقاومة ليست هدفاً بذاتها انما هي وسيلة لتحقيق حرية الإنسان وكرامته ورغد عيشه. وما لم تقف مع حرية الانسان فقدت مبرؤر وجودها.
ثمة محاولة لمصادرة كرامة الإنسان وحريته تحت شعار حماية المقاومة والممانعة، فما معنى التشكيك في صحة ظلامات الشعوب العربية من مصر الى سوريا مروراً بليبيا وتونس، واستثناء البحرين؟
وهل يحق فقط لأهالي البحرين أن يطالبوا بحقوقهم ويُمنع ذلك عن الشعب السوري الذي باسم الممانعة والمقاومة والعروبة عانى الجوع والفقر والاضطهاد وهتك الكرامات والأعراض على مدى أربعين عاماً؟
مع ذلك، ثمة آراء جيدة في هذا البحث المشترك، لكن كان يمكن أن يخرج بصورة أفضل فيما لو جعل العقل ديدنه بدل الولاء السياسي والموضوعية بدل الانحياز المذهبي. فالمفارقة أن بعض هؤلاء الذين يتهمون الثورات بالعمالة للأجنبي يعتبرون في الوقت نفسه أن من جاء وساند ودعم جحافل الجيوش الغازية الى بلاد الرافدين “مجاهداً”، فقط لأنه أصبح يدور في فلك النظام الإيراني. مع العلم أن خطيئة انغماس العراقيين بالخيانة للأميركي قد تجلت بأبشع صورها في النظام الطائفي الذي يمارسه هؤلاء اليوم في الشارع وفي الدستور والقوانين والإعلام الخ.
طبعاً كما الظلم لا يتجزأ كذلك العمالة لا تتجزأ. والتعميم بهذا الشكل من دون أخذ هواجس الناس ومطالبهم بعين الاعتبار فيها نظرة سطحية ظالمة. إذ ليس كل من نزل الى الشارع مطالباً باسقاط النظام قد انطلق من دوائر الاستخبارات. وليس كل من فقد أحد ذويه أو أقاربه في زنازين النظام السوري أو المصري أو التونسي او الليبي أو البحريني، عميلاً للأجنبي ومشاركاً في مؤامرة زرع “الفوضى الخلاقة”. إذ ان التنازع المذهبي الذي نعيشه اليوم هو نتيجة ممارسات سياسية واجتماعية داخلية لا علاقة لها بالأجنبي، والأحزاب الطائفية سواء كانت سنية أو شيعية مقاومة أو تابعة لأنظمة، وجودها نفسه يؤسس للفتنة وللعصبية. والتحذير من موجة سلفية تكفيرية في وقت نتحالف فيه مع جمهورية إسلامية مذهبية وحزب عقائدي لا يختلف في ممارساته الدينية عن الوهابيين، فيه شئ من الاستخفاف بالعقول والتسطيح. فما المانع للشعب السوري ان يختار السلفيين اذا كانت الديموقراطية الايرانية أتت بالمتشددين الى السلطة. وكما تطور الاسلاميون الشيعة في مفاهيمهم السياسية على مدى 30 عاماً يمكن السلفية أن تتطور حين تمارس السلطة.
يمكن وضع الثورات العربية جميعها بما فيها تجربة غزو العراق على مشرحة النقد والتقويم، لكن بشرط أن لا يكون الحكم نابعاً من ولاء سياسي لإيران وسوريا أو انتماء عقائدي لهذا المذهب أو ذاك. فدوغما العقيدة كفيلة بنسف موضوعية وعقلانية أي بحث يسير في هذا المنحى.
في أي حال يستحق كتاب “ثورات قلقة” القراءة والتفكير في مضمون الأبحاث المشاركة، لمعرفة أي منقلب انقلب مشهدنا الثقافي في ضوء الاصطفافات السياسية، والى أي درك نزلت قضية الإنسان الذي هو أساس كل نظام أو حكم. وهذا لا ينطبق على طرف من ينتقد الثورات فقط إنما ينطبق أيضاً على من يذهب بعيداً في التماهي مع المشاريع الصهيونية والإمبريالية بحجة التحرر من الأنظمة. لأن الغرب ودول الخليج ومن خلفها تركيا لا تريد للشعب السوري أو للشعوب العربية الحرية والديموقراطية الغائبة عن هذه الدول أصلاً، بقدر ما تقوم بدورها في تنفيذ ما لا يستطيع الاستعمار تنفيذه بشكل مباشر.
فالمعادلة معقّدة وصعبة بين من يفضّل بقاء الأنظمة الحالية على الفوضى الخلاقة وبين من يسعى الى الحرية متحملاً ورز المسيرة الطويلة التي يتطلبها التغيير ورغم تدخلات الغرب وضغوطاتهم.
الكتاب يتألف من ستة فصول، وكلمة المركز التي كتبها محمود حيدر بعنوان “بواعث الثورات القلقة مسعى تنظيري لفهم طبائعها، وأسئلتها، وتحيّزاتها الآيديولوجية”.
كتب خليل أحمد خليل، بحثاً بعنوان “كشف الوهم الآيديولوجي بعلم سوسيو لوجي”، بينما كتب فؤاد خليل عن “الثورة” محادثة مجتمعية كبرى. وذلك في سياق الفصل الأول بعنوان “التغطية الآيديولجية للثورات العربية”.
وتناول جورج قرم “الخطاب الإعلامي ودوره في تحويل الثورات الى فتن دينية”، في حين تحدث سركيس أبو زيد عن “الربيع العربي بين احتمالين: الفوضى والنهضة”.
الفصل الثالث تناول محور “البعد السوسيولوجي للثورات العربية”. وكتب فيه طلال عتريسي: “الإسلاميون بعد الثورات: النموذج المؤجل”. وحسن جابر عن “الثورات العربية ورهانات المستقبل”.
الفصل الرابع خُصّص للبحث في علاقة أميركا بالثورات، وشارك فيه عبدالله بوحبيب ببحث عن “كيف تعامل العقل الأميركي مع الثورات العربية”.
وكتب معين حداد عن “الفوضى الخلاقة على الطريقة الأميركية”.
وفي محور “الخلفيات المعرفية التاريخية للثورات العربية” تناول توفيق شومان “الربيع العربي: جدل التقليد والتغيير” وهيثم مزاحم مقاله بعنوان “لماذا تحدث الثورات؟”.
أما الفصل السادس الأخير، فقد ركّز على ثورتي البحرين وتونس، وشارك في هذا المحور صلاح الدين المصري ببحث تحت عنوان “ثورة 17 ديسمبر في تونس: السياق التاريخي والمآلات”، وكتب وليد نويهض عن “لؤلؤة الخليج البحرين… تاريخ الملجأ والجسر”. وتحدث عن “التكوين الداخلي والقبيلة في البحرين، يوسف الربيع، بينما تناول ابراهيم المدهون الثورة البحرينية: ظروفها الداخلية وابعادها الجيوـ ستراتيجية”.