ذعر الاقليات
عدا عن الذعر، ما الذي تقوم به الاقليات وقياداتها للمشاركة في واقعها بفعالية، والاندماج في محيطها دون الاصطدام به كل حين وعند كل تحول سياسي؟ والسؤال الاساس ربما كيف عايشت الاقليات فترات الاستقرار حتى وصلت الى حالات الذعر الهستيري ايام الازمات؟
لا يمكن اغفال اننا نعيش في عالم غير متسامح مع الاخر، وان الكثير من المظالم وقعت تاريخيا على الاقليات، في الشرق خاصة تم تهميش هذه الاقليات واقصائها وافقارها واختيار نخبها بما يناسب السلطات القائمة. معضلة الاقليات ومشاركها في الحكم والمواطنة لا تحل عبر شعارات تطمينية من قبيل “قبل الحرب لم نكن نعرف طوائف بعضنا”، او الاسوأ منها “كلنا شركاء في الوطن وكلنا اخوة”. ولا تحل عبر اغفال المشكلة، ولا يمكن ان تختصر بان فئة مضطهدة وخائفة من فئات اكبر واقوى، او اكثر عددا، او اشد بأسا. ولكن مشكلة الاقليات ايضا لا يمكن ان تجد حلولها في التحول نحو العنصرية، والكلام حول النوع والكم، او في الانعزال ومنع الاختلاط التجاري والانساني والعمراني، وصولا الى اثبات تفوق العنصر الاقلوي مقارنة بمن هم حوله من مواطنين، ولا يمكن ان تحل على قاعدة تجميع كل طاقات الفئة في بوتقة واحدة لمواجهة الاخرين. او رفع شعار مظلومية ابدي لا يجد حلا ولا يقبل الحلول الا على قاعدة اضطهاد الاخرين من الاكثرية والاقليات الاخرى.
في لبنان تم تهميش المسلمين بصفتهم من الاقليات، اشرك جزء من السنة في السلطة ايام الاستقلال الاول، واشرك بعض ممثلي الشيعة الممقوتين من اهل بيتهم، واستمر الظلم اعواما طويلة، وانفجر في حرب اهلية، ايضا تحت شعار حماية الاقلية المسيحية في الشرق.
الحرب الاهلية التي انتهت بانتصار الشيعة المدعومين من النظام في سوريا لم تنه الهواجس المسيحية، بل على العكس، فاقمتها وادت الى مرحلة “الاحباط المسيحي”، بعد ان كانت الحرب تخاض ضد “المارونية السياسية” التي تضم فيمن تضم سنة وشيعة ودروز وتحالفت في مرحلة من المراحل مع العلويين في شمال لبنان.
الهواجس المسيحية اليوم تضخم الى حد كريكاتوري، حين غزا الاميركيون العراق وفي اعوام الحرب الطائفية (كما يدعو العراقيون الاعوام الممتدة من 2003 الى 2008) فتك اهل العراق ببعضهم، وليس دون تشجيع من دول الجوار ومن قوات الاحتلال الاميركية والبريطانية، كانت النتيجة ما بين من سقط في حرب الغزو ومن سقط في حرب الطوائف اكثر من مليون قتيل، وبعضة ملايين اخرى من النازحين واللاجئين الى خارج البلاد، الا ان الدخول الى كنيسة في بغداد كان كافيا ليوحي لك بان الحرب كلها تخاض ضد المسيحيين.
يحدثك الحرس المسلح امام الكنيسة عن مآسي تقشعر لها الابدان، يخبرك بالظلم الذي تعرض له المسيحيون طوال حكم صدام حسين وما تلاه، وعن اضطهاد السنة (الاقلية الاخرى في العراق) لهم، وعن عنف الشيعة ضدهم، ثم يسر لك راعي الكنيسة وكاهنها عن مآساة اخرى تجلت بهجرة المسيحيين من بغداد، فقدت كنيسته رعاياها، اغلبهم اصبحوا في بلاد الغرب او في لبنان.
حين تخرج من الكنيسة تبدأ عملية الهروب من الحواجز، والخشية من الخطف، وسماع دوي انفجار هنا، وتحليق مروحي هناك، ثم اطلاق نار، واحياء مغلقة المداخل بالكامل، وحاجز مشبوه قريب من الفندق، وشركة امنية تتعرض لهجوم، اغلاق طريق بسبب الاشتباه بسيارة مفخخة. تنسى عندها ان في بغداد مسيحيين، وتتذكر ان الحرب طاولت كل اوجه الحياة، وحينها تنتبه الى ان الشيعة والسنة العراقيين يعتبرون ان المسيحيين لطالما كانوا مدللين لدى نظام البعث.
لم يتعرض مسيحيو العراق لما يفوق واحد من الالف من الخسائر التي لحقت بالعراق عموما، سواء في الغزو والاحتلال الاميركي، او في الحرب العشوائية التي شنتها الطوائف ضد بعضها، او في عمليات المقاومة التي طاولت الاميركيين والجيش والشرطة العراقيين، او في عمليات تنظيم القاعدة التي نفذت ما يقارب 3700 عملية تفجير انتحارية، واحدة منها فقط كانت خلال احتلال كنيسة مسيحية في بغداد، والباقي موجه ضد احياء سنية وشيعية وشخصيات مختلفة ما بين علمانية وشيعية، وبعض العمليات ضد الاميركيين (بحسب احصاءات وزارة الداخلية العراقية للعام 2011).
ولكن في بيروت كان الاعلام اللبناني يظهر اللاجئين المسيحيين العراقيين كل ما تحرك احدهم الى البلاد او خارجها، بينما يمر خبر مقتل العشرات في انفجار سيارات مفخخة وانتحاريين مرور الكرام خلال ثوان سريعة.
كذلك الامر في سوريا اليوم مع مسيحيي سوريا، حيث يسعى البعض في لبنان وسوريا الى اعتبار ان هناك مقتلة كبيرة تستهدفهم، وانهم هدف لعمليات التهجير القسرية، وقد بلغ الرقم الالاف منهم، البعض قال اربعة الاف والبعض الاخر اكد انهم ستة الاف من المهجرين، في حرب خسر فيها النظام السوري حوالي 50 الفا من جنوده، ومات في مناطق الثورة من جراء القمع والقصف والتصفية والقتال ما يزيد عن المئة الف، ويقبع مئة اخرون او يزيد ايضا في السجون والمعتقلات عند النظام، وتشرد حوالي اربعة ملايين سوري من منازلهم، وهرب من البلاد حوالي المليونين، حيث يعيش ما يقارب المليون في خيم ومعسكرات لجوء، بينما تركز بعض الاقليات على اربعة الاف مسيحي (او ستة الاف) وتشير الى تهدم كنسيتين، في الوقت الذي يحاول النظام السوري جهده دفع طياريه ومدفعييه الى اصابة المساجد ودور العبادة. مطيحا بمساجد تاريخية ومدمرا مدنا كاملة وقرى عن بكرة ابيها.
النظام السوري نفسه الذي يمتطي ظهر اقلية يحاول دفعها كما باقي الاقليات في سوريا الى الوصول لحالة الذعر الهستيرية، للغرق في المزيد من الدماء والدفاع عن نفسها باسنانها ونواجذها، ورفدها باقليات ومقاتلين من دول الجوار، الشيعة من العراق ولبنان، ولدفع العلويين والدروز والمسيحيين والشيعة الى القتال بشراسة وتوهم الخطر الكبير الذي يحيق بهم بحال سقط النظام السوري – الذي بالمناسبة هو نظام المئة الشخص من المستفيدين في شركتي سوريا القابضة والشام القابضة – فان النظام يعمد الى القتل على الهوية، فان كنت من دارة عزة مثلا او من منطقة احتضنت الثورة مبكرا فسيكون مصيرك القتل على حواجز النظام في بعض احياء حلب غير المحررة، كما يعمد الى قصف المساجد لاثارة ردة فعل غريزية سنية وتطرفا سنيا يدفع الى اعتماد السلفية الجهادية ودعايتها كحل وحيد مع “النصيريين”، مما يؤدي تلقائيا الى تكتل العلويين الى جانب النظام كخيار وحيد لا مفر منه لدرء خطر “الارهابيين السنة”.
الصيغة نفسها اعتمدها حزب الكتائب في بداية الحرب الاهلية في مجازره التي قام بها بناء على ما دون على هوية الشخص، فان كان مسلما فمصيره القتل مباشرة، مما دفع بالحرب الاهلية الى التحول لحالة من التذابح المذهبي، وضمن للكتائب اللبنانية ووريثتها القوات تجنيد المسيحيين في لبنان تحت شعار “امن المجتمع المسيحي”، و”يريدون تهجيرنا او قتلنا”.
حماية المقامات المقدسة، الدفاع عن القرى الشيعية اللبنانية في سوريا، الحرب الاستباقية، كلها ايضا شعارات توضح البعد المذهبي للفكر الاقلوي الذي يستند الى الذعر من الاخر، والذي يقود الى القتل بلا رحمة وبلا ضوابط، تحت مسميات الجهاد، الواجب الجهادي هنا حكرا على طائفة ترى في الاخر خطرا وجوديا، وتعظم من شأن القوى السلفية، فعلى سبيل المثال لا يذكر احد في سوريا عدنان العرعور، ولكن الدعاية التعبوية في لبنان لا تزال تستخدمه فزاعة مثيرة للسخرية، تماما مثل الشيخ احمد الاسير الذي يكاد يناصر ما يقل عن 500 شخص، في حين ان لدى حزب الله في حارة صيدا وحدها ما يزيد عن الف شخص، ومع ذلك فانه يتم اظهار احمد الاسير كتهديد وجودي، وان كان مغلفا بالسخرية من شكله وكلامه …الخ.
تغرق الاقلية نفسها بالمال والسلاح، تخدم مصالح الدول الكبرى، تتعامل مع اي شيطان تعتقده يساعدها في حماية نفسها من اكثرية تقاتلها، تستشرس في القتال وصولا الى اباحة القتل بالمجان، تغرق نفسها بجثث ضحايا، ثم تكتشف ان اكثر الموت اصاب ابنائها للدفاع عن ابنائها انفسهم من الموت، تحاط بالنعوش، ثم تعود لتكتشف حدود الديموغرافيا والهزائم الكبرى، وهي حال كل الاقليات المحاربة اينما تصرفت بصفتها اقلية مقاتلة للدفاع عن وجودها المهدد، سعار الاقليات وذعرها يؤدي بها الى الهزائم، سواء في العراق او لبنان او سوريا، وسواء اكانت من السنة المتبعة لتنظيم القاعدة او من الموارنة المقاتلين في لبنان او من العلويين في سوريا، او من شيعة لبنان المنغمسين بمقولة “الحرب الاستباقية”، وان كان من حرب استباقية نجحت الاقلية في ركوبها والانتصار بها وتكريس نفسها في المنطقة، فانها حتما ليست ضد الثورة السورية، بل هي بالتأكيد يجب ان تكون ضد اسرائيل، بدل انتظار اجتياح يزيل المقاومة، كان الاجدى بالمقاومة مهاجمة العدو استباقا.