سوريا وإيران وتداعيات الساحة اللبنانية
ها هي طهران تتقرب من المعارضة السورية، ما قد يفاجئ للوهلة الأولى، إنما كل ناظرٍ ومدققٍ في العلاقة السورية الإيرانية منذ ثلاثة عقود يرى أن العلاقة بين هذين النظامين إن كانت تطورت، فإنها لا تخلو من التنافس على مناطق نفوذ قليلة ومتشابكة، وذلك منذ بداية التنسيق الذي تحول “تحالفاً”، وإن كان محدوداً، بين حافظ الأسد والإمام الخميني، لأنه لا يجب أن ننسى في أي ظرف جاء هذا التنسيق في العام ١٩٨٢: الجيش السوري مُندحرٌ أمام الجحافل الإسرائيلية ومُكبل اليدين في الجولان، تزامن ذلك مع ثورة الإخوان المسلمين ومع وضعٍ اقتصاديٍ مذرٍ في سوريا.
بسبب كل ذلك قرر الأسد السماح للإيرانيين بتشكيل نواة قوة شيعية مقاتلة في البقاع اللبناني من أجل مقاومة “المشروع الإسرائيلي”، ومن أجل زعزعة الحُكم اللبناني الجديد. علماً أن الأسد كان قد خسر الورقة الفلسطينية بسبب تحرُر منظمة التحرير وياسر عرفات من قبضته منذ أن أصبح هذا الأخير الرجل الأقوى في بيروت.
إذاً بعدما أفشلت الاستخبارات السورية المحاولات الإيرانية السابقة، تغير الوضع اللبناني دفع الأسد إلى قبول وجود محدود للحرس الثوري في منطقة البقاع، حيث بدأ الإيرانيون بتدريب شباب القرى الشيعية على استعمال السلاح، مستقطبين بذلك أيضاً بعض كوادر حركة أمل والعديد من شباب الشيعة الذين قاتلوا إلى جانب الحركات الفلسطينية.
الكل يعرف ما آلت إليه الأُمور وكيف أثبت حزب الله قدرته وكيف تحول من بعض المقاتلين إلى حزب سياسي لبناني من الأكثر تنظيماً ونفوذاً وشعبيةً في الشارع الشيعي. لكن الكثيرين نسوا أن صراعاً دامياً دار بين مقاتلي حركة أمل ومقاتلي حزب الله، معارك إقليم التفاح في الجنوب اللبناني ومعارك ضاحية بيروت الجنوبية تشهد على القتال بين أبناء الطائفة الشيعية الواحدة، ما أدى إلى عودة الجيش السوري إلى بيروت من هذه النافذة عام ١٩٨٧.
ما كان سبب هذا القتال؟ الكل نسي الأسباب المعلنة في وقتها ولكن القتال كان على النفوذ ما بين إيران وسوريا. ربح حزب الله عسكرياً ولكنه لا يستطيع معاداة سوريا وحلفائها المحليين. لذا، وكنا نشرف على نهاية الحرب اللبنانية، حصلت المساومة على أن يحصر الحزب نشاطه بالعمل العسكري والحركة تهتم بالعمل السياسي الداخلي، وتأخذ الحصة الشيعية من الوزارات في الحكومات العتيدة.
وهكذا كان، فبات حزب الله الحزب الوحيد الذي يحق له المحافظة على سلاحه علانيةً لمقاومة إسرائيل في الجنوب. تجربة الحزب العسكرية كانت تجربة ناجحة من دون شك، وبشهادة العالم والإسرائليين أنفسهم. حجم الحزب السياسي أصبح كبيراً على كل الأصعدة، وبات من القوة، ما قلب الموازنة القائمة بينه وبين حركة أمل على الصعيد السياسي الداخلي.
لكن سوريا كانت حريصة على حليفها الأول والأقدم نبيه بري، لذا كان الحزب بالرغم من شعبيته ووجوده على الأرض محكوماً باحترام “كوتا” نواب، وذلك حتى عام ٢٠٠٥ وخروج الجيش السوري من لبنان.
فالناظر إلى خفايا الأُمور في بلاد الأرز يلحظ، وبالرغم من حفلات التوديع والشكر وما إلى ذلك من أشكال الضخ الإعلامي، أن أول المستفيدين من هذا الخروج هو حزب الله. أُفسر، منذ ذلك الحين لم يعد حزب الله محكوماً بأية “كوتا”، فزاد عدد نوابه بعد أول انتخابات “حرة”، وزاد عدد وزراء الحزب إذ باتوا يشاركون في الحكم بطريقة مباشرة. بات مطار بيروت الدولي في قبضة الحزب، ما يعني التحرر جزئياً من الممر السوري الإجباري لأسلحته وذخيرته.
الأهم من ذلك ربح حزب الله من ناحية استقلاليته وأصبح الأقوى على الساحة اللبنانية، ما يجعل سوريا بحاجةٍ إليه أكثر مما هو بحاجةٍ لها، في نهاية الأمر كبُر النفوذ الإيراني بعد خروج السوريين.
فإذا بنا نرى التاريخ يعيد نفسه على أكثر من صعيد. إن عدنا إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي: سلح وموّل ودعم الرئيس الراحل حافظ الأسد منظمة التحرير الفلسطينية، حتى جاء اليوم الذي تحرر به ياسر عرفات من قبضة الأسد عام ١٩٧٦ في أوج عزه في لبنان وبعد زيارته لموسكو. فتحالف الأعداء بعدما رأوا أن مصلحتهم واحدة، ألا وهي إعادة تحجيم منظمة التحرير.
الأميركيون لم يكن لهم مصلحة في هذا التقارب بين عرفات والإتحاد السوفياتي، الذي كان سيجد له ملاذاً في شرق المتوسط لأنه في ذلك الوقت لم يكن للسوفيات قاعدة في سوريا بعد؛ إضافة إلى ذلك كان الأميركيون يسعون إلى تعميم إتفاقية سلام ما بين العرب وإسرائيل، إذ إن إتفاقية كامب دايفيد كانت قد قطعت شوطاً كبيراً. عمل الفدائيون كان عائقاً أمام ذلك وكذلك الأمر بالنسبة لجميع المتحاربين على الساحة اللبنانية.
المملكة العربية السعودية كانت بطبيعة الأمر في صراع مع القوميين العرب ومنظمة التحرير .إسرائيل كانت تريد إبعاد الفدائيين عن حدودها الشمالية، بعدما أصبح الجنوب اللبناني ساحة حرب تعرف باسم “فتح لاند”. سوريا كانت المُنقذ وربحها كان مزدوجاً، إذ بذلك تدخُل لبنان الذي لم تعترف به كدولة مستقلة بعد بل كجزءٍ مجتزأ منها؛ من ناحيةٍ أخرى يعيد الأسد الإمساك بالورقة الفلسطينية بعد أن تعهد بلجم عمليات الفدائيين وبعدم تجاوز “خطاً أحمر” جنوباً بالإتفاق مع واشنطن وتل أبيب.
أخيراً اللبنانيون، الذين بدونهم لما كان أي شيء ممكن، المسيحيون والموارنة منهم بالتحديد، كانوا ممسكين بالحكم، إن كان في مجلس النواب أو من خلال السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية الماروني. فقد فضل المسيحيون شرعنة التدخل السوري (العسكري والسياسي) في الشأن اللبناني عربياً ودولياً لصد منظمة التحرير وحلفائها اللبنانيين بدل أن يعطوا بعض الحقوق ويقوموا ببعض الإصلاحات لإعادة التوازن إلى الحكم في لبنان وإبعاد المنظمة عن مطالب المسلمين. فدخل الجيش السوري ولم يخرج قبل ٣٠ عاماً.
إن عدنا إلى الأشهُر القليلة التي مضت قبل سقوط حكومة الحريري الإبن، كان حزب الله في نفس وضعية منظمة التحرير، وذلك منذ حرب ٢٠٠٦. الأميركيون لا يلزم أن نستفيض في التفسير لنفهم أنهم من محبذي تحجيم حزب الله. الرياض ترى نفوذها مهدداً بسبب قوة النفوذ الإيراني. إسرائيل ترى حزب الله كسيفٍ إيراني مسلط على شمالها وسوريا تريد إعادة الإمساك بالملف اللبناني وبورقة المقاومة المسلحة.
زار الحريري دمشق وإبتُدِعت فكرة “الاتهام السياسي”. فها هو ممثل أهل السنة في لبنان على قاب قوسين من الوقوع في نفس الخطأ الذي وقع فيه ممثلو الموارنة ٣٠ عاماً قبلهم. فمن أجل الوقوف في وجه حزب الله ذهب ممثلوهم إلى الشام وكادوا أن يسلموا مرة أخرى مصير لبنان. مبرهنين للعالم وللبنانيين أنهم لم ولن يتعلموا من دروس التاريخ مهما كانت مؤلمة.
سخرية القدر أن السنة في السبعينيات تحالفوا مع عرفات لتحقيق مطالب محقة، الشيعة اليوم لديهم مطالب محقة أيضاً، مطالب سيحصلون عليها عاجلاً أم أجلاً. بينما المسيحيون يحاولون تحصيل ما ضاع منهم في الطائف، فها هم منقسمون مشتتون ما بين المراهنين على الشيعة والمراهنين على السنة. قتال ونفاق وضحك على الذقون، كما يقال في بلاد الأرز. الفرصة جوهرية ونادرة فكل بلاد المنطقة منشغلة بمشاكلها جنوباً وشرقاً، هي فرصة لبنان أن يكون ولو لمرة مُستقلاً.
سقطت حكومة الحريري وسقط معها مشروع “السين سين” الذي كان سيعيد الملف اللبناني إلى دمشق.
من هم حلفإ سوريا ذو الوزن السياسي في لبنان، التيار الوطني الحر، هل له مصلحة بعودة السوري؟ حزب الله هل له مصلحة بعودة السوري؟ إن فكر اللبنانيون بذكاء ودهاء سياسي لرأوا أن هذين الحزبين الأساسيين عند الموارنة والشيعة هما من حالا، عن قصد أو عن غير قصد، دون عودة النفوذ السوري كما عرفناه لثلاثة عقود. لأن ذلك كان سيؤدي لا محالة إلى إعادة تحجيمهم وذلك بمباركة عربية ودولية. فهذان الحزبان لديهما قاعدة شعبية حقيقية وفي الوضع الراهن فإن سوريا أكثر حاجة لهما مما هما بحاجة لها. فالجنرال يؤمن دعماً مسيحياً للنظام الذي يُظهر نفسه كضامنٍ للأقليات، أما حزب الله فيلعب دور فزاعة للغرب. لكن ذلك دون الأخذ بمصالح الإثنين اللذين إن كانا داعمان للنظام، فإنهما ليسا أدوات بين يديه. كان لوليد جمبلاط دوٌر أساسي لتحقيق ذلك مما يدعو إلى التفكير إذ أنه كان سيكون من أكبر الخاسرين إن عاد النفوذ السوري إلى سابق عهده.
لكنه في نهاية الأمر قد يعود الرئيس السوري وأزلامه إلى لبنان، ولكن من غير النفوذ، ربما إلى حيث جاء أبوه لاجئاً من قبله… ليكون لبنان مرة أخرى مأوى للهاربين واللاجئين في هذا الشرق مهما كان لونُهم أ وجنسُهم أ ودينُهم… إلا لللبنانيين منهم.