الثورة الثالثة: لواء شهداء نحاس
شوّل شوّل (أسرق أسرق) ……… بشار مطول
(اهزوجة محلية حلبية)
ربما هذه النظرة تحمل الكثير من التفاؤل، وحتى يتم فرز القوى الثورية، فان الشمال السوري بمحافظتيه الحلبية والادلبية يعيش مرحلة صعبة، ان لم نقل انها مرحلة خانقة، تجعل السكان المدنيين والكثير من الثوار يتحولون الى التذمر والانكفاء وفقدان الثقة بثورتهم. دون ان يتمكنوا للحظة من مجرد التفكير بقلب الموقف لمصلحة النظام السوري.
قبل ليلة واحدة من مغادرة الاراضي السورية، وقريبا من منطقة النزاع في خان العسل، ظهر فجأة لهب من نار، استمر يشتعل رافعا اعمدة من الدخان الاسود التي اظهرها ضوء لهيب النار، ظهرت سيارة لاحد الشبان من الجيش الحر، صرخ في الساهرين على الشرفة: “احملوا اسلحتكم ولنشكل دورية مطاردة”. خرج حوالي خمسة من الشبان من مجموعة قرية عويجل، اتجهوا الى مكان النار، بعد قليل ومن مسافة نصف كيلومتر سمع دوي الطلقات، ثم صراخ اوصله الليل الى حيث نسهر، ثم ظهرت سيارة تحمل احد المقبوض عليهم.
كان لصوص النهار يحرقون الكابلات النحاسية ليزيلوا عنها الكاوتشوك قبل بيعها، ما خفي نهارا ظهر ليلا، واعترف المقبوض عليه على رفاقه، اتصل الشبان بباقي المجموعة وجاء الدعم كما تمت مداهمة منازل اللصوص، فر من فر، وبقي النحاس بتصرف المحكمة المحلية، كما معدات اللصوص. الا ان هؤلاء اللصوص ليسوا ظاهرة منعزلة، انهم الحالة العامة التي تسود البلاد اليوم، حيث تسود المناطق المحررة حالة من التفلت وانعدام الامن، والنهب والسلب والخطف، بينما ينشغل بضعة الاف من المقاتلين في معارك في كل جهة من مطار منغ في الشمال الى مدينة حلب في الجنوب.
حتى شهر آب من العام 2012 كانت القوى الثورية في المحافظات الشمالية لا تزال تتمتع نسبيا بانضباطية عالية، السرقات نادرة، القتل ليس عشوائيا، وفي تلك المرحلة كان التدين الاسلامي طاغيا، ولكن في المقابل الاسلاميون المقبلون من خارج البلاد قلة، بضع مئات على احسن الاحوال في هذه المناطق، الا انهم كانوا لا يزالون يتدفقون، اسعار السلع كانت لا تزال في حدود مقبولة وقريبة من الاسعار التي اعتادها المواطنون، على الرغم من فقدان الكثير منها من الاسواق.
في ذلك الحين كان الطيران السوري يقصف بطائرات تدريبية مواقع الثوار، واستدرج الثوار انفسهم الى معركة حلب، التي حولها النظام الى فخ استنزفهم من خلاله عسكريا، واخلاقيا ومعيشيا، فقد الثوار الكثير من كوادرهم، كما فقدوا الكثير من التأييد، وانضم اليهم الاف المقاتلين العرب، فتحت دول العالم الحدود على تدفق القاعديين، كما فتح النظام بوقت سابق ابواب سجونه لاخراج السلفيين الجهاديين، من ابو محمد الجولاني الى الكثيرين غيره ممن سبق ان اوقفوا على دفعات ولاعوام طويلة في اقبية اجهزة المخابرات السورية.
الدخول الى مدينة حلب سبب حربا طويلة، قاسية ادت الى افراغ احياء ومناطق كاملة من سكانها، كان الثوار يدخلون الى نقاط تجمع للجيش فيجدون العناصر النظامية الفارة قد تركت خلفها مسروقاتها، ثم تحول العديد من المقاتلين الى لصوص في احياء المدينة المقفرة والمتروكة بما حوت نهبا للمتقاتلين.
خلت البيوت من المسروقات الغالية والخفيفة، وبدأت، شأن كل الحروب، عملية تنظيف المنازل والمستودعات التجارية من الموجودات، انشق العديد من الكتائب عن الويتها لممارسة السرقة بحرية، جبهة النصرة تمكنت ببطشها من قمع عناصرها من السرقة، واستخدمت سمعتها الحسنة هذه في تقريب السكان منها وجعلهم يفضلوها على الوية الجيش الحر،وبعض الالوية، كـ”كتائب نور الدين الزنكي” استطاعت بجهد جهيد ان تحافظ على سمعتها، ليس دون ترك العديد من عناصرها ومجموعاتها تخرج من جسمها وتتشكل في مجموعات تحترف السرقة والخطف مقابل فدية. اعادت هذه الكتائب فرز عناصرها، وتخلت في مناطق عن المئات من المقاتلين طاردة اياهم من جسمها العسكري، وفي احدى المناطق تقلص عدد مقاتليها من 250 مقاتل الى 75 عنصرا فقط لا غير.
بدأت عمليات تنظيف المعامل على خطوط التماس، وظهر لواء “شهداء نحاس” الذي قدم 80 شهيدا تقريبا، حيث يروي احد الجنود المنشقين ان قناصة النظام في منطقة صلاح الدين في مدينة حلب صاروا يردون المترددين على احد مستودعات النحاس يمينا ويسارا، ولكن ذلك لم يمنع اللصوص من محاولة الدخول الى المخزن وسحب النحاس منه ملىء شاحنة صغيرة (سوزوكي) كل مرة، حتى اذا ابتسم احدهم ليلا ارداه القناص فور رؤية بياض اسنانه.
80 عنصرا مسلحا دخلوا الى مستودع النحاس وخرجوا اقدامهم امامهم، جرح كثيرون ايضا، وتمكن الكثر من تعبئة الشاحنات بالنحاس، الطريق المؤدية الى المستودع حملت لاحقا حاجزا لاحدى المجموعات التي فرضت نفوذها، كان يفترض بكل داخل تسديد مبلغ 25 الف ليرة سورية عن حمولة شاحنة قبل الدخول، دون ان تحمل المجموعة المسيطرة مسؤولية رفع القتلى والجرحى اذا ما ساءت الامور. وبعدها ارتفع الثمن، وارتفع سعر النحاس، ونمى لواء “شهداء نحاس” بقتلاه.
انتشر الفساد، مترافقا مع انتشار الفقر، ومع انتشار النزوح، انعدم الامن على الطرقات، بات اي لص يمكنه نصب حاجز مع ثلة من رفاقه، والاعتداء على اي عابر سبيل، خطفه واتهامه بانه شبيح، وسرقة سيارته، وتركه لاحقا مقابل فدية مالية، او ببساطة قتله، وترك جثته على قارعة الطريق خارج القرى.
كبار اللصوص معروفين، كما ان قراهم وعائلاتهم معروفة، العديد من هؤلاء كانوا سابقا مع النظام في اطار اللجان الشعبية، ثم انقلبت الامور، فالتحقوا بالجيش الحر في مجموعات القرى المتفرقة، حيث لا بنية تنظيمية ولا الية محاسبة، خاصة ان الاغلبية المطلقة من المقاتلين يخدمون وفق نظام التطوع، ويحصلون على ما لا يسد الرمق (البعض يحصل على 5000 الاف ليرة سورية اي حوالي 35 دولار اميركي شهريا والبعض الاخر على 2000 ليرة اي 13 دولار اميركي).
مع امتداد الصراع لفترة زمنية طويلة، وطول الضائقة المالية وارتفاع الاسعار وانخفاض سعر العملة وعمليات التهجير والقصف وما يخلفه كل ذلك من فوضى، انسحبت المجموعات من بعضها، وخرج العديد من الشبيحة السابقين ليقودوا كتائب ومجموعات من الجيش الحر، وحصل هؤلاء على البطاقات الرسمية الصادرة عن قيادة اركان او هيئات الجيش الحر في الخارج، والتي تسعى الى مراكمة مؤيدين دون ان تعلم يقينا من هم هؤلاء المقاتلون.
وخرج مهربو البضائع وتجار المخدرات، ليتابعوا اعمالا جديدة تدر عليهم اكثر مما كانوا يجنون في السابق، سرقة الفيلات من الريف ومباني حلب، بيع موجوداتها، سرقة مختلف انواع السلع، من اوراق المحارم الى السيارات والمواد الاولية، سرقة المصانع، بيع المعدات التي تحويها المصانع الى تجار اتراك، وضع اليد على مستودعات استراتيجية من مصانع السكر الى اهراءات الحبوب، التجارة بالمساعدات، وطبعا وقبل كل شيء التجارة بالسلاح والحصول على الدعم من دماء الشهداء.
مع كل يوم يمر تشتد المواجهات في سوريا بين الثوار، وبين النظام، ومع محاولات النظام تحسين مواقعه في اغلب البلاد وخاصة في الوسط والساحل الغربي، فان مواقع الثوار في القرى وبين السكان تتراجع، وان لم يكن ماديا فمعنويا، اذ يعلم السكان ان البديل عن هؤلاء المقاتلين الشبان هو الموت ذبحا على ايدي جنود النظام ولجانه الشعبية، ولكن سمعة الجيش الحر باتت علكة في افواه المدنيين بسبب من انعدام الانضباط والسرقات، ومظاهر الثراء لدى بعض المسؤولين، وفرض الخوات على اثرياء لا علاقة مباشرة لهم بدعم النظام، اضف الى فرض عقوبات استنسابية على كل من يمكن اتهامه بمعاونة النظام او تأييده سابقا قبل تحرير المناطق، اضف الى تدخل الكثير من المحاكم بادق الامور الشخصية والعائلية.
عدد من قادة مجموعات اليوم كانوا واقفين على شفير الاعدام من قبل الثوار في السابق، لولا ان عائلاتهم افتدتهم بالقليل من المال، الذي سمح لهم باعادة كسب الملايين اليوم من السرقات ومختلف عمليات السطو وقطع الطرقات. بدأ الفساد يوما بحجة الحاجة الى التمويل لشراء الذخائر واطعام المقاتلين، فتم اطلاق سراح الشبيحة واعوان النظام من الاسر مقابل القليل من المال، واليوم يحمل من يسرق من الناس الشعار نفسه “لدي جيش من المقاتلين اريد اطعامه وتأمين الذخيرة له”، كأن الثورة يمكنها ان تنتصر وهي ملوثة بنهب من تدافع عنهم.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة
(الجزء الثاني: “الثورة الثالثة: جبهة النصرة محبوبة ومرذولة في آن”)