“في وجهك يا وقح”… استشراف لتعرّي علياء المهدي
ربما استشرف الكاتب اللبناني عصام حمد مشهد تعرّي الناشطة المصرية علياء مهدي احتجاجاً على ممارسات السلطة السياسية، حين استبق هذا المشهد في روايته السياسية التي نشرها على مدونته الالكترونية بعنوان “في وجهك يا وقح”. هذه الرواية التي رفض العديد من دور النشر تبنيها نظراً لجرأتها وإمكان تسببها بمشكلات مع رجال السياسة.
عن روايته يتحدث حمد لـ«أخبار بووم» قائلاً إن “رجاء- بطلة روايتي- تتعرى في وجه كل وقح من السياسيين اللبنانيين، وتخصص كل عضو من أعضائها الجنسيّة ليخرج من دوره الجنسي ويلعب دوراً سياسياً”.
من بين قراءاته العامة اهتدى حمد إلى الأدب الروسي- مكسيم غوركي وأنطون تشيخوف وفيدور دستويفسكي. فقرأهم بشغف. لكنه حتى ذلك الحين كان لا يزال يقرأ كل ذلك بروح المتلقّي النهم، ولم يقرّر أن يكتب إلا بعد أن تعرّف الى نجيب محفوظ. من خلال بسطة كتب في شارعٍ في بيروت- الكولا-ابتاع حمد “أولاد حارتنا”. قرأها عشرات المرات. ثم استحصل على كل مؤلفات محفوظ. وقرأها.. ثم تساءل في نفسه: هل أستطيع أن أكتب مثل تلك الروائع؟ لكن سنوات ثلاثاً انقضت وهو مُمسكٌ بالقلم يحاول الكتابة والورقة البيضاء أمامه لا تزال بيضاء، حتى زار مرةً معرض الكتاب العربي في بيروت. هناك عثر على كتاب مغلَّف بالنيلون للكاتب التشيكي فرانز كافكا. وكان الكاتب قد قرأ عن محفوظ أنه أثنى على كافكا. سأل عن ثمنه فقيل: عشرون ألفاً. ولم يكن في جيب عصام إلا عشرين ألفاً. مع ذلك اشتراه وعاد إلى بيته في الضاحية مشياً على قدميه. قرأ حمد “التحوُّل”، فأذهله أن شاباً استيقظ ذات صباح ليجد نفسه متحوِّلاً في سريره إلى حشرة كبيرة. وقرأ “الجسر” الذي يمتدُّ بين جبلين مُستمسِكاً بهما يخشى السقوط في الوادي! لبث القاص حمد ذاهلاً أسبوعاً واحداً والقلم يرتعش في يُمناه بحركةٍ عصبية حتى كتب «الشجرة»- قصة قصيرة من مدرسة كافكا التعبيرية. وقد كانت تلك الشجرة مُثمرة حقَّاً إذ أثمرت «المنعطف المضاء»، مجموعة قصص 2004، و«طموح مخطوطة» رواية 2005، و «أول آكل للحم الحيوان» قصص 2008.
في «المنعطف» نقرأ قصة «الميت الذي أبى أن يُدفن» إذ «لم يجرِ له في خاطرٍ أنَّه هو نفسُه قد مات، وأنَّ عليه بعد تلك السقطة المُميتة ألا يفتح عينيه ولا يرفع رأسه ولا ينهض قائماً ثم يواصل سيره كأنَّه ما زال معدوداً من الأحياء». وفي«المنعطف» نقرأ «الغريم»- الرجل الذي ابتدعته مُخيِّلة “نبيهة”- بطلة القصة التي تعاني من مبيت زوجها خارجاً كل ليلة، فقالت له ذات يوم: «جاء رجل طويل أسمر سأل عنك! فتعجَّب إذ لا يعرف أحداً بهذا الوصف. ثم سألها حانقاً: وفتحتِ له الباب؟ فاستثارت بذلك غيرته وألزمته البقاء في بيته ينتظر غريمه! وفي “المنعطف” نقرأ “ألم الركبة” الذي اجتاح المدينة. فلم يبق في شوارعها إنسان يمشي. وتعطَّلت الأعمال والحياة جميعاً حتى جاء المدينة راكبُ درَّاجة صحيح الجسم يسأل: ما بال الشوارع خالية؟.
أما رواية “طموح مخطوطة” فهي حكاية الورقة البيضاء التي ليست شيئاً إلى أن يُحبِّرها قلم الكاتب بالحبر. تعي الورقة ذاتها وانتماءها إلى عالم الأوراق المُحبَّرة- تلهو مع أخواتها الورقات على سطح المكتب، وتتجادل مع الكُتب على الرفوف. لكن هناك في الأسفل سلَّة المُهملات الرهيبة، حيث تُرمى الأوراق التي لا يرضى عنها كاتبُها! فكيف تنجو الورقة من السلَّة؟ وبماذا تحقِّق طموحها ليكون لها قيمة ترقى بها حتى تُحفظَ بين المخطوطات الخالدة؟ إنها حكاية الإنسان بين خوفه من الفناء وطموحه إلى الخلود..
والكتاب الأخير المطبوع هو “أوَّل آكل للحم الحيوان”. فيه نقرأ قصة الولد ياسر الذي تحرَّكت في نفسه الشهوة إلى أكل اللحم في قريةٍ سكَّانها نباتيُّون جميعاً لا يقربون لحوم الحيوانات، لكن يربُّونها للتدليل! ويروح ياسر يتلصَّص على الدجاجة في قُنِّها متشهِّياً لحم فخذيها، ويتسلَّل إلى المعزاة المربوطة وراء الدكان يتشهَّى أن يغرز أسنانه في لحم ورِكَيها، ويتخيَّل لو يقبض على الحمامة ليكشف عن لحم صدرها المُكتنز: سيكون طريَّاً تحت أسناني. كيف طعمُه يا تُرى؟.. ويذعر الناس من شهوة ياسر الخبيثة هذه ويخبِّئون حيواناتهم. ويوبِّخه أبوه على سلوكه الشائن. حتى يتساءل ياسر ذات ليلةٍ ماذا يفعل أبوه في حجرة النوم يُقفلها في الليل دونه؟ ثم يشتبه في أن أباه إنَّما يأكل لحماً في تلك الحجرة-تُعِدُّه له أمُّه، في حين ترمي إليه هو بضُمَّة الفجل! ويُقرِّر التأكُّد من ظنِّه. ونقرأ قصة “المتعرية” الفتاة التي تولَّتها رغبة جنونيَّة أن تنزل إلى الطريق عارية.
يقول القاص والروائي حمد الذي لم ينل حظوته من الشهرة «أنا روائي لبناني. أكتب منذ نحو اثني عشر عاماً. كنتُ في العام 2009 أبحث عن موضوع لرواية أكتبها. وأتابع في الوقت نفسه الأخبار السياسية. فتستوقفني وقاحة بعض السياسيين في المواقف والآراء. فلا أجد من تعليقٍ أتفوَّه به سوى: ما أوقحهم! ثم أتساءل: كيف الردُّ على هذه الوقاحة المتمادية؟ حتى اهتديتُ إلى أنَّ الافتضاح أو التعرّي في وجوههم يُخجلهم ويفضح وقاحتهم! بالطبع لم أتعرَّ أنا لكنّي اخترعتُ شخصيةً روائية دعوتُها “رجاء” جعلتُها تتعرَّى لغايات سياسية بعيدة كل البعد عن الابتذال الجنسيّ- وإن اتُّهمت في الرواية بذلك- تماماً كما حدث لعلياء المهدي. وكانت روايتي “في وجهك يا وقح”، التي كتبتها في عامين حتى انتهيتُ منها أواخر 2010، وعرضتها على دور النشر فردُّوها لي لجُرأتها الفائقة! فلجأت إلى الشبكة العنكبوتية وأنشأت لي مدونة أسميتُها “المنعطف المضاء”، وبدأت في 9 آذار 2011 بنشر الرواية مسلسلةً في حلقات. فكرة الرواية أنَّ ثلاثة شبَّان وفتاةً- هي رجاء- قرَّروا مواجهة الوقاحة السياسية بوقاحة مُضادَّة. فاتفقوا على نشر صورة للفتاة على الشبكة- عاريةً من الثياب، وكتبوا تحتها “في وجهك يا وقح” متوجّهين بذلك إلى هذا السياسي الوقح أو ذاك. غير أن الفتاة- لغاية روائية تشويقية- تُصرّ على استفتاء الجمهور على افتضاحها. فيلتقط لها رفاقها صورةً وهي عارية إلا من رُقعةٍ سوداء سترت بها عورتها، وهي تمُدّ يدها إليها كأنَّما لتخلعها، طارحةً على الجمهور السؤال: هل تعتقد أن افتضاح امرأة في وجوه الوقحين يُخجلهم ويفضح وقاحتهم؟ وكانت الموافقة المليونية على طريقة “أحب” الفسبوكيَّة تقول “نعم” لافتضاح رجاء.. ثم بتطور الرواية يتخصّص كل عضو من أعضاء رجاء الجنسية- وقد خرج عن دوره الجنسي ليلعب دوراً سياسياً- أقول يتخصّص بفضح نوع محدد من الوقاحة: ثديا رجاء يخرجان من “السُّتيانة” احتجاجاً على الضرائب الباهظة وهما ينضمَّان على قطعة نقدية يخبئانها في عُبّهما باعتبارها آخر ما يملكان وشعارهما: أفقرتمونا حتى أخرجتمونا! بطن رجاء تنكشف من تحت البلوزة فضحاً لوقاحة مستوردي الأغذية الفاسدة. فخذا رجاء تخرجان من تنُّورتها لمواجهة التحرُّش الجنسي بصاحبتهما، وذلك بتسديد الضربات بالركبة إلى المُتحرِّشين! وعجيزة رجاء تلعب دوراً سياسياً خطيراً. وفرجُها- لكنني أترك ذلك لمن يرغب في قراءة الرواية- لافتاً الى خبر تعرّي تلك الفتاة الشجاعة إذ لم أحسب أنَّ رجاء، الشخصية الأدبية، ابنة خيالي الروائي، ستخرج باسم علياء المهدي».
أشكر للأستاذ معمّر عطوي مقابلته معي ومُتابعته لي فيما أكتب وأثني على مقالته هذه بأسلوبها الشائق- كما عوَّدنا في مقالاته جميعاً. كما أشكر “أخبار بوم” على إتاحتها لي- بانتشارها الواسع- أن أصل لقرَّاء لم يسمعوا بي ربَّما. وأحبُّ أن أقول إنني إذ بشَّرتُ في روايتي السياسية “في وجهك يا وقح” بالافتضاح أو التعرّي أسلوباً نضالياً جديداً مُبتكراً، يُضاف إلى الإضراب عن الطعام، والرّمي بالحذاء، وإضرام النار في النفس.. احتجاجاً على ظلم، ورفضاً لقمع، ومُواجهةً لوقاحة، ولفتاً للأنظار إلى قضية.. أقول إنني قد عدَّلتُ خاتمة الرواية أو حلقتها الأخيرة كي تحمل اسم الآنسة علياء المهدي، الرائدة في الافتضاح النضاليّ الذي روَّجت له الرواية، كما يُشرّفني أن أُهدي روايتي إليها اليوم تضامُناً معها في تعرّيها البعيد كلَّ البعد عن الابتذال وإثارة الغرائز- وإن كانت من إثارة فهي إثارة الذعر في قلوب الظالمين وكاتمي أنفاس الحريّة إذ يَرَون المدى الذي نذهب إليه في مُواجهتهم!
تاريخ نشر التعليق: 2011/11/28اُكتب تعليقك (Your comment):