مكرم غصوب في “نشيد العدم”: شاعر تراجيدي بامتياز
معمر عطوي
يستغرق مكرم غصوب نفسه في لعبة الميتافريقيا المخيفة، فتراه يمشي على ضفاف الحياة مخاطباً العدم بروح التحدي تارة والاستفزاز تارة أخرى. ففي كتابه “نشيد العدم” الصادر عن دار فكر في بيروت، يطرح الشاعر الشاب تساؤلاته الوجودية في قوالب الشعر والنثر.
يتأرجح غصوب في عالم البرزخ بين الواقع والكينونة المتحولة، محاولاً الخروج من وجع عاناه طويلاً، الى حيث يظن أنها مساحة استراحته من هذا الشقاء. تراه يمشي على ضفاف الحياة يخاطب العدم بقصائد بالفصحى وباللغة اللبنانية المحكية، وبالنثر على شكل اقصوصة.
إذن هو صاحب الصنعتين، من حيث قدرته على استخدام طريقتي تعبير أو نوعين أدبيين وظّف فيهما كل مخزونه من مصطلحات الأساطير، ناهلاً من معين الحضارات القديمة؛ السومرية والبابلية والكنعانية، والتراث المسيحي اللاهوتي، والمصطلحات الفلسفية. تعابير استطاع توظيفها أحياناً في سياق تعبيري جميل، وأحياناً أخرى كانت بمثابة الحشو أو الاستخدام في المكان الخاطئ.
وإن كان جمع الأنواع الأدبية في كتاب واحد غير مُستساغ، إذ يمكن تخصيص كتاب للشعر وآخر للنثر، إلاّ أن كتاب غصوب لم يبتعد عن المنهجية العلمية حين زرع بين دفتي 180 صفحة من القطع الوسط، ثلاثة أجزاء، تسير في تناسق تام من حيث طرحها الوجودي، وتداعياته.
يبدو الموت مسيطراً على الموقف كسبب من أسباب الوجع الذي خرج من جسد مكرم شعراً ونثراً، إذ كان الإهداء الى روح والده الذي يبدو أنه رحل منذ وقت غير بعيد، واعداً اياه بأن يلتقيه في العدم، بينما أبدى في الإهداء حرصه على أمه وخوفه من المجهول الذي يخططه العدم دائماً لنا، فيدعو “لقديسته الحلوة” بطول العمر.
وبعد مقدمة للشاعر نعيم تلحوق بعنوان “مشاكس حتى الموت” يصف فيها الشاعر الشاب بأنه ملعون يلعب بأخطر قاتل لا نراه”، يرتّل غصوب نشيده الأول “في البدء كان “الله” عدماً. وهو عبارة عن خواطر شعرية يبدأها بقصيدة تحت عنوان “أنا والعدم” يقول فيها:
كتب العدم نثراً… فكانت الرياح
نظم العدم شعراً… فكانت الأقاح
أنشد العدم لحناً… فوقع انزياح
والريح لا تستريح… إلاّ في العدم
وفي شرود الصباح….
الأسطورة تبدو حاضرة بقوة في هذه القصيدة مع بيان شرح لكل اسم او مصطلح.
يقول غصوب: “وقفت بين العاهرات
أبحث عن عشتار (آلهة الحب والجمال البابلية)
أو إحدى مومسات “أوروك” (مدينة سومرية وبابلية على نهر الفرات)
ناداني الخمّار، طالباً مني أن أختار
بين دم ديموزي (تموز وهو إله الرعي) ودم مردوك (من آلهة البابليين القدامى)
ناداك إيل (رئيسس المجمع المقدس الكنعاني)… هل نادى المستحيل.
قتلوه في اليوم الرابع
كفّنوه بالعدم،
سموه “عدموئيل”
إنه مجيء الرحيل”.
وهنا في هذه القصيدة استخدم أيضاً كلمة العدم التي ستتكرر في صفحات عديدة.
ففي القصيدة الثانية “أنا العدم” يطرح مكرم تساؤلاته:
إذا العدم موجود،
كيف يكون العدم؟
… وينتقل من التساءل الى طرح المعادلات:
المشكلة ليست في وجود الله أو عدم وجوده
المشكلة ليست في وجود العدم أو عدم وجوده
المشكلة في خلود الإنسان أو عدم خلوده…
وجود العدم لا وجود
العدم وجود اللاوجود
العدم لاوجود الوجود…
إذن تقوده تداعياته الوجودية الى البحث عن الخلود..
في الفصل الثاني من كتاب غصوب أو النشيد الثاني مجموعة نصوص يمكن ضمها تحت عنوان نوع الاقصوصة الهادفة، هذا النشيد تحت عنوان “العدم مرآة الحياة…”
وفي نص بعنوان “الخلود في العدم” وآخر بعنوان “مخيّر أم مسيّر” اضافة الى نصوص أخرى ينتقل فيها الكاتب من سؤال الوجود الى الأنثى وعلاقته بها، ونراه هنا في نص “الشرشف الأبيض” ذلك الانسان الباحث عن الحب الحقيقي البعيد عن المصلحة والنزوات العابرة، ويبدو في تعابيره رغبته بحب يبدأ عذرياً إذ ان تكرار استخدامه لتلوث الفراش او الشرشف بالدم، لا أدري اذا كان هاجسه دم العذرية أم دم القلب المجروح.
في نشيده الثالث يتكرر في العنوان “العدم أنا التاني” وهي مجموعة قصائد بالعامية اللبنانية، تبدو فيها رائحة القرية اللبنانية وتفاصيلها خصوصاً أن الشاعر إبن الفريكة في المتن. تلك القرية مسقط رأس الأديب اللبناني الراحل أمين الريحاني والمخرج المسرحي منير أبو دبس.
قلما تجد قصيدة أو نصاً لغصوب في “نشيد العدم” لا يتطرق به الى الموت أو العدم أو الوجع أو العالم الآخر. هو شاعر وأديب تراجيدي بامتياز، يحمل آلامه كلمات وصور ورموز ويمشي باكياً على أطلال شبابه المعذّب المشوب بروحية التشاؤم، لعل هذه القصيدة القصيرة التي كتبها باللغة المحكية تعبّر عن هاجسه الدائم: “يمكن هيدا أنا”
حصان
سامع صوت دعساتو
جايي من بعيد
يمكن هيدا أن
العّم تخلص حياتو
ليخلق من جديد.