عبوات الحروب المقدّسة
معمر عطوي
لا يمكن الزعم أن هذه العبوات المُتفجّرة من مكان الى آخر في لبنان والتي ظهرت الى المشهد الأمني منذ شهور، كامتداد للأزمة السورية، هي من صنع أناس لا علاقة لهم بالجماعات الإسلامية، وأن استهداف المدنيين في الضاحية بهذا الشكل الدموي هي فقط صناعة اسرائيلية بهدف خلق فتنة سنيّة شيعية.
بقطع النظر عن الآداء السياسي للثنائية الشيعية في لبنان (حركة أمل وحزب الله) وعنجهية حزب الله ولا مبالاته في التعاطي مع الملفات اللبنانية الساخنة مثل تشكيل حكومة وانتخابات مجلس نيابي جديد وترميم المؤسسات الدستورية والعسكرية لتكون مؤسسات وطنية خارج التصنيفات الطائفية، وفشله مع حلفائه في ادارة شؤون المواطنين الخدماتية، لا يمكن معالجة أي ظلامة إن كانت صحيحة أو مُختلقة، لأي طائفة لبنانية، بتفجير الساحة بهذا الشكل الدموي الكارثي.
المشكلة السياسية في لبنان قديمة العهد منذ أيام الحكم العثماني الذي حابى المسلمين السنة على حساب الطوائف الأخرى، مروراً بالاحتلال الفرنسي الذي جسّد نظاماً طائفياً يقسّم المناصب والمسؤوليات والوظائف الرسمية حسب التوزيع الطائفي (الأمر نفسه قام به الاحتلال الأميركي في العراق). لذلك لم يكن السنة والموارنة في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، مضطهدين كما الشيعة وبعض الأقليات الدينية الأخرى آنذاك، فالحلف السني ــ الماروني المؤلّف من عائلات لبنانية برجوازية كان له اليد الطولى في السلطة الى حين دخلت سوريا بيروت في منتصف الثمانينات وأعطت للطوائف التي كانت مُضطهدة ومحرومة بعض السلطة والنفوذ في وظائف وقطاعات الدولة. لكن هذا الحلف لم يكن ليمنع زعماء الشيعة واقطاعييهم من المشاركة في السلطة والصفقات مع الثنائية ذات النفوذ.
لذلك لا يصح القول إن الشيعة كانوا جميعاً مضطهدين والسنة والموارنة كانوا يعيشون في العسل، كما لا يصح هذا الوصف على الوضع القائم اليوم، لأن شهر العسل الماروني ـ السني كان قائماً بين برجوازيتين والمستفيد هو أبناء البرجوازيات من كل الطوائف، ممن لهم مصلحة مع “كبار” هاتين الطائفتين. أما ابناء الطائفة السنية والمارونية في اقليم الخروب وعكار والبقاع والجنوب وبعض قرى الجبل، فلم تكن على خارطة انماء زعمائها.
المشهد نفسه يتكرر اليوم إذ أن السنة ليسوا جميعاً مغبونين، كما يخرج علينا بعض الخطباء المفوهين، بل كل فقير في لبنان وكل من لا سند له هو المغبون والمضطهد ان كان شيعياً أو سنياً، علوياً او آرثوذكسياً أو مارونياً او درزياً او كاثوليكياً. هذا الوضع السائد. أما الحديث عن نفوذ لكارتيلات طائفية وأحزاب وهيمنتها على مفاصل الدولة، فهو قد يمكن اسقاطه على جماعة رفيق الحريري ونجيب ميقاتي وأمين جميل وميشال المر ووليد جنبلاط ، بنفس الدرجة التي يمكن اسقاطها على حركة أمل وحزب الله. واين هي نقاط الضعف في صلاحيات رئيس الحكومة السني الذي اخذ في الطائف ما لم يأخذه رئيس أي سلطة أخرى في البلد.
ما لا يفهمه هؤلاء المغفلون أن المشكلة لا علاقة لها بغبن مذهبي أو طائفي بقدر ما ترتبط مباشرة بمصالح البرجوازية العابرة للمذاهب والطوائف، على حساب الفقراء من كل طائفة. لكن في العنوان قد يكون صحيحاً ان المايسترو في هذه المرحلة هو نبيه بري وقبله كان كميل شمعون وبيار جميل ورياض الصلح وصائب سلام، على سبيل المثال لا الحصر.
إذن المشكلة هي في النظام الطائفي أساساً، وفي صعود حركات الإسلام السياسي التي ادّعت في بداية نشوئها أنها ستعمل على ترسيخ الوحدة الاسلامية وستضمن السلم الأهلي وعدم اقامة دولة دينية، لكنها في المقابل كرّست المذهبية والشرخ الطائفي الى حد أصبح الخروج منه يحتاج الى معجزة فوق ـ بشرية.
أما كلاشيه “الجماعات التكفيرية” فهو من قبيل ذر الرماد في العيون، إذ ان كل تيار ديني إسلامي أو مسيحي شيعي أو سني، وكل متشدد في هذه الطائفة او تلك يؤمن أن الآخرين كفار ومصيرهم النار. لكن ان يتحول هذا التكفير الاعتقادي واللاهوتي الى ممارسات دموية. هنا تكمن المشكلة.
لذلك فإن خطورة زج الدين بالسياسة في هذا الشكل هو جعل أي صراع على النفوذ والسلطة يتخّذ طابعاً مقدّساً، فتصبح التفجيرات التي يقوم بها مُضللون يعملون لصالح أجهزة كبرى تديرها منظمة عالمية خطيرة وقوية جداً (حراس الهيكل) عملاً سلفياً ضد الشيعة. لكن في الواقع من يقم بذلك ومن يعطي الأوامر سواء كان في السلطة السعودية أو في نظام بشار الأسد فهو أحد اعضاء او أحد المنفذين لسياسات هذه المنظمة من دون ان يدري لمن يعمل. حتى زج حزب الله في معارك سوريا لا يمكن فصله عن الحرب المذهبية التي يرسمها كبار هذه المنظمة. فالحزب الذي خرج منتصراً على اقوى دولة عسكرية في المنطقة فشل في تلافي الوقوع في فخ حراس الهيكل وبات مساهماً في قتل “الاخوة السنة” في سوريا، حتى لو وصف قتاله هناك بعنوان آخر.
اذن فمرتكب الجريمة اسلامي وسلفي وتكفيري لكنه ينفذ مخططات “أعداء الأمة” الذين يعزفون على وتر الخلافات العقائدية بين المسلمين والمسيحيين وبين السنة والشيعة ليصنعوا ملاحم كارثية عبر عبوات الحروب المقدسة، فهل يعي الناس أن خطورة الحركات الدينية وسهولة تجنيد أبنائها في حروب مذهبية تفوق بأشواط أي حركات أخرى غير دينية؟ وحزب الله لا يزال حتى الآن قادراً على ضبط شارعه لكن الى متى سيبقى قادراً على ذلك؟.