أوباما لروحاني: كاسك
معمر عطوي
ليست مصادفة كل تلك اللقاءات والاتصالات وتصريحات الغزل الأخيرة بين واشنطن وطهران، فمنذ وصول الرئيس المعتدل حسن روحاني، الى سدة الرئاسة، كان هناك وضوح في نية الملالي الحاكمة للجمهورية الإسلامية بتغيير نمط التعاطي مع الغرب بعد ثمان سنوات من حكم الرئيس محمود أحمد نجاد، الذي تميز بإطلاق لهجة وصفها الغرب بالمتشددة والمجنونة.
عقب الإعلان عن فوز روحاني بمنصب الرئاسة، كتب صاحب هذه المقالة يومها مقالاً في “برس نت” بعنوان تساؤلي: “هل يفتح حسن روحاني بازار التسويات؟”، مستعرضاً فيه مسيرة الرجل السياسية والدبلوماسي ومؤهلاته العلمية وخبرته في مجالات عديدة واتقانه للغات متعددة، بما يؤهله لخوض حوارمع الغرب “بنّاء”، على حد وصف الدبلوماسيين لمحادثاتهم الأخيرة مع الإيرانيين.
ركز ذاك المقال على صفات الرئيس الجديد كرجل “مطلوب إيرانياً وعالمياً، كحاجة إيرانية داخلية لتخفيف الضغط وتداعيات الحصار بما ينعكس ايجاباً على الوضع الاقتصادي، وحاجة دولية لخرق جدار الصلابة في الموقف النووي الذي كان يمثله المفاوض السابق سعيد جليلي.
وفي مقال آخر، نُشر في “برس نت” أيضاً في 25 آب الماضي، لكاتب هذه السطور، تحت عنوان “واشنطن ــ طهران: صفقات على وقع الطبول”، ثمة قراءة في حراك دبلوماسي غير مسبوق بين طهران والغرب، كان يشير بوضوح إلى أن صفقة ما تتم تحت الطاولة.
مؤشرات بدأت بزيارة قام بها الدبلوماسي الأميركي جيفري فيلتمان، الى طهران، حيث التقى كبار المسؤولين الإيرانيين تحت ستار منصبه الجديد كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة، تبعته زيارة قام بها وفد سويسري لعدة أيام الى العاصمة الإيرانية، تزامنت مع ارتكاب مجزرة فظيعة بعناصر “مجاهدي خلق” في العراق، واطلاق معتقلين لدى السلطات الإيرانية بتهم التجسس لدول غربية، مقابل قيام السلطات الأوروبية برفع شركات إيرانية عن لائحة العقوبات.
ولمن لا يعرف دور سويسرا في إيران، فهي وكيلة أعمال واشنطن لدى الجمهورية الإسلامية منذ قطع العلاقات بين البلدين عام 1979، اثر أزمة الرهائن الأميركيين وهجوم المارينز على صحراء طبس الإيرانية. أما دورها في التسويات فقد برز في العام 2004، في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، وأثمر اتفاقاً نووياً مع الغرب قضى بوقف طهران لعمليات تخصيب اليورانيوم آنذاك. وللمفارقة كان روحاني يومها أبرز المفاوضين في الملف النووي مع الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا).
التطورات في الأسابيع الأخيرة تسارعت وتيرتها على نحو قد يكون مفاجئاً للبعض، لكن لمن يدرك لعبة توزيع الأدوار في الجمهورية الإسلامية، يعرف أن روحاني أتى رئيساً برضا المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي مهّد له أرضية الخطاب الجديد بإطلاق شعار “الدبلوماسية المرنة” التي تقوم على “الليونة البطولية”، حسب تعبير خامنئي أمام كبار قادة الحرس الثوري خلال اجتماعهم السنوي منذ أسبوعين.
هذه الدبلوماسية الجديدة التي حظيت بأكثر المؤسسات الإيرانية تشدداً مثل الحرس الثوري والقيادة العليا، فتحت الباب أمام رسالة تهنئة وجهها الرئيس الأميركي باراك أوباما الى نظيره الإيراني بمناسبه تسلمه منصبه الجديد في 3 آب الماضي. ووصلت في آخر المطاف الى اتصال هاتفي مُعلن بين الرئيسين، وذلك لأول مرة منذ انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979.
ولم تصل الأمور إلى هنا من دون مقدمات عديدة، كان منها خطاب روحاني المعترف بحدوث المحرقة النازية ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وتوجيهه معايدة لليهود بعيد الشكروتصريحاته أمام الجمعية العام للأمم المتحدة في نيويورك، حيث كان مطروحاً لقاءه أوباما.
كذلك قدم وزير خارجيته محمد جواد ظريف، ورقة اعتماد الاعتراف بالمحرقة ومعايدة اليهود، سيما أنه ذو الخلفية العلمية الأميركية، والذي لم يكن اختياره لهذه المهمة عبثاً، إذ تم نقل صلاحيات التفاوض في الملف النووي من المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، الى وزارته.
ولعل الاجتماع الأول الذي جمع ظريف بنظيره الأميركي جون كيري، في اطار المحادثات النووية السداسية يؤكد سرعة وتيرة الأحداث لمصلحة التقارب مع الولايات المتحدة.
يبقى هناك أثمان أخرى سيدفعها الجانبان لبعضهما لجعل شهر العسل بينهما أكثر راحة ومتعة، لكن من الاطراف الأضعف طبعاً. وقد يكون إعلان إسرائيل عن اعتقال جاسوس إيراني في تل أبيب أمس ( من صدف القدر ان مهمته مراقبة السفارة الأميركية)، جزء من صفقة أخرى تسعى اسرائيل وراءها عشية لقاء رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الرئيس الأميركي اليوم في واشنطن، حتى لا تخرج الدولة العبرية من المولد بلا حمّص. وهذا ما تقوم به السعودية أيضاً التي وجه ملكها عبدالله الى الرئيس الايراني دعوة للحج هذه السنة، رغم التوتر الشديد بين بلديهما، بما يشير الى قلق سعودي من تحول إيران الى سيدة المنطقة بعد هذه التسويات الكبيرة.
هناك أطرف عديدة ستدفع ثمن هذه الصفقة من دول ومنظمات وأحزاب وكيانات تدور في فلك دول الممانعة وأخرى تدور في فلك الولايات المتحدة. لكن حسابات أوباما وروحاني مختلفة ولا تعير لأحجار الشطرنج الصغيرة اهتماماً حين يكون اللعب على مستوى ملوك. لهذا أعاد الرئيس الأميركي إلى الشعب الإيراني كأساً أثرية فضية كانت السلطات الأميركية صادرتها من مهرّب آثار عام 2003، وكأنه يحتفي بهذا الانجاز على مستوى ترطيب جو العلاقات قائلاً له: كاسك روحاني وكاس شعبك.