الدبلوماسي الجيبوتي رشاد فرح: سفير في قلب الأحداث
باريس- الطيب و لد العروسي (خاص)
قبل أسبوع جرت عملية انتخاب مدير عام منظمة اليونسكو بعيداً عن الأضواء على خلاف الدورات السابقة، وتنافس ثلاثة أشخاص المديرة العامة الحالية إيرينا بوكوفا ومرشحان قادمان من المنطقة العربية جوزيف مايلا من لبنان ورشاد فرح سفير دجيبيوتي في فرنسا. وقد فازت البلغارية بوكوفا من الدورة الأولى وحصلت على ٣٩ صوتاً بينا حصل فرح على ١٣ صوتاً واكتفى مايلا بـ ٦ أصوات.
في إطار الحملة صدر للدبلوماسي رشاد فرح الذي لم يحالفه الحظ كتاب بعنوان: “سفير في قلب الأحداث”، عن منشورات دار البراق في بيروت، ويقع الكتاب في ١١٥ صفحة ويتألف من تقديم للسيد «ميغل أنخيل موراتينوس»، ومقدمة وثمانية فصول وخاتمة.
تطرق المؤلف في هذا الكتاب الممتع إلى طفولته، فهو ينحدر من اليمن عن طريق والده ويكتب” فأنا من أصول يمنية من جهة جدي من أبي” (ص.١٥). و من إثيوبيا عن طريق جدته من والده ” ولدت جدت والدة أبي في أثيوبيا، و كانت عائلتها تقطن هرر، وولدت والدتي في جيبوتي سنة ١٩٢٨” ( ص.١٥). كما تطرق إلى مكانة أسرته العلمية و التجارية و السياسية و ارتباطها بتطور و تسلسل الأحداث في جيبوتي “يتصف بلدي بالتنوع السكاني إضافة إلى جغرافيته و موقفه الاستراتيجي، كما أنه بلد مضياف متفتح عن الخارج..و كون معظم سكانه من الرحل، فإن لم يلبث أن يغدو أرض لقاء كما هو شأن موانئ البحر الأحمر” (ص.12). كما يشير إلى أن سكان جيبوتي حينما حصلت على الاستقلال كان عددهم 250 ألف نسمة ليرتفع إلى أكثر من ٨٠٠ ألف عام ٢٠٠٩ ” ٦٠ في المائة منهم يقيمون في العاصمة” ( ص.١٩).
ثم يعالج مسألة التعليم و أهميته في التكوين الإنساني ليضع أصبعه على الجرح العربي حينما يثبت ما تؤكده منظمة اليونسكو بأن “نسبة الأميين من البالغين مستمرة في التصاعد، و أن التساوي بين الجنسين يتراجع في التعليم الثانوي، و أن التعليم العالي ليس في متناول الكثير من الشباب، أما نسبة الانخراط الدراسي في التعليم العالي في إفريقيا جنوب الصحراء فلم يتعد ٦ في المائة سنة ٢٠٠٨، بينما كان المعدل العالمي ٢٦ في المائة، إن هذه التفاوتات توضح عدم صلاحيات أنظمتنا” ‘ص.٢٥ . الأمر الذي يتطلب من منظمة اليونسكو زيادة الاهتمام بالتعليم والحرص عليه وإعطائه المكانة الأهم في البرامج السياسية لكل حكومة لأن ٦ في المائة نسبة الدارسين يبيّن فجوة كبيرة في النقص في التعليم، و بالتالي فإن المنظمة تدق جرس الإنذار وعليها أن تطالب الحكومات المعنية بأخذ الأمور بجدية أكثر لوضع حد لهذا الوضع.
يعطينا الكاتب لمحة عن مشواره العلمي المرتبط بتطور بلده جيبوتي، فهو كان قد قدم إلى لفرنسا من أجل الدراسة، كما تفرّق إخوته في عدة مدن عربية و غربية لمواصلة تعليمهم، ثم أصبح المؤلف مدرسا في جيبوتي التي تبلورت فيها جامعات و مؤسسات علمية حديثا، بحكم ارتباط و مساعدة بعض الدول العربية و الإسلامية لها مثل تونس لإرساء “جامعات و معاهد علمية”.
بعد عودته إلى بلده دخل عالم السياسة إذ مثل بلده في عدة مناصب “لدى عودتي إلى جيبوتي، تم تعييني في وظيفة السكرتير العام المساعد للحكومة” (ص.٣٧)، ثم تقلب في مناصب أخرى في الخارجية حيث تعرف على شخصيات عربية و غربية و عالمية، للمساهمة في بناء بلده ” كنت أشعر بالفخر و الشرف لمشاركتي المتصاعدة في بناء دبلوماسيتنا بدعم خيّر من رئيس الدولة، كان عملي يخص كل ما له علاقة بالشؤون الثنائية و من بينها الملفات السياسية” (ص.٤٨). ثم تطرّق بعد ذلك إلى عمله في المفوضية السامية للأمم المتحدة و إلى المشاكل السياسية بين جيبوتي و بعض الدول العربية و الإفريقية المجاورة لها، والعمل لحلّها من أجل أن تعيش جيبوتي بسلام مع الجيران.
عين المؤلف سنة ١٩٨٤ في طوكيو كسفير لبلده “لقد ساعدني وجودي في طوكيو على تطوير علاقات شخصية مع العديد من الدبلوماسيين و من ثم المساهمة في تعزيز العلاقات الثنائية بين بلدي و بلدانهم” (ص.٦٧). ثم أصبح عميدا للمجموعة الإفريقية سنة ١٩٩٤، و اهتم بمجموعة ملفات مع بعض البلدان مثل الصين و الهند انطلاقا من طوكيو، كما أعجب بالنظام التعليمي في الفيلبين، و بالمستوى الاقتصادي في ماليزيا و نظامها التعليمي، أما الصين عملاق الجنوب فيرى بأنه مستقبلا يجب أن تلتزم ببناء علاقة استثناية معه “بشكل أكبر إفريقيا، وستصبح حتما الشريك الأول للقارة الإفريقية، ابتداء من سنة ١٩٨٦ و قبل أن أعيّن سفيرا كنت مراقبا للتغيرات التي تعود إلى نهضة إمبراطورية الوسط” ( ص.٧٦).
قضى ١٥ سنة في طوكيو إضافة إلى بعض البلدان الأخرى التي كان معتمدا فيها “الصين، تايلاندا، ماليزيا، الفلبين، كوريا، الهند، أندونيسيا، سنغافورة و أستراليا” (ص.٧٧)، مما يبيّن تجربة المؤلف الكبيرة في القارة الأسيوية، كما يوضح معرفته بخبايا هذه الدول التي يعتبرها كنموذج في النمو الاقتصادي و التعليمي و الاجتماعي، و هي تجربة غنية سمحت للأستاذ فرح رشاد فيما بعد أن يلتحق بمنظمة اليونسكو بعد أن عينته بلده سنة ٢٠٠٤ سفيرا لها، و ممثلا دائما “لجمهورية جيبوتي لدى منظمة اليونسكو” ( ص.٨١).
يولي الأستاذ رشاد فرح أهمية كبرى للتعليم و لتنميته، كما يوضح الدور الريادي للتربية في تطوير الأمم، علاوة على أخذه بعين الاعتبار للتطورات التقنية الحديثة في ميدان الرقمنة و العمل من أجل إرسائها قولا و عملا في مؤسساتنا العربية الإفريقية، و هو يعتبرها كشرط من شروط اللحاق بالتطور الحضاري و العلمي و الإنساني، مما يتيح الفرصة لهذه الشعوب للاضطلاع على المحتويات الرقمية التي أصبحت مصدرا مهما من مصادر المعلومات، و ولوج “مجتمع المعرفة” ( ص.٩١)، بكل معطياته، وبعد ذلك يعالج دور اليونسكو الذي يؤكد قائلا: ” في منضمة اليونسكو، نحاول تقديم حلول لحالات فورية، و لكننا، وبشكل خاص، نعمل على أن تكون بيئة الأجيال القادمة أفضل من بيئة الأجيال الحالية” (ص.٩٩)، كما حلل مجموعة كتابات و تقارير رصدت الوقائع التي تعيشها القارة السمراء اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا، و على اليونسكو “أن تكون بيتا مفتوحا على الخارج، و مكانا للنقاشات و التبادل و المواجهات مع العالم، حيث يكون فيه للمثقفين و العلماء و الباحثين و الخبراء دور حاسم، فإنه يتوجب علينا ربط شراكات مع هذه المختبرات التي تمثلها مراكز التفكير” (ص.١٠٨). وهنا نرى الكاتب و كأنه يقدم برنامج عمل يأمل تحقيقه في حالة لو تم ترشيحه على رأس المنظمة، لأنه يوصي من خلاله بتحقيق النمو و العمل من أجل تطوير التعليم في القارة السمراء ، و يحث المجتمع الدولي على الاهتمام بها، و جعل منضمة اليونسكو تلعب دورها بشكل حقيقي لكي تؤسس هي الأخرى لعمل يلتقي فيه الجميع من أجل بناء “مجتمع المعرفة” و مجتمع السلم و المحبة ‘و تفعيل حوار الحضارات و تيسير العلوم” (ص.١١١). خاصة و أن منظمة اليونسكو تلعب دورا محوريا في “تطوير الثقافة و التربية إضافة إلى الدبلوماسية الثقافية المتعددة الأطراف” (ص.١١١). و عليه فإن هناك أربع أولويات، حسب الكاتب، يجل الاعتناء بها و هي: ” حوار الحضارات و المعتقدات و حماية التراث الثقافي و نقل العلم و التقانة و تطوير التعليم العالي” . كما يؤكد على أن دور اليونسكو يساهم في صنع “القرار في تطوير كافة العلوم بما فيها العلوم الإنسانية و على تداولها بين المجتمعات و الشعوب ” (ص.١١٤).
يؤكد الكاتب بأن الأنتيرنيت ” استطاعت أن تخلق رموزا كونية، فلما لا نصل إلى النتيجة نفسها في ميدان علوم الإنسان و المجتمع، و في هذا الميدان لا بد لليونسكو أن تلعب دورا رياديا” (ص.١١).
فمن خلال هذا الكتاب البرنامج يتوضّح لدينا بأن من صفات الرجل خبرته الدبلوماسية والعملية وعلاقته بديناميكية المنظمة، ولقد اهتم السفير رشاد فرح بكل القضايا المرتبطة بالثقافة والتعليم ولاسيما في القارة الافريقية، و باختصار فإن الكتاب يظهر سيرة غنية بالخبرة الدبلوماسية ويقدّم طروحات تجديدية تعيد للجنوب حقه في التنمية الثقافية ليس لمواجهة الشمال وإنما من اجل التقارب بينهما وتوحيد مساريهما. كما يؤكد الدبلوماسي و السياسي الإسباني السيد ميغل أنجيل موراتينوس في تقديمه للكتاب بأن “الربيع العربي مرتبط بصورة أشمل، بالتطلّع الديمقراطي للشعوب، فالتعليم يساهم في إرساء الديمقراطية و عن طريق التعليم يمكن لهذه الشعوب أن تتطلّع إلى التغيير” (ص.٨). ولذا فإن تقلد منصب المنظمة من قبل سفير من الجنوب يملك تجربة غنية و العارف بقضايا المنظمة تكون فرصة جيدة للاهتمام بطرح و معالجة قضايا النمو الثقافي و العلمي في القارة الافريقية. خاصة و أن الأستاذ فرح قد وجد مساندة واسعة من المنظمة الافريقية و من الكثير من بعض المثقفين و من رجال السياسة العرب و الغرب.