إضاءات حول انتخاب مدير جديد لمنظمة اليونسكو
د.فؤاد نهرا*
بدا للجميع ان انتخابات المدير العام لليونسكو لم تؤت بالجديد وانها حرمت المشاهد من عنصر المفاجأة عندما تمكنت المديرة العامة الراهنة ايرينا بوكوفا من الفوز بولاية جديدة منذ الدورة الاولى بمقدارما يقارب ثلثي عدد الاصوات اي ب٣٩ صوت في حين احتل السفير رشاد فرح المرتبة الثانية ب١٣ صوتا والعميد جوزيف مايلا المرتبة الثالثة ب٦ اصوات.
يرى البعض في ذلك هزيمة فقط لاغير للوطن العربي والجنوب, في حين ان مسار الانتخاب عينه كان قد اوصل عددا من المسائل الى محور النقاش السياسي داخل المنظمة. لقد جاءت الحملة الانتخابية بمرشح للجنوب وبحضور لقضايا الجنوب وهي اول حملة تمت في منظمة تعترف بشكل واضح وكامل بفلسطين كدولة عضو لاينتقص من عضويتها بمقدار ذرة.
فمن حيث الشكل برز بوضوح مرشح للجنوب, حظي بتأييد محاوره المختلفة. لقد حصل السفير رشاد فرح على الدعم الرسمي لثلاث منظمات اقليمية محورية وهي الاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الاسلامي, ويعتبر المحور العربي\الافريقي اساسيا لبناء استراتيجية مشتركة لنصرة قضايا الجنوب, حيث يمثل ٢٠ صوتا داخل المجلس التنفيذي, ومحورا مكونا من ٦٧ دولة عضو في الجمعية العامة.
ثم انه طرح برنامجا ينقل محور اهتمام منظمة اليونسكو من الشمال الى الجنوب حين طالب بتعزيز التعليم العالي فيه وخاصة في القارة الافريقية واعطاءه الاولوية والاهتمام بالجماعات الاكثر تعرضا للتهجير والتهميش وانشاء برنامج خاص لمواجهة التصحر.
واخيرا عرض على المنظمة مشروعا متكاملا لمعالجة الازمة المالية من خلال تغيير نمط حكم وتسيير الادارة وادخال اصلاحات جذرية فيها تقضي بعزيز النشاط الميداني في افريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية وبادخال الشفافية والمحاسبة ومبدأ “امرهم شورى بينهم” في تسيير الادارة و اشراك الدول الاعضاء في صياغة القرار قبل التصويت عليه.
وخلال الاشهر الثلاثة الاخيرة اعلنت المجموعة الافريقية ليس فقط عن تأييدها وانماعن حماسها لترشيح رشاد فرح حيث انها تعهدت بالسعي جاهدة من اجل اقناع ممثلي المجموعات الاخرى داخل المجلس التنفيذي. اما الدعم العربي فكان التعبير عنه من خلال بيانات جامعة الدول العربية والاتحاد البرلماني العربي.
لقد جاء استحقاق ٢٠١٣ بمرشحين مرموقين احداهما المديرة الراهنة ايرينا بوكوفا التي اثبتت عن مهارتها الدبلوماسية والسياسية و الاخر العميد جوزيف مايلا ذات المستوى الفكري والفلسفي المرموق.
- فالمديرة العامة الحالية ايرينا بوكوفا واجهت بحزم وبسالة الازمة المالية التي نتجت عن مقاطعة الولايات المتحدة للمنظمة وكذلك عن امتناعها عن تقديم ما يقارب ٢٢٪ من ميزانية المنظمة.وفي برنماجها المقترح الكثير من الايجابيات, واهمها انها المديرة العامة الاولى التي حققت المساوات شبه المطلقة بين الرجال والنساء داخل هيكلية المنظمة.
- ثم ان العميد السابق للجامعة الكاثوليكية في باريس والمسؤول الرفيع في وزارة الخارجية الفرنسية كشف عن مستواه الاكاديمي المرموق علاوة على قدرته على تناول قضايا المنظمة بمهارة. ومن حسن حظ القطب العربي انه ايضا اعلن هذه المرة عن انتماءه العربي. وذلك علاوة على احترامه لمنافسه العربي الآخر وعلى قدرته على الابتعاد عن الصور النمطية في التفكير السياسي. وهو المشهور باتقانه الفلسفة السياسية ومفاهيمها وبالامتياز في الكتابة والتعليم.
اما السفير رشاد فرح فقد جاء ايضا بالجديد لكن من لم يعرفه ظل اسيرا للصور النمطية حول الدبلوماسي الافريقي العربي الذي قال عنه البعض انه “المرشح غير المناسب في الوقت غير المناسب”
لن نجادل في توقيت الانتخاب لطالما ان بعض الممثلين العرب كانوا حريصين الا يضيفوا الى عقاب واشنطن للمنظمة عقابا لادارتها اثر التصويت على عضوية فلسطين, في حين ان البعض الآخر اصر على ضرورة تغيير النهج واعطاء فرصة للجنوب. وكلا الموقفين صائب.
اما اعتبار مرشح الجنوب انه الشخص غير المناسب فينتج عن الصور النمطية الآتية :
- عدم كفاءة الدبلوماسي العربي الافريقي : لكن رشاد فرح كشف عن معرفته الدقيقة بشؤون المنظمة وتقدم ببرنامج اصلاح متكامل لها , وكذلك عن معرفة دقيقة للقضايا التربوية والثقافية وهو الذي احتل منصب نائب رئيس المجموعة الافريقية داخل المجلس التنفيذي.
- غياب الشفافية والحكم الرشيد : وهما مبدءان اساسيان من نهجه السياسي ومن برنامجه الاصلاحي
- الاحتمال ان يكون نمط الحكم لديه استبداديا , ويعلم من قرأ كتابه “سفير في قلب الاحداث”(دار البراق, بيروت, ٢٠١٣) ومن تحدث معه ان نمط تصوره يميل الى ما يقال عنه انه الفكر الاجتماعي الديمقراطي , يرفض الاستئثار بالسلطة وكان اهتمامه الاول هو كيف تستطيع ادارة اليونسكو ان تحتفظ بكامل طاقاتها البشرية وان تحل ازمة الميزانية من دون صرف موظف واحد.
- وثمة صورة نمطية اخرى قد يتبناها العديد من الممثلين الاوربيين وهي تلك الناتجة عن اسلام المرشح وان كان معتدلا حيث انه من الافضل لهم ان يكون العربي مسيحيا حتى يحظى برضاهم. كذلك كان مصير المرشحين السابقين من اخواننا : فالدكتور غازي القصيبي والذي اشتهر بمستواه الفكري والسياسي المرموق وهو صاحب ثقافة موسوعية هائلة حظي ب١٣ صوتا مقابل ٣٤ صوت للياباني ماتسورا في الدورة الثالثة عام ١٩٩٩, والوزير فاروق حسني الذي تكاد انجازاته في ميدان الثقافة لاتحصى اثناء ولايته تعرض لحملة شرسة طغت عليها الاتهامات السياسية الظالمة اثناء حملته عام ٢٠٠٩.
وقد لعب النشاط الدبلوماسي المكثف للسفير المرشح دورا جليا في تبديد هذه الصور الخاطئة وفي التعريف عن الصورة الحقيقية لشخصيته ولنهجه السياسي وكذلك في التعريف بصورة افضل عن دولة جيبوتي في قارات جديدة غير القارة الافريقية . وفعلا وجد رشاد فرح دعما لدى عدد من دول آسيا وامريكا اللاتينية التي ظلت بمنأى عن ضغوطات الدول الكبرى.
اما القضية الثانية فتتمثل في طبيعة الانتخاب :
ان انتخاب المدير العام لليونسكو يمثل عملية لها سمات خاصة اهمها ان اعضاء المجلس التنفيذي يدلون باصواتهم بمقتضى نظام الاقتراع السري على خمس دورات.
وفي نظام الاقتراع السري تلعب الكواليس دورها في قلب موازين القوى وهي تتبدل بسهولة عندما تظهر ارادة قوية لدى بعض الدول المحورية ,بسبب ما يقال عن المنافسة على منصب مدير عام اليونسكو انها تنتمي الى السياسة المبتعدة عن الاولويات الاستراتيجية للعديد من الدول وتختصر بالانكليزية بمصطلح low politics. ويفترض| ولم تثبت هذه الفرضية | ان تكون الدول المحورية الثلاث اي فرنسا والولايات المتحدة وروسيا قد حسمت موقفها واستطاعت ان تقنع غالبية مجموعة ال١٤ الافريقية بالانصراف عن للمرشح العربي الافريقي. ونضيف فرضية ثانية ان دول الجنوب التي استقرت على تأييدها لرشاد فرح كانت الاقل اعتمادا على الدول الكبرى المذكورة والاكثر استقلالية في موقفها السياسي.
اما العامل الآخر فهو انه من الايسر على مدير عام يمارس صلاحياته ان يحصل على تأييد الدول الاعضاء بمجرد موقعه المحوري في المنظمة وبمجرد علاقته المميزة بالدول الاعضاء. ثم ان امر التمديد لولاية ثانية كان مألوفا في تاريخ المنظمة حيث ان عدم التجديد قد يظهر كدليل عن فشل الولاية الاولى. لقد صدر ما لا يقل عن خمسة عشر مقالا مهاجما للمديرة العامة الراهنة وجاءت محكمة الحسابات الفرنسية بالتدخل في الامر لتوجيه انتقاداتها اللاذعة لادارة المنظمة. تلك المؤشرات كانت تنذر او توهم ببوادر تغيير جذري و من المحللين من رأى بادرة تغيير جوهري ومنهم من رأى في ذلك مؤآمرة لفرض مرشح ثالث من وراء الكواليس.
ومهما كان الامر , فلم يخلف هذا الانتخاب هزيمة لاحد :
فايرينا بوكوفا انتصرت لانها استطاعت ان تتجاوز الانتقادات الحادة التي وجهها الاعلام الفرنسي وبعض الاعلام الانكلوساكسوني وان تثبت قدرتها على اقناع الدول المحورية بان الاستمرارية خير من التغيير المفاجئ. انتصرت رغم الانتقادات التي وجهت اليها. فهي استطاعت ان تقنع الدول الكبرى الاساسية بالثبات في موقفها الداعم لها في فترة ظننا خلالها ان موقعها قد ينقلب. فالمندوب الامريكي استدعي لواشنطن في الصيف وفرنسا تأخرت في تعيين مندوب جديد ثم انه كان يخشى من تراجع مؤيديها لصالح مرشح آخر.
من جهة ثانية نجح رشاد فرح في توجيه الانظار الى الجنوب وخاصة الى القارة الافريقية التي فيها اكثر من ثلثي الدول الاقل تقدما في العالم (وفقا لتعريف برنامج الامم المتحدة للتنمية) والتي يعاني عدد من دولها من نقص في مستوى الانخراط في التعليم العالي |اقل من ٥٪ في البينين والنيجر مقابل اكثر من ٧٠٪ في دول اوربا الغربية–|
ثم انه نجح في جعل قضية حوار الحضارات والاديان قضية محورية ومن منظار جديد . فغالبا ما كان ينظر الى العوائق انها قادمة من العالم الاسلامي. واليوم ظهرت قضية الاقليات الاسلامية المعرضة اما للتمييز الاجتماعي والاقتصادي |راجع دراسات ماري ان فالفور | واما للابادة |وضع المسلمين الروهنغا غربي بورما وفي سري لانكا |. ثم ان الحركات العنصرية المتطرفة الآخذة في الصعود في اوربا جعلت الجاليات الاسلامية هدفا سهلا لها (راجع مقالنا السابق حول الوجه الجديد لليمين الاقصى الاوربي) . أنها قضية لن تظل بعيدة عن انظار الادارة الجديدة لليونسكو.
واخيرا مثل منعطفا يقضي بتثبيت دعائم محور عربي | افريقي , اذ ان العرب ادركوا انهم لن يتمكنوا من الفوز وحدهم وانه لابديل من سياسة الاحلاف بين محاور الجنوب الاربعة وهي : المحور العربي والمحور الافريقي والمحور الامريكي الجنوبي والمحور الممثل في منظمة المؤتمر الاسلامي. ثم ان المحور امتد الى امريكا اللاتينية غربا حيث استطاع السفير ان يحصل على اصوات من بعض دولها والى الشرق الادنى حيث عرف ان علاقته باليابان ظلت وطيدة.
وعلى مستوى اقليمي جنت دولة جيبوتي مكاسبا جمة من هذه الحملة. فهي دولة واقعة على اطراف الوطن العربي , لا يتجاوز عدد سكانها ال٨٠٠ الف نسمة, وكادت بعض خرائط الوطن العربي ان تتجاهلها. لكنها دولة قادرة على اثبات موقعها الاستراتيجي لانها الممر الاساسي بعد قناة السويس بين المحيط الهادئ والبحر المتوسط ولان منها انطلقت القواعد العسكرية الاطلسية لمكافحة الارهاب والقرصنة. وقد لعب السفير رشاد فرح دورا اساسيا في جعلها محطا لانظار دبلوماسيات الدول الكبرى وفي اعادة الجمهورية الفتية الى محور المحيط الدبلوماسي العربي والافريقي. لقد كثر من دبلوماسيي الدول الكبرى من اعاد تقدير دورها في رقعة الشطرنج الافريقية. كان لهذه الحملة تكلفة عالية بالنسبة الى دولة صغيرة, لكن عوائدها السياسية هي بالتأكيد اكبر حجما. وعلى الاقل فانها عززت من موقف هذه الدولة في اطار التحالف الاقليمي الشرق افريقي , ولا سيما في اطار الايغاد.
اخيرا نجح العميد جوزيف مايلا لان الاصوات الستة التي نالها كانت نتيجة لجهد دبلوماسي لاسابق له قامت به الدبلوماسية اللبنانية بكل ما لديها من طاقات كما ان الجالية المارونية لعبت دورا اساسيا لاسيما في امريكا اللاتينية. وكان المرشح الثالث قد انطلق من حملة صعبة المخاض ثم تمكن من اقناع العديد من الممثلين والاداريين والمفكرين والصحفيين باحقية ترشيحه وقد اصاب. اصاب ولربما تكون هذه الحملة مدخلا لتكريس البعد العربي لدى عدد اكبر من التيارات السياسية في لبنان حيث ان لبنان لن يكون محوريا الا من خلال دوره وانتماءه العربيين. ثم انه كاد ان يكون المنتفع الاول من اصوات الدول الاوربية الكاثوليكية في حال انهارت المرشحة الاولى. لكن هذه الاخيرة استقرت لان ديبلوماسيتها اصابت في اقناع الاطراف الاسياسية ولان المقالات الصحفية الشديدة اللهجة وآخرها مقال نشر في لوموند ديبلوماتيك لشهر ٩|٢٠١٣ لم تجد في اقناع الخبراء بانها هي المسؤولة عن كارثة سببها الاول المقاطعة الامريكية للمنظمة. وقد حرص العديد من المندوبين الممثلين الا تعاقب ادارة المنظمة مرتين, مرة باضعاف الميزانية ومرة اخرى بمعاقبة المديرة العامة لانها تصرفت بميزانية منقوصة. ونجاح جوزيف مايلا واضح اذا ما قارناه بوضع الدكتور محمد بجاوي عام ٢٠٠٩. ونذكر ان هذا الاخير من ارقى علماء القانون العرب وانه هو الذي قاد جماعة ال٧٧ في السبعينات من القرن الماضىي وهو الذي لعب دورا رياديا في صياغة وكتابة “شرعة الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول” والتي قلبت النظام الاقتصادي العالمي رأسا على عقب منذ عام ١٩٧٤. ومع ذلك لم يحصل على صوت واحد في انتخاب ٢٠٠٩ .
لكن المأساة ظلت عربية اذ انه ظل منذ انتخاب ١٩٩٩ يعكسس الانقسامات السياسية بين تطلعات متغايرة لدول تشترك في وحدة التاريخ والحضارة والانتماء القومي. والنتيجة هي ان الوطن العربي بصورة خاصة لم يتولى حتى اليوم منصب المدير العام للمنظمة, في حين ان مشاركته التاريخية والحاضرة في اثراء الفكر والثقافة العالميين لا تحتاج الى من يثبت وجودها. فالمستقبل يتطلب ليس فقط آلية مناسبة لاختيار المرشح الواحد للمجموعة العربية وانما وحدة دبلوماسية عربية عرفت الشلل منذ ١٩٧٨. اما اختيار المرشح فقد يكون ايضا في اطار التعامل الايجابي مع الامتداد الاسلامي (منظمة المؤتمر الاسلامي) والبعد الافريقي (الاتحاد الافريقي) ومن دون ان ننسى ما للجنوب من قضايا جامعة. اما جهد الدبلوماسيات والفعاليات والنخب فيتلخص قوله تعالى “وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما”.
استاذ العلوم السياسية في جامعة باريس ٥
المراجع:
NOHRA Fouad, ANDRE DESSORNES Carole : « Le nouveau visage de l’extrême droite européenne », in CHAIGNEAU Pascal (dir.) : Enjeux Diplomatiques et Stratégiques, Paris Economica 2011
ROBERT Anne-Cécile : « l’UNESCO en danger » , in Le Monde Diplomatique, Septembre 2013
TAYARA Bassam : « Trois candidats et des surprises annoncées », in Blog Lemonde
http://btayara.blog.lemonde.fr/2013/09/17/unesco-trois-candidats-et-des-surprises-annoncees/
VALFORT Marie-Anne : Les Français musulmans sont-ils discriminés dans leur propre pays ? , Fondation Franco-Américaine, Science Po, Paris, 2010