تحيّة الى أبو عرب من “فتح لاند”
مع أني إبن منطقة الجنوب اللبناني، وتحديداً منطقة العرقوب الواقعة الى الجهة الشرقية من الجنوب، في سفح جبل الشيخ (حرمون)، أجد نفسي غريباً على المنطقة كلما زرتها، حتى يكاد بعض الأصدقاء، ممن يرافقونني في تجوالي، يوحي الي بسخرية بأني مجرد سائح لا أعرف عن منطقتي إلاّ القليل. تلك المنطقة امتزجت فيها دماء شهداء فلسطين ولبنان وسوريا، من بينهم جدتي رشيدة نجم، أم والدي، والتي سقطت شهيدة بقذيفة صهيونية حولتها الى أشلاء في صيف العام 1977.
فالتجوال بين مناطق وقرى الشريط الحدودي السابق، كما أسماه العدو الصهيوني حين احتلاله للجنوب اللبناني، مثير وممتع في آن، يحمل في طيّاته قصص بطولات وأوجاع، انتصارات وهزائم، لكنه في المجمل يبقى المنطقة العربية الأكثر تأثيراً في مجرى التاريخ، لجهة اثبات مقولة انتصار العين على المخرز.
منذ حرب العام 1967 كان الجنوب، وخصوصاً منطقة العرقوب في عين المعركة، يتحمّل أهله اعتداءات دورية، وقذائف واجتياحات مرحلية ومحدودة حملت معها الكثير من التدمير والقتل والاعتقال والرعب.
الأصح أن إبن الجنوب اللبناني الذي يعيش بين منطقة الناقورة – صور على البحر الأبيض المتوسط وبين شبعا في آخر الجنوب الشرقي، يتحمّل فاتورة الصراع العربي الصهيوني منذ عام النكبة 1948، حين ارتكبت الدولة العنصرية الصهيونية أفظع مجزرة في قرية حولا الواقعة على الحدود مع فلسطين المحتلة. وتكررت المجازر وعمليات التدمير المُمنهج في القرى السبع (تربيخا، هونين، النبي يوشع، صلحا، قدس، المالكية وإبل القمح) ثم لاحقاً في بلدة الخيام وفي كفرشوبا وغيرها. وحين أتى الفدائيون الفلسطينيون الى الجنوب بعد اتفاق القاهرة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1969 والذي أعطاهم حق النضال من لبنان بعد قمعهم في الأردن، بدأت جولة جديدة من الصراع العربي الإسرائيلي “المُصغّر” في منطقة العرقوب، التي سُميت “فتح لاند” كونها تحولت الى مركز استراتيجي لانطلاق العمليات الفدائية من مثلث جيوستراتيجي يطل على سوريا وفلسطين والجولان السوري المُحتل.
وتسمية “فتح لاند” تعود الى أن التنظيم الأبرز على الساحة الفلسطينية كان حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) بقيادة ياسرعرفات (أبو عمار)، رغم تواجد مراكز للجبهتين الشعبية والديموقراطية وفصائل أخرى يومها.
لقد حوّل الضابط اللبناني الخائن سعد حداد جزءاً من منطقة الجنوب الى شريط حدودي يشكل امتداداً حيوياً لدولة الاحتلال في فلسطين في العام 1979، ونشر فيه مئات العناصر المُنشقّة معه إضافة الى عناصر انضمت اليه بفعل التهديد أو الإغراء، وأطلق عليهم اسم “جيش لبنان الحر”. وفي العام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان وصولاً حتى العاصمة بيروت، لكنها لم تبقَ طويلاً بفعل صمود المقاتلين من جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) وباقي الفصائل اللبنانية والفلسطينية. فانسحبت الى صيدا ثم الى وسط الجنوب لتقيم شريطاً حدودياً آخر يسيطر عليه “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة الخائن الضابط اللبناني إنطوان لحد. وكان هذا الجيش مثل سلفه جيش سعد حداد، يأتمر بأوامر الصهاينة الذين يدرّبون عناصره ويدعمونه بالمال والسلاح والعديد.
منذ العام 2000 أصبحت المنطقة بلا شريط حدودي وبلا احتلال، باستثناء بعض الأراضي اللبنانية، وفق تقسيمات سايكس بيكو، خصوصاً مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا. وبعيداً عن التقسيم الفرنسي البريطاني الظالم هناك القرى السبع اللبنانية التي ضُمّت قسراً الى فلسطين في زمن الاحتلال الفرنسي.
نعم، الجولة في المنطقة بالفعل تحمل في كل مرة جديداً، وتعيد عقارب الساعة الى الوراء حين كان الجنوبيون يرددون مع إخوتهم الفلسطينيين “طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي….” وها هم اليوم يحتضنون اشقائهم السوريين الهاربين من ظلم نظام استبدادي وميليشيات متشددة لا ترحم.
في الجنوب لا بد من تذكّرشاعر ومطرب الثورة الفلسطينية إبراهيم محمد صالح (أبوعرب)، المولود عام 1931 والذي توفي الأسبوع الماضي في مدينة حمص السورية بعد صراع مع المرض. لقد ألّف إبن قرية الشجرة (الواقعة في منتصف الطريق بين مدينتي الناصرة وطبرية) ولحّن وغنّى حوالي 300 أغنية وقصيدة على مر مسيرته الفنية.
وللتذكير فإن أبو عرب ابن شهيد قتله الاحتلال عام 1948 خلال اجتياح الميليشيات الصهيونية لفلسطين، واب لشهيد سقط عام 1982 خلال اجتياح لبنان. أما من طلب منه عام 1978 تسجيل الأغنيات والأهازيج الوطنية في إذاعة «صوت فلسطين»، فهو القيادي الفلسطيني عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، الشهيد ماجد أبو شرار، الذي اغتاله الموساد في روما لاحقاً. أنشأ أبو عرب فرقته الأولى عام 1980 باسم «فرقة فلسطين للتراث الشعبي». لكنه بعد اغتيال الفنان الفلسطيني ناجي العلي في لندن عام 1987 غيّر إسم فرقته إلى «فرقة ناجي العلي». وتوفي المناضل الفلسطيني عن عمر يناهز 83 عاماً وهو لا يزال يعتمر كوفية أهداه إياها الشهيد أبو عمار، وبالتزامن مع جولة تاريخية على شريط الوجع والانتصارات.