“ناعورة سيدي حسن” لـ بن زليخة: رواية استعمار الجزائر
الجزائر البيضاء… أو لنقل هكذا كان يطلق عليها… الجزائر البيضاء وقصبتها القديمة، من السّهل أن تتوه داخل أحد أحيائها دون العثور على مخرج… طرقها توغل المتجوّل داخل مدينة القصبة لتدور به نحو أحياء أخرى وتلقي به بين أذرع حيطان تآكلها الدّهر… وكأنّه داخل دوامة يصعب الانفلات منها بل يتعذر عليه إيجاد سبيله إن لم يرافقه دليل…
كامرأة حسناء أوصدت الطّريق للوصول إلى قلبها وأقفلت عليه بمئات الأقفال قبل أن تلقي بها إلى عرض البحر، هكذا هي قصبة الجزائر أو لنقل هكذا يخال للمتجوّل عندما تحطّ عيناه لأوّل مرة على أحياء القصبة، أحيائها تعجّ بالألغاز وتخفي بين حيطانها البالية العديد من الحكايات والأسطورات… غير بعيد يتواجد قصر قديم لم يعد يبق منه إلاّ الحطام. البعض يقول أنّه كان يطلق عليه اسم “دار السّلطان” (أو قصر السّلطان)… يقولون أنّه على ذلك القصر كانت تحيط بأسواره وتعلوها أزهار الياسمين… أمّا اليوم فلا وجود لتلك الأسوار ولا وجود للياسمين بل حلّت محلها أكوام من الزّبل والقاذورات… عبر أحيائها القديمة كانت رائحة القهوة التّركية المرششة بقطرات ماء الزّهر تدغدغ الأنوف وتعبّق أحيائها الضّيقة… غير بعيد وعبر ممرات سرّية لا يعرفها إلاّ أهالي القصبة، يمكن للمتجوّل أن يجد نفسه أمام ناعورة ماء قديمة اسمها “عين سيدي حسن” أو “ناعورة سيدي حسن”… النّاعورة يزينها شريط زركش عليه هذه العبارة: “ولا غالب إلاّ الله!“. البعض يقول أنّ هذه الناعورة يعود عهدها إلى فترة حكم المرابطين، وبالتّحديد في عهد يوسف ابن تاشفين.
نحن متواجدون الآن في الجزائر، وبالتّحديد في شهر ماي من عام 1830… الدّاي حسين وصلته رسالة تخبره بأنّ فرنسا قررت الهجوم على الجزائر “المحروسة”.
“الأخبار كانت سيّئة، شارل العاشر اتخذ قرارًا حاسمًا، سيقوم بالهجوم على الجزائر العاصمة، لقد وضع دوبورموه ودوبريه على رأس جيش عدده 70 ألف رجل، الدّاي حسين كان واثقًا جدًا من قدرات الدّولة الجزائرية ليس فقط في الرّدّ على الهجوم بل وكذلك في إلحاق هزيمة نكراء بالفرنسيين”.
أحمد باي لم يكن يشاطر رأي الدّاي حسين كان “(…) يدرك جيّدًا أنّ الجزائر تجتاز مراحل حاسمة من تاريخها ولذا لم يكن متفائلاً مثل الدّاي حسين ورغم إخلاص الدّاي وربّما بسبب إخلاصه هذا لم ينتبه إلى المخاطر التّي كانت تترقب بالجزائر العاصمة من بعيد” ولكن مثل الدّاي تمامًا، “كان يريد أن يتخلّص من هذه البعثة الفرنسية التّي ستدفع بالدّولة الجزائرية إلى مواجهات وابتلاءات عظمى وحتّى وإن تعوّدت في الماضي على مثل من هذه الابتلاءات وقاومتها”.
قبّة “سيدي عبد الرّحمن” لم تكن بعيدة من مكان تواجد الباي أحمد، ربّما هي فرصة للذّهاب هناك من أجل الدّعاء… الدّعاء كثيرًا وبخشوع…
من خلال صفحات هذا الكتاب الذّي بين أيدينا للرّاوي الجزائري أحمد بن زليخة، أصدرته دار النّشر القصبة الجزائرية تحت عنوان: “ناعورة سيدي حسن”
يقصّ علينا الأجواء المحمومة التّي عاشتها مدينة الجزائر العاصمة في تلك الفترة وبالتّحديد قبل شهر واحد من الهجوم الفرنسي على شواطئ سيدي فرج. الجميع كان يردّد أنّ “حادثة المروحة” لم تكن إلاّ ذريعة صبيانية لفرنسا للدّخول إلى العاصمة. لكن في حقيقة الأمر، الجميع يدرك أنّ انهزام الأسطول الجزائري خلال معركة نافرين عام 1827 أضعفت سيادتها بكثير على الحوض الأبيض المتوسّط… لو كان الرّايس حميدو، أو خير الدين وأخوه عروج بربروس على قيد الحياة، لكان الأمر غير ذلك… هذا ما كان يردّده سكان العاصمة… نعم هذا صحيح ولكن تلك كانت فترة مضت وامّحت…
في الواقع، كتاب أحمد بن زليخة يروي قصة حبّ علاوة على كونه قصة تاريخية، هي قصة امرأتين جميلتين (إحداهما حقيقية والأخرى رمزية): “حسناء” ابنة رجل شريف من أصول بربرية يدعى “دا محند” و”المحروسة” والتّي ترمز إلى مدينة الجزائر العاصمة، المرأة الرّمزية والمشخّصة في مدينة القصبة الجزائرية.
المرأتان (حسناء والمحروسة) هما ينبوع حبّ عمّ فترة من تاريخ الجزائر، هو حبّ أهالي مدينة العاصمة للمدينة ونسائها، حبّ عميق لا يمكن وصفه، هو حبّ لا نهائي لحدّ أنّ سكانها سيهبون للدّفاع عنهما ولو على حساب أرواحهم.
هو حبّ “حسناء” كذلك للعاصمة ولاسيما مدينة القصبة القديمة، غير بعيد يمكن لها رؤية “قلعة بنو حمّاد”… “تلك المدينة المحصّنة، يقولون أنّه تمّ بناءها منذ قرابة ثمانية قرون على يدّ حفيد مؤسس عاصمة الجزائر، ربّما كان هذا علامة من القدر، فحماد ابن بولوغين يكون قد التحق بالشّجرة المباركة لسلالة جدّه الدزيري في مقاومة الأخطار التّي كانت تهدّد المدينة الأمّ”.
قلب “حسناء” كان يخفق كذلك لشابّ وسيم أسمر اسمه “مراد”، حبّها له كان يحتويها بكامله.
“ما أعظم ذلك الرّجل مراد! كان تجتمع فيه الشّجاعة والذّكاء، كان يعدل بين القلب والعقل، كان يظهر في الآن نفسه الإيمان العميق والرّغبة الجسدية، كان تجتمع فيه القوّة والحنان. كان رجلها، وكانت امرأته. كان يطلق عليها اسم “فاطمة” وكانت هي تناديه باسم “الحبيب”. الاثنان كانا شغوفين بشعر الحبيب بن قنون، ذلك شاعر الحبّ العظيم، المنحدر من مدينة معسكر، لقد كرّس حياته كلّها في نظم أشعار لمحبوبته “فاطمة”. “حسناء” ترتسم على وجهها الابتسامة عندما تتذكّر أوّل قصيدة كتبها لها خطيبها “مراد”، هي تحتفظ بها مع مجوهرات المرجان الأحمر التّي أرسلها إليها من مدينة القالة”.
والدها “دا محند”، كان رجل وقور، يحترمه الجميع وكان محبوبًا من قبل الدّاي حسين والباي أحمد، سكان مدينة القصبة كانوا يحبّونه لأنّه كان يلجأ دائمًا إلى حسم الخلاف بينهم بطرق سلمية دون اللّجوء و”المرمطة” أمام العدالة التّركية آنذاك. “دا محند” كان يحبّ كثيرًا وحيدته “حسناء”، لكنّ في الوقت نفسه كانت تختلجه مشاعر من الخوف والقلق ولو أنّ وحيدته كانت مخطوبة للشّاب “مراد”. ربّما هذه المخاوف يكون مردّها التّهديد الفرنسي للهجوم على أرض الجزائر وربّما لهذا السّبب كان قلقًا، إنّه يشعر بنوع من الضّيق وعدم اليقين… شعور بنهاية فترة…
“لقد كانت نهاية فترة من فترات التّاريخ الجزائري، إنّها نهاية كان ينتظرها الكلّ أن تكون عنيفة، وهم على ذلك في أمل أن يتفادوا ذلك العنف، والحفاظ على عادات يومية آلفوها، الحفاظ على حاضر وتأمين مستقبل. في جميع أنحاء العاصمة، لم يكن يشغل سكانها إلاّ الحديث عن الحرب. لقد شعروا بدنوّها وكأنّها تطفوا من بعيد على المياه، هل تكون نهاية هذه الحرب المحتملة على واجهة صخور البحر أم أنّها ستجرف معها الأمواج وتخربّ معها كلّ شيء يعترض طريقها؟ لا أحد يعرف ماذا ستجلبه هذه الحرب، وحده العالي القادر هو علاّم الغيوب”.
لكنّ قلب الأبّ نادرًا ما يخطئ فقد صدق أن تقدّم رجل فاحش الثّراء يدعى “سي عمّار” وطلب من “دا محند” يدّ ابنته “حسناء” وهو يعلم جيدًا أنّها مخطوبة لغيره وعرض عليه أن يشاركه في أعماله المالية إن قبل أن يزوجّه ابنته، غير أنّ “دا محند” الذّي وجد في تصرّف ضيفه مخلاً للآداب العامة غضب ورفض طلبه قائلاً: “لقد قلت لك أنّك أخطأت في العنوان عندما جئت إلى هنا، كما أنّك تتجرأ على طلب يدّ امرأة مخطوبة لغيرك وزيادة على ذلك تقايض ابنتي بأعمالك التّجارية، من قال لك أنّني أريد هذه الصّفقة التّي تعرضها عليّ؟ أنّا أرفض صفقتك وابنتي ليست للمغالاة”. عند سماع ردّ “دا محند”، امتقع وجه “سي عمّار” وأجابه مهدّدًا: “أظنّ أنّك أسأت فهمي، لذا سأعرض عليك صفقة أخرى، يا نسيبي المستقبلي، سأتزوج ابنتك… وإلاّ سأسلمك أنت وأصدقائك إلى الأتراك، وأنا أدرك تمامًا أنّهم سيجدون متعة كبيرة في تعذيبكم وتسميركم على الحيطان… فكّر في ابنتك… وإلاّ فلن يتزوجها أحد، إنّها في نظري ليست إلاّ أنثى مسكينة وسأجد لذّة في ذبحها كما تذبح الشّاة لكنّ قبل ذلك سأغتصبها أنا وعشرة من الرّجال السّود أيّها الشّيخ المخبول!”.
“حسناء” لم تكن تشكّ عمّا يدور من حولها، إلاّ أنّها في أحدّ اللّيالي وهي نائمة حلمت حلمًا أزعجها، لقد “رأت نفسها ماشية مساءً على طريق متعرّجة، عندما صادفها كلب كبير منقّط واعترض طريقها نابحًا ومكشرًا لها عن أنيابه”… فجأة، استيقظت “حسناء” من كابوسها، لقد أحست بنوع من الرّعب يحوم حولها… وقالت في نفسها، ربّما تكون مدينة العاصمة في خطر!
صحيح أنّ الوضعية كانت جدّية، ويبدو أنّ “الفرنسيين كانوا قريبين من الشّواطئ الجزائرية. الدّاي حسين كان قد أعلم وجهاء الدّولة الجزائرية بتعزيز جميع قواتهم، كما أنّ القوات الجهوية كانت في طريقها للاتحاق بالجيش في العاصمة، ويبدو أنّ المواجهة بين القوتين باتت حتمية”.
الباي أحمد قلق جدًا، يودّ أن يعارض استراتجية الدّاي حسين، بالنّسبة للبايّ يجب إبقاء أبواب مدينة الجزائر العاصمة مغلقة ومواجهة الأسطول الفرنسي على شواطئ البحر الأبيض المتوسّط، البايّ ينتابه شعور أنّ هذه المرّة تهديد الغرب هو من نوع آخر ولذا فهو يحاول ترسيخ صورة المحروسة التّي يعشقها في ذهنه.
نظرة البايّ أحمد كانت صحيحة، فقد جاء جنديّ ليخبره بتواجد: “ثلاثة أجنحة من فرق الجيش، أولاها كانت مخصّصة للحرب، أمّا الثّانية فكانت لتتوجّه نحو الشّواطئ الجزائرية والثّالثة أبقيت على حدا للاحتياط، هذا هو مجمل القوّات التّي كانت متواجدة على شاطئ سيدي فرج… تضايق البايّ لهذا الخبر وبدأ يسأل نفسه إن لم يكن الحلّ هو عصيان أوامر الدّاي حسين وقد تبيّن له الآن أنّ استراتجية الدّاي كانت خاطئة، ها هو الأسطول الفرنسي وقد جاء من الجهة الغربية للشّواطئ بينما كان الدّاي وزوج ابنته الآغا إبراهيم متؤكدين من وصول القوّات الفرنسية من الجهة الشّرقية للشّواطئ الجزائرية، حتّى أنّه تمّ تحويل مقرّ القوات الدّفاعية الجزائرية نحو برج الحراش”.
مع هذا التّخطيط الفاشل، يبدو جليّا أنّه سيتحتّم على جميع أهالي مدينة الجزائر العاصمة الانضمام إلى الجيش الانكشاري والدّفاع بالنّفس والنّفيس على العاصمة. وقد قرّر “مراد”، خطيب “حسناء” الانضمام إلى صفوف المدّافعين عن العاصمة، إنّه يدرك تماما وقلبه يتقطّر مرارة بأنّه مجبر على ترك “حسناء” وربّما “سيقضي حتفه خلال دفاعه عن المدينة، ولن يراها مرة ثانية، من يدري، فالأعمار بيدي الله، ليس له حلّ آخر، يجب أن يقوم بواجبه الوطني، ماذا لو تهرّب كلّ واحد منّا وترك العاصمة دون دفاع؟ من يمنع حينها المحتلّ الاعتداء على أيّ “حسناء” في بلد يكون فيها الآلاف من أمثال “مراد” تخلوا عنها؟ حينها يكون حاله مثل حال آخر أمراء غرناطة “أبو عبد الله” يبكي كالنّساء ما لم يستطع الدّفاع عنه كالرّجال”.
مدينة الجزائر العاصمة مهدّدة بالخراب من قبل الفرنسيين…
“حسناء” مهدّدة (دون علمها) بالمخطّطات الجهنمية لـ”سي عمّار”…
الصّراخ بدأ يتعالى من كلّ وجهة…
“سي عمّار” تمكّن من التسلّل إلى باحة دار “حسناء” عبر ممرّ سريّ…
الفرنسيون نزلوا على شواطئ سيدي فرج…
الجزائر العاصمة في خطر!
“حسناء” في خطر!
تاريخ اليوم هو 14 من شهر جوان من عام 1830، إنّها ليست إلاّ بداية صراع طويل سوف يدوم 132 سنة!