اسطنبول جسر بين الحضارات: الماء والخضرة وعبق التاريخ
ليست اسطنبول مجرد مدينة ذات ميزة جغرافية بموقعها بين الشرق والغرب وكونها جسراً بين قارتي آسيا وأوروبا فقط، أو وقوعها على طول الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور، المعروف باسم “تراقيا”، والجانب الآسيوي “الأناضول”، بل هي مدينة عريقة تحكي قصص أجيال مرّت عليها وحقبات سياسية وعسكرية وثقافية متباينة عبر التاريخ قبل أن تصبح في أيدي الأتراك العثمانيين.
صحيح أن المدينة التي كانت تسمى بالقسطنطينية، هي الوحيدة التي تقع على قارتين، وهي ثاني أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان (14 مليون) ويزورها يومياً 3 مليون سائح، بيد أن أهميتها التاريخية هي في هذا الكم الهائل من الآثار والمعالم التي تدل على قيمتها الحضارية وأهميتها الجيوستراتجية في ميزان الدول.
حديقة العشاق
يكتشف زائر هذه المدينة العريقة في كل مرة قصة جديدة ومعلماً جديداً وأهمية ثقافية أو فنية مميزة، كما يمكن رصد أهميتها السياسية ودور سكانها في التظاهرات والاحتجاجات، خصوصاً في ساحة تقسيم التي لا تزال تشهد على تحركات الصيف الماضي ضد حكومة رجب طيب أردوغان، وسياستها في تحويل حديقة “غيزي” الى مشروع عقاري.
من المهم للسائح معرفة أن اسطنبول أو اسلامبول أو القسطنطينية، وقبل أن يدخلها العثمانيون بقيادة السلطان الشاب محمد الثاني، الذي عُرف لاحقًا باسم “محمد الفاتح”، في 29 أيار سنة 1453، كانت عاصمةً لعدد من الدول والإمبراطوريات بدءاً بالإمبراطورية الرومانية، ومن ثم الإمبراطورية البيزنطية وصولاً الى الدولة العثمانية (1453–1922).
حين سيطر عليها العثمانيون قُتل أخر أباطرة الروم قسطنطين الحادي عشر، وبعدها نقل السلطان محمد الفاتح عاصمة الدولة العثمانية من أدرنة إلى القسطنطينية، التي غيّر اسمها إلى “إسلامبول”.
خلال رحلتك في الطائرة وقبل ان تحط في مطار أتاتورك ، تقلّب أفكارك في ما يمكن زيارته في اسطنبول من معالم وأماكن، تتزاحم الأفكار في رأسك لدرجة الحيرة والتيه، إذ أن زائر اسطنبول حتى ولو كان يصلها للمرة الثانية أو الثالثة، لا بد أن يفكّر في زيارة متحف أيا صوفيا، الذي يجد فيه ابداع الفن المسيحي البيزنطي والإسلامي العثماني. كذلك جزر الأميرات، وخصوصاً “بيوك أضا” أي الجزيرة الكبرى.
طعم الحريّة
في هذه الجزيرة يتنسم السائح طعم الحرية في طرقات لا يوجد بها سيارات، فيستمتع برحلة على دراجة هوائية يجوب خلالها الجزيرة التي يقدر محيطها بخمسة كيلومترات، أو قد يختار “الحنطور” الذي يجره حصان. وقد يفضل بعضهم المشي، للاستمتاع بهواء بحري عليل ومناظر خلابة تجمع الماء والخضرة ووجوه حسنة في توليفة متناسقة.
في اسطنبول يُثار فضولك لمعرفة الكثير عن تاريخ المدينة، ومعالمها ومراكزها السياحية والاقتصادية ومأكولاتها المتنوعة الشهية. وأكثر من ذلك عمّا تجمعه من ثقافات تركية وأرمنية وكردية وعربية وأوروبية. تخالها مدينة معولمة، بل هي كذلك، إذ سرعان ما تكتشف تنوع الفنون في شارع الاستقلال بالقرب من ميدان تقسيم؛ عازفون ومطربون ورسامون من كافة أنحاء تركيا وخارجها.
وفي حديقة “غيزي” أو “جنينة العشاق” كما وصفها لاجيء سوري يبيع الكعك في ساحة تقسيم، تجتمع الثقافة وجمال الطبيعة مع الحيوية السياسية وقوة الاحتجاج على قرارات مجحفة بحق المدينة أو تسعى الى تغيير صورتها وهويتها.
عروش السلاطين
وتقع المعالم السياحية التاريخية بمعظمها في الجزء الأوروبي في المدينة، حيث يمكن الزائر أن يشاهد عظمة قصر “توبكابي” أو “الباب العالي” بالقرب من “آيا صوفيا” والمسجد الأزرق. هذا القصر كان مركزاً للحكم العثماني لحوالي 400 سنة. أما حالياً فتم تحويل القصر إلى متحف يحتضن مجموعة كبيرة من الخزف والأسلحة وصور السلاطين العثمانيين والمخطوطات والمجوهرات والكنوز بالإضافة إلى عروش السلاطين.
وليس ببعيد عنه يقع قصر السلاطين أو “دولمابهتشي” الواقع على البوسفور، انتقلت ادارة الحكم العثماني ومركزها من “توبكابي” الي قصر السلاطين في عام 1865 واستمر هذا الأمر حتى سقوط الدولة العثمانية في 1922.
يُعتبر الجامع الأزرق أو جامع السلطان أحمد من أبرز معالم اسطنبول السياحية. ويرجع تاريخ بنائه الى العام 1916 بأمر من السلطان أحمد الأول الذي تم دفنه بداخلة بعد مماته.
هو من المساجد المميزة في هندسته المعمارية ونقوشه وآياته المخطوطة بجمالية عالية، إضافة الى طريقة استخدام الإنارة في الليل. ويعد واحداً من أضخم مساجد تركيا والعالم الإسلامي ويقع في مقابل متحف ايا صوفيا الشهير.
ليال الأنس
وفي أسفل شارع الاستقلال المتفرع من ميدان تقسيم، ينتصب برج غلاطة التاريخي الذي يُعتبر من أقدم آثار اسطنبول، وهو مكون من تسع طوابق على ارتفاع 66,90 متراً. أكثر ما يجذبك في هذا البرج اضاءته التي تجعل مسير الليل مؤنساً في تلك الشوارع العابقة بروح التاريخ وأهمية الحاضر السياحي، حيث تلتقي بكافة جنسيات العالم الذين يزورون شارع الاستقلال. وقد استخدم العثمانيون البرج لمراقبة المدينة عن كثب.
ولعل أهمية شارع الاستقلال هو هذا الكم الهائل من المتاجر التي تبيع البضاعة التركية والعالمية، والباعة المتجولون الذي يقدمون للسائح أنواعاً من المأكولات البحرية (المحار) والكستناء المشوية وعرانيس الذرة والكعك التركي المالح وبالجبنة والحلو الذي يأكلونه مع الشاي التركي المُخمّر.
وفي هذا الشارع أيضاً، متاجر لبيع تذكارات تركية خالصة مثل خرزة العين وعلاقات المفاتيح والحقائب وكل ما يمكن أن يذكّرك باسطنبول ورحلتك الجميلة اليها. لدرجة أن هذا الشارع يجتذب حوالي 3 مليون شخص في اليوم الواحد.
وثمة مكان آخر قد يكون أكثر رخصاً هو البازار الكبير الذي يعود إنشاءه إلى العام 1461 ويحتوي علي أكثر من 3 آلاف محل مغطاة بسقف يزدان من الداخل بنقوش فنية ورسمات جميلة. ويُعرف بأنة اكبر سوق مغطى في العالم.
وقبل أن تغادر المدينة لا بد أن تختبر رحلة مائية في البوسفور على ظهر مركب يأخذك في جولة ترى من خلال كل قصور السلاطين على المضيق الذي يفصل الأناضول عن الجزء الأوروبي. وقد تكون الرحلة بين أوروبا وآسيا بواسطة مترو مرمرة أيضاً خاتمة جميلة لرحلة حافلة بالمعرفة والمتعة.