أبو بكر البغدادي أو بن لادن الجديد (تحقيق)
منذ هجمات أيلول على نيويورك والعالم وخصوصاً الغرب «مهووس» بتنظيم القاعدة وبزعيمه بن لادن قبل أن يقتل في هجوم كوماندوس أميركي ويحل محله الطبيب الظواهري. الظواهري ما زال حياً يظهر من حين لآخر ليوجه رسائل سياسية عبر مواقع إسلامية ويهدد ويتوعد عرباً وعجما بالويل والثبور. إلا أن الذي هو محل «هوس» الغرب اليوم هو “أبو بكر البغدادي” الزعيم الجديد الذي يخيف القريب والبعيد.
لا توجد سوى صورتان اثنتان له، إنّها صور غير نقية وعلى حجم الصّور الخاصة ببطاقات التعريف، ويبدو “أبو بكر البغدادي” على الصّورة التّي نشرها “مكتب التحقيقات الفيديرالي” (الإيف بي آي) بخدود موردة مع اللّحية؛ أمّا الصّورة التّي نشرتها وزارة الدّاخلية العراقية فيبدو عليها أصلع الرّأس قليلاً تعلو وجهه لحية وشارب ظاهران. في الواقع لا أحد يعلم كيف يبدو حاليًا “أبو بكر البغدادي”، وهو ليوم القائد المعترف به والمرهوب للدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). ومع هذا لم يتسن لأيّ زعيم جهادي قبله أن يأتمر على هذا العدد الكبير من الجهاديين ويسيطر على مناطق وأقاليم شاسعة ويضع يده على موارد مالية هائلة. حتّى “بن لادن” في قمة سطوته وفي أوج مرحلة جهاده في أفغانستان وقبل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 لم يكن يملك مثل هذه القوة والنّفوذ.
ويعتبر “أبو بكر البغدادي” «جهادي الظلّ»، إلا أنّ رجاله يعصفون بالمنطقة على أبواب مدينة “بغداد” عاصمة العباسيين وعلى ضواحي “دمشق” عاصمة الأمويين وعلى الحدود الأردنية حيث مملكة الهاشميين والحدود التّركية حدود ما كان في الغابر السلطنة العثمانية. لا أحد يمكنه القول إنّه صادفه والتقى به. ولا حتّى الرّهائن من الغربيين الذّين تمّ احتجازهم في سوريا من قبل رجاله والذّين كان لهم الحظّ في الفرار من قبضتهم ومن ذاك الجحيم يمكنهم الحديث عنه. كما أنّ اسمه القتالي الذّي يحمله يعتبر من الخدع الحربية، فـ”أبو بكر” هو دلالة على الخليفة الثّاني الذّي جاء بعد “محمد” رسول الله، أما كلمة “البغدادي” فهي تعود لمدينة “بغداد” العراقية.
وعلى عكس “بن لادن” الذّي كان يظهر في أشرطة الدّعاية كنجم عالمي، يبدو أنّ “البغدادي” يفرّ من الصورة. كما أنّ “أيمن الظواهري”، الطّبيب المصري وهو خليفة “بن لادن” الذّي قُتل في شهر ماي/آيار 2011، فهو يحب إلقاء خطب لساعات ويظهر فيها في فيديوهات نُشرت وتنشر على شبكة الإنترنت، أمّا “البغدادي” فلا يحذو حذوه، ولا يتكلم، أو بالكاد، فكلّ ما أرسله هو بضعة تسجيلات صوتية دون أي إمكانية للتّحقق إن كانت له أم لا. وبالتّالي يكون صمته وغيابه يضفيان على شخصيته الأسطورية فأفعاله تتحدث عنه، وقسوة أعماله تستبدل خطاباته وهو بهذه الصّفة يكون قد حبك لنفسه أسطورة تزعزع كيان القواعد الجهادية الممتدة من اندونيسيا إلى موريتانيا مرورًا بالضّواحي الأوروبية.
كلّ المعلومات التّي وصلتنا عن “أبي بكر البغدادي” تقول بأنّ مسقط رأسه هو مقاطعة “ديالا” المتواجدة شرق العراق حيث يتقاتل فيما بينهم الأكراد والشّيعة والسّنيون سواءً كان عن طريق الاغتيالات أو الهجمات الانتحارية الدّامية. كما نعلم أنّ عائلة “البغدادي” منحدرة من عشيرة “سامراء” العراقية وكثيرًا ما يروق له أن يربط جذوره وأصوله بحفيد الرّسول “محمد” (صلى الله عليه وسلم) آل “الحسين”، وزيادة على ذلك، فإنّ “البغدادي” درس في الجامعة الإسلامية ببغداد وليس له أيّ ماض أو تجربة في الجيش العسكري، وكان عهده الأوّل بالأسلحة وبالجهاد بعد غزو الأمريكان للعراق بحيث كان ينتمي إلى أحد المجموعات الصغيرة المنتفضة والتّي انتشر عددها فيما بعد.
وجاء في تحقيق نشرته صحيفة «لوموند» الفرنسية بأن “أبو بكر البغدادي” أصبح يقود عشرات الآلاف من المقاتلين في العراق وأكثر من 7000 إلى 8000 مقاتل في سوريا. وتسيطر هذه المليشيات الحربية على جزء من مقاطعة “الأنبار” (مدينة “الفلوجة” وجزء من مدينة “الرمادي”) في العراق وهم يصلون إلى حدّ أبواب مدينة “بغداد”، ويقومون بإرهاب مناطق كـالموصل ومحافظة “صلاح الدّين” (“تكريت” و”سمراء”). وفي سوريا، يسّيطرون على مدن “دير الزّور” و”الرّقة” واستغلال آبار البترول قرب “حستشيه” وهم ناشطون في مناطق “اللّاذقية” وبعض أجزاء من “حلب” و”إدلب” و”حماة” وحتّى ريف مدينة “دمشق”.
ويتهافت المتطوّعون من كلّ أرجاء البقاع الإسلامية نحو بلاد “الشّام” وهي التّسمية الإسلامية لسوريا. وأولئك المتطوّعون يأتون من أوروبا وآسيا الوسطى وأستراليا والقوقاز والمغرب والخليج للانضمام للجهاد الأكبر والذّي لم تعرفه قبل الأراضي السورية.
العلم هو ذاته: أسود بنفس الإيحاء الإيماني. والخطاب والهدف نفسهما والمتمثلان في: تأسيس دولة إسلامية طاهرة وتطبيق الشّريعة وقبول قواعدها الأكثر صرامة ومع هذا فإنّ هذا التّنظيم هو قتال حتّى الموت نشب في قلب تنظيم القاعدة الغامض تسييرها، وهو غالبًا ما يطلق عليه اسم “إزيس” بالإنجليزية أو “داعش” بالعربية وهو أكبر تهديد لتنظيم القاعدة منذ تأسيسها في المناطق القبلية الباكستانية سنة 1988 من طرف “أسامة بن لادن”، والذّي يعدّ كعدو داخلي.
وبدأت الأعمال العدائية نهاية شهر ماس/آذار 2013 عندما أعلنت الدّولة الإسلامية في العراق انخراطها في “جبهة النّصرة” التّي يتولاها “أبو محمد الجولاني” وهي فرع سوري للتّنظيم. والرّوابط عديدة وقديمة تحبكها عشرية من الجهاد في العراق. إلاّ أنّها في حقيقة الأمر “منظمة سياسية مسلّحة” وعدائية. ولم تتخذ المنظمة السّورية كثيرًا من الوقت لرفض الولاء لتنظيم القاعدة بطريقة مهذّبة ولكن بصفة حاسمة، فلكلّ واحد بلده، ولكلّ واحد جهاده.
وفي ملجئه الباكستاني حيث يمضي معظم أوقاته في الفرار من ضربات الطّائرات الأمريكية، نجد “أيمن الظواهري” مستوعبًا تمامًا هذا التّهديد، وهو يوافق “جبهة النّصرة”، لكن لا شيء يمكنه منع مسار “أبي بكر البغدادي”. ولـ”الظواهري” أسباب وجيهة للتّحذر فـ”أبو بكر البغدادي” لم يعلن ولاءه له وهذا بعد أشهر قلائل من وفاة “بن لادن”. فهناك نزاع قديم بين المفكّر المصري والقائد الشّاب العراقي، فـ”أبو بكر البغدادي” هو تلميذ “أبي مصعب الزّرقاوي”. هذا الأخير، هو من أصول أردنية، ولم يكن إلاّ إطارًا مهمّشًا في تنظيم القاعدة، وهذا يشكّل طعنًا آخر للتّنظيم. وكان قد اتخذ موطنًا له في منطقة كردستان العراقية منذ 2002، كما كان في طليعة الجهاد منذ الغزو الأمريكي للعراق. وكان أن تواجد لتوّه على رأس المحاربين ضدّ الأمريكان ولا يزال يرهب ذوات الأفراد خاصة بعدما قطع رأس المقاول الأمريكي “نيكولاس برغ” في شهر ماي/آيار 2004. الميزة التّالية لـ”الزرقاوي” تتمثل في المجازر التّي ارتكبت في حقّ الشّيعة حيث تمّ إبادتهم عن طريق عمليات انتحارية متداولة وهذا ما جعل صيته يذيع في المملكة العربية السّعودية حيث يعدّ المذهب الشّيعي بدعة. إلاّ أنّ قائد أركان تنظيم القاعدة، ولاسيما “الظّواهري” يعترض هذه الإستراتيجية التّي بإمكانها قلب الجهاد العام ليصبح فتنة بين المسلمين، فـ”الظّواهري” أمر “الزّرقاوي” بوضع حدّ للاعتداءات ضدّ الشّيعة، لكن هذا لم يجد نفعًا، إذ قامت القوات الجوية الأمريكية بقتل المتمرد في جوان 2006 في منطقة “ديالا” وهي مسقط رأس “البغدادي”.
وتولى “أبو حمزة المهاجر” (واسمه الحقيقي هو “يوسف الدرديري”) تنظيم القاعدة في بلاد ما بين الرّافدين، وهو “مفوّض سياسي” مصري أرسله “الظّواهري” وشارك في أعمال أمير الجماعة الإسلامية العراقية. وتكون هذه المنظمة التّي اتحدت مع العديد من الفصائل الأخرى، أصبح يطلق عليها اسم “الدّولة الإسلامية في العراق”.
وهذه المنظمة لها طموحات فالمشروع الجهادي في العراق يبدو أنّه تمّ القضاء عليه منذ 2006 كما يقوم الجيش الأمريكي بتجنيد القبائل العربية السّنية التّي تذمرت من حكم وتجاوزات القاعدة. في 2010، تمّ القضاء على “أبي حمزة” وكذا الأمير العراقي، وكان لـ”أبي بكر البغدادي” أن تولى زمام المنظمة التّي ضعفت إلاّ أنّها بقيت موحّدة وقوية.
وتوجد بين “الظواهري” والبغدادي” هوة تتمثل في انتماء الأجيال: فالأوّل عرف الجهاد في أفغانستان، أمّا الثّاني فقد تدرب خلال الجهاد في العراق. فالمصري يعد رجلاً نظريًا له وقع كبير على الثّورات العربية وتاريخ الإخوان المسلمين في مصر؛ أمّا العراقي فهو يمارس العنف ويشيد به عند تجنيد الآخرين. فمعه، أصبحت العراق مدرسة يمتهن فيها الشّباب المناضلون الآتون من كلّ حدب وصوب، العنف الشّديد.
وعليه تكون مواقف كلّ زعيم تمليها عليه وضعيته، فـ”الظواهري” تجللّه اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001، لكنّه يتعذّر عليه العيش آمنًا خارج العالم العربي وهو يبهر الجماهير المسلمة عن طريق نظرياته في الجهاد على مدى بعيد (ضدّ العدوّ الغربي)؛ أمّا “البغدادي” فكانت له تجربة في إمارة “الفلوجة” عندما تمّ الاستيلاء على المدينة من قبل المتمردين وسقوطها على يد الجيش الأمريكي. وهو يعطي الأولوية للجهاد على مدى قريب ضدّ الأعداء مباشرة، بدءً بالمسلمين المعارضين لمشروعه المتمثل في تأسيس دولة إسلامية في قلب العالم العربي. وكان لموت “بن لادن” غضون “الرّبيع العربي” مصدر مناوشات لخلافته. فالقاعدة كأيّ تنظيم سياسي آخر تتواجد فيها خلافات في تزعم التّنظيم. وحتّى بعد انسحاب الملياردير السعودي “بن لادن” من العمليات الإرهابية، ظلّ يحتفظ برتبة قائد التنظيم بدون منازع. وعند وفاته، كشف الجندي الشاب عن طموحاته وأصبح “أبو بكر البغدادي” زعيم المنظمة الجهادية العراقية. ومنذ توليه رئاسة الدّولة الإسلامية في العراق سنة 2010 قام بتنظيم أكثر من 60 اعتداءً متواليًا أسفر عن سقوط أكثر من 110 قتيل في يوم واحد. وفي خريف العام ذاته، أمر بالاعتداء على الكاتدرائية في بغداد (راح فيها 46 شخصًا متديّنًا). الرّسالة كانت واضحة: القاعدة لم تنقرض من العراق، فالدّولة الإسلامية استلمت المشعل. وكان لخروج القوات الأمريكية من العراق في ديسمبر/كانون الأول 2011، وكذا في السّياسة الطائفية التّي تبناها الوزير الأول الشّيعي العراقي “نوري المالكي” ما زادا الطين بلة. فبإهانة وقمع السنيين يكون “المالكي” قد طعن الطائفة السّنية بأكملها ودفعها في أحضان المتطرفين. وفي ربيع عام 2011، قامت الثّورة في سوريا. وكانت مطالب الشّعب تتمثل في المزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية إلاّ أنّه كان لها وقع طائفي فالأغلبية السّنية ترفض حكم الأقلية العلوية، وهو فرع منشق من الشّيعة تنحدر منه عائلة “الأسد” وتهيمن على مناصب ذات مسؤولية لاسيما داخل الأجهزة الأمنية، وهذه التّشكيلة هي فرصة مواتية وتوافق تمامًا الخطاب ضدّ الشّيعة الذّي يتبناه “البغدادي”.
الغريب في الأمر هو أنّ النّظام السّوري الذّي يقوم بسجن وتعذيب المعارضين، يطلق سراح عدد من الإطارات الجهادية المحتجزة في السّجون. لكن لمَ يتمّ إطلاق سراح أولئك المتطرفين إذا كانوا سيحملون السّلاح ضدهم؟ السّبب في ذلك هو أنّ هذا يسمح في إدارة الأزمة الطائفية فتلتحم الأقليات فيما بينها ضدّ الأغلبية السّنية الأصولية، هذا من جهة،؛ من جهة أخرى فإنّ الأجهزة الأمنية في سوريا قامت في 2003 بتسيير الجهاديين والسّماح لهم بالتّسلل في الدّاخل أو الخارج وهي في طريقها إلى العراق، بالإضافة إلى هذا، فهي تعرف تمامًا هوية “زبائنها” عندما لا تتحكّم فيهم عن بعد، وتدرك جيدًا أنّ الهدف الأوّل لأولئك الجهاديين هو قيام خلافة إسلامية بحيث يتم تطبيق الشّريعة بحذافيرها عوض تأسيس دولة ديمقراطية في الشّرق الأدنى. وكان لهذه التّحركات عواقب، ففي شهر جانفي/يناير 2012، أعلنت “جبهة النّصرة” عن تشكيلها تحت لواء “أبي محمد الجولاني”، وهو سوري تدرّب في العراق. وأكسبته جرأته ونزاهته مكانة مرموقة والتّعاطف لدى الجماهير العامة. وهو لا يخفي تقربه من الدّولة الإسلامية إذ يعتبرونه طعمًا لهم. وكان ظهور الجماعة الإسلامية العراقية على المسرح السّياسي السّوري باسمها الخاص عام 2013.
وعلى عكس “جبهة النّصرة”، فـ”الدّولة الإسلامية في العراق والشّام” لا يبدو عليها البحث عن مجابهات مع الجيش السوري، بل تصبّ كلّ اهتمامها في السّيطرة على المناصب الحدودية من أجل وضع سيرورة إقليمية متواصلة مع العراق، والسطو على الأقاليم التّي حررها الآخرون. وفي مدينة “الرقة”، وهي أول عاصمة للإقليم التّي تحررت من النّظام، تقوم “الدولة الإسلامية في العراق والشّام” بإرهاب النّفوس إذ تتولى إعدام المحكومين عليهم من الجنود العلويين في السّاحات العمومية، وتستولي على مستودعات أسلحة المتمردين وتقتل إن اضطرت إلى ذلك قادتها دون تبني أفعالها وتستهدف مناطق تواجد البترول المصدر الأساسي لمعاملاتها المالية، وقنص الرهائن الغربية بطرق سرّية جدًا. وفي مارس/آذار 2013، كانت قد عزّزت مواقعها وأرست “المنظمة السّياسية المسلحة” ضدّ “جبهة النّصرة” وطالبت منها التنازل عن جميع السلطات.
و”أبو بكر البغدادي” مهووس بتجربته في العراق وببروز ميليشيا جماعة “الصحوة” (وهي جماعة سنية معادية لتنظيم القاعدة) وبالتّالي تكون المناطق الخاضعة لسيطرته مطهرة وممشوطة فهو يتخلّص من جميع معارضيه أو منافسيه المحتملين. وتكمن الغاية المنشودة لـ”داعش” في المتمردين اللائكيين والجماعات الإسلامية الأخرى. ويقول أحد الدبلوماسيين: «استراتيجية هذه الجماعة هي مماثلة لاستراتجية الستالنيين إبان حرب إسبانيا، إذ قاموا بالقضاء على خصومهم الفوضويين والتروستكيين بدلاً من محاربة “فرانكو”».
وفي الوقت ذاته، نجد جيش بشار الأسد لا يمس بالأذى “الدولة الإسلامية في العراق والشّام” كما يقوم مقربون من النّظام بشراء البترول من عند الجهاديين، فهل تكون “الدولة الإسلامية في العراق والشّام” صنيعة مصالح أجهزة أمن الأسد كما يدعي بذلك المعارضون اللائكيون؟ ويقول “دومينيك توماس” المتخصص في الحركات الجهادية وباحث مشارك في معهد الدّراسات العليا في العلوم الاجتماعية: «إذا أخذنا بهذا التفكير، نكون قد ذهبنا بعيدًا في حبك المؤامرات، فالجهاديون المطلق سراحهم اتجهوا في بداية الأمر نحو جماعات عدا الدولة الإسلامية. ومن ثمّ لا يمكن البحث عن أسباب مضادة ضمن سياق تمليه أوضاع حرب غامضة وكثيرة التحول».
تبقى العلاقات القديمة في تطوير فرضية تواطؤ بين دمشق والدولة الإسلامية، الأمر المتأكد منه هو أنّ: «المنظمة قامت بتجنيد واسع في صفوف البعثيين العراقيين من القدامى»، كما يشير إليه “دومينيك توماس”، إضافة إلى ذلك، أبقوا على روابط وطيدة مع دمشق.
وفي بداية 2013، تغيرت الأوضاع في العراق، إذ ساند الوزير الأول الشيعي “أنور المالكي” نظام “بشار الأسد” بحيث وجد نفسه أمام انتفاضة طائفة السنة في منطقة “الأنبار” التّي ساهم كثيرًا في تأسيسها مع قمع المجتمع الذّي سقط مع سقوط نظام “صدام حسين”. ويرى “البغدادي” فرصة لإقامة دولته وتثبيتها في كلى البلدين. ومع تواجده في الحدود، يبدو من الصعب الانقضاض عليه، فالبترول السوري وابتزاز المسؤولين العراقيين يشكلان له ضمانًا هامًا عدا المتاجرة بالتّحف الآثارية الآتية من المناطق السورية المتحررة. كما تعدّ الرهائن المحتجزة مصدرًا مربحًا وهو لا يتردد في إعدامهم ففي نهاية 2012 إلى غاية ربيع 2013، احتجزت “الدولة الإسلامية في العراق والشّام” ثلاثين رهينة غربية لاسيما الصحفيون والنّاشطون في الأعمال الإنسانية كأمثال “ديدييه فرانسوا” و”إدوارد إلياس” و”نيكولاس هنين” و”بيير توراس” خلال شهر جوان 2013. وتكمن استراتجيتهم في احتجاز أكبر عدد منهم، فالغرب بالنسبة لهم ليسوا إلاّ غنيمة حرب وسمة لقوتهم. وترى أجهزة الاستخبارات الغربية بوجوه واجمة قائمة الرهائن التّي تتزايد يومًا بعد يوم دون أن يتبعها تقديم دفع فدية. ما الغرض من كلّ هذا؟ هل يعتبرونهم كدروع بشرية أو كعملة تبادل؟ وذهب البعض في تخمينهم إلى أنّ مشروعهم يكمن في إحداث سجن شبيه بـ”غوانتنامو” أو سجن “أبو غريب” يكون مخصصًا للرهائن الغربية. ويمكن أن تكون الفكرة نالت إعجاب الكثير من المترشحين الأوروبيين للجهاد والذّين يتمّ استعمالهم كمعذبي مواطنيهم من البريطانيين والفرنسيين الذين قدموا “مساعدة صغيرة” في جهاد “البغدادي”.
وبدأت المفاوضات نهاية شتاء 2014، بحيث تمّ تدريجيًا إطلاق سراح 12 رهينة (ثلاثة من الإسبان، وأربعة فرنسيين، وخمسة ناشطين في المنظمات الإنسانية تابعين لمنظمة أطباء بلا حدود) مقابل فدية. وجميعهم يقرون بأصولية ورغبة الاعتراف بـ”داعش”: «نحن بمثابة دولة أليس كذلك؟ ألم تروا كيف أنّنا منظمون أحسن تنظيم!»، بهذه العبارات كان يردد عليهم سجناؤهم وهم فخورون باعترافات الغرب لهم لاسيما فرنسا، وهي عضو دائم في مجلس الأمن للأمم المتحدة.
ولإدراكها محيطها الجيوسياسي تقوم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بالهجوم على مليشيات أكراد سوريا الذّين سيطروا على منطقة كردستان السورية وبالتالي تحصلت على ضمانات من الحكومة التركية والتّي سمحت بعبور الأسلحة والجهاديين عند حدودها وهذا لغاية نهاية شتاء 2014. كما تقوم بتحسين صورتها على الشبكات الاجتماعية لتفرض نفسها كقوة جهادية حقيقية متهمة في الوقت ذاته تنظيم القاعدة بالتحالف مع الديمقراطيين. كما تقوم الجماعة بنشر تقرير سنوي مفصّل بشأن نشاطاتها العسكرية، خلال شهر ماي/آيار 2014 الماضي، ويتبين من خلالها هيكلة هرمية ومركزية للمعلومات، كما تفتخر بكونها سمحت لآلاف السجناء الجهاديين بالهروب خلال الاعتداء على ثمانية سجون في العراق قامت بها في عام واحد.
وفي نهاية 2013، عندما قررت الجماعات الجهادية أمثال المصريين من “أنصار بيت المقدس” أو “أنصار الشريعة” في تونس وليبيا التقرب من “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، قرر “أيمن الظواهري” إعلان الحرب على خصمه. فبالنسبة له، تعتبر “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ليست إلاّ مجموعة من المدانين السابقين يمارسون التكفير (والطرد) كما يحلو لهم ويخلقون الذعر في صفوف غير الإسلاميين بتطرفهم، بيد أنّ الثورات العربية أعطت الدّليل على أنّ الشعوب غير مستمالة للأصولية.
ودعم زعيم تنظيم القاعدة سرًا العدوان الذّي أطلقه الليبراليون من الجيش السوري نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول وكذا جماعات متمردة إسلامية أخرى ضدّ “الدّولة الإسلامية في العراق والشام”. أمّا “جبهة النصرة” التّي أوجدت نفسها في حالة ارتباك، تحدثت عن الهدنة والوساطة إلى حين اغتيال المبعوث الخاص لـ”الظواهري” من قبل “الدّولة الإسلامية في العراق والشّام”. وشنت حربًا في قلب تنظيم القاعدة، وانسحبت “الدّولة الإسلامية في العراق والشّام” من “حلب” إلاّ أنّها رسّخت مراكزها سريعًا بفضل تحالفاتها القبلية في “الرقة” و”دير الزور”. أمّا في العراق، فقامت حكومة “المالكي” بهجومات في “الفلوجة” دون أن تحرز نجاحًا يذكر، وعكسها كانت “الدّولة الإسلامية في العراق والشام” من قامت بتهديد الضّواحي في بغداد شهر أفريل/نيسان الماضي.
ويعتقد “جون بيير فيليو”، وهو أستاذ في العلوم السّياسية، نشر مذكرة لدى مؤسسة “كارنيجي” عنوانها: “انقرضت القاعدة لتعش القاعدة”، بأنّ “الدّولة الإسلامية في العراق والشام” ستعاود الهجوم آجلاً أم عاجلاً على الغرب. ويعرض مكتب التحقيقات الفديرالي “الأف بي آي” لحدّ السّاعة جائزة مقدارها 25 مليون دولار للقبض على “الظواهري” وعشرة ملايين للقبض على “البغدادي”، وسيبدو فيما بعد واضحًا لدى الأمريكان أنّ تنظيم القاعدة سيصبح فيما بعد “الدّولة الإسلامية في العراق والشّام”.