يحصل هذا الآن في الموصل (تحقيق)
وسط مشاعر الخوف والقلق، بات المشهد المسيطر على الموصل عبارة عن أضرحة مُهدّمة ومدينة تخلو من بعض أبنائها الذين فضّلوا الترحال على معاملتهم كأقليات أو أهل ذمة، بينما أُمرت النساء بالتزام المنازل وعدم الخروج إلا برفقة محرم. هذا هو المشهد بعد مرور اسبوعين على سيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”- “داعش” على ثاني أكبر مدينة في العراق.
بعدما رحّب السكان بخروج جنود الجيش والشرطة الحكومية من المدينة يتساءلون الآن عما ستكون عليه الحياة في ظل حكم التنظيم الإسلامي المتشدد الذي خرج من عباءة “تنظيم القاعدة”.
يقول طالب الهندسة في الموصل أحمد خليل، إنه كان يشعر بأن حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، أشبه بقوة احتلال ويسعده رحيلها. لكن هيمنة “تنظيم الدولة الإسلامية” أدخل في نفسه قدراً من الخوف، يعبّر عنه بالقول، إن “الانطباع الأول كان أشبه بفتح أبواب السجن، حيث بدأنا نتذوق طعم الحرية… ولكن بعد انتشار جماعات مسلحة كثيرة جداً، من بينها (القاعدة)، بدأت أشعر بالقلق مما هو أتٍ”.
الخوف ذاته يعبّر عنه أكثر من 12 شخص من أبناء الموصل أجريت معهم لقاءات، وإن كان معظمهم رأى أن “داعش” لم يبدِ نفس التشدد الذي أبداه في سوريا، فلا يزال الرجال يدخنون في الشوارع والنساء يقدن سيارات، وما من أحد يمكنه تأكيد حدوث إعدامات بحد بالسيف أو جلد أحد. لكن يظل هناك الكثير الذي ينبيء بمستقبل مختلف. فبعد سقوط الموصل أصدر التنظيم (ميثاق المدينة) الذي لخّص فيه رؤيته متمثلة في حظر التدخين والمخدرات والكحوليات وهدم الأضرحة (التي يرى فيها التنظيم نوعاً من الشرك بالله) وارتداء النساء ملابس محتشمة والتزامهن المنازل.
وبدأ تنفيذ بنود هذه “الوثيقة” الأسبوع الماضي، حين حطم المتشددون تماثيل للشاعر العباسي أبي تمام وللموسيقي والملحن عثمان الموصلي، الذي عاش في القرن التاسع عشر. كما نبشوا قبر الفيلسوف العربي ابن الأثير، الذي عاش في القرن الثاني عشر، ودمروا القبة المقامة فوق الضريح مع الحديقة المحيطة به.
اما في مناطق من سوريا، حيث يسيطرون على مساحات واسعة من الأراضي، فقد فرضوا رؤيتهم المتشددة للإسلام وقطعوا رؤوساً وأيادي.
وفي استعراض ضخم للقوة، سار آلاف من مقاتلي التنظيم في وسط الموصل في ساعة متأخرة من يوم الإثنين الماضي، رافعين بنادقهم ومستعرضين مدافعهم المضادة للطائرات ومنصات إطلاق القذائف الصاروخية.
ووسط الأسر التي اجتمعت للمشاهدة ومع وقوف المقاتلين لالتقاط صور لهم مع الأطفال، هتف الرجال “الدولة الإسلامية باقية”. وقال مقاتل ذكر أنه سوري وأن عمره حوالي 17 عاماً: “نحن هنا لطمأنة أهل الموصل بأننا هنا… وفي كامل قوتنا”. وتابع: “من هنا سننطلق إلى بغداد، ومن هناك إلى دمشق”.
وبدأ حكم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” يُحدِث بالفعل اضطراباً في الحياة التجارية في الموصل، حتى وإن كان على نحو خفيف ومحدود. ويقول بائع سجائر طلب عدم ذكر اسمه، إن أربعة رجال جاؤوه وطلبوا منه بصرامة، و”إن كان بأدب”، أن يفرغ من بيع ما لديه من سجائر وأن يتوقف بعدها عن هذه التجارة. يضيف أن هذا الطلب جعله يكتئب “لأني لا أعرف ماذا سأعمل بعد ذلك”.
الشيء نفسه ذكره صاحب محل للملابس النسائية الداخلية، قائلاً إن رجالاً طلبوا منه التوقف عن تجارته وتركها للنساء. وفي متجر آخر للملابس غطى مالكه جميع رؤوس تماثيل العرض بعدما حذّره رجال من تركها بلا غطاء.
ويخشى كثيرون تكرار ما حدث في مدينة الرقة السورية، التي كانت أول مدينة رئيسية تسقط في أيدي مقاتلي “داعش” خلال الصراع السوري الذي تفجّر منذ أكثر من ثلاث سنوات.
ففي غضون عام واحد كان التنظيم قد أخرج مقاتلي الفصائل المنافسة من المدينة، وسرعان ما أصبحت مقراً لحكمه الصارم الذي نفر منه بعض السكان.
ويقول أحمد السفار (22 عاماً)، الذي يملك متجراً لبيع أجهزة الكمبيوتر، إنه يرى أن بعض الخطوات التي أقدم عليها مقاتلو “الدولة الإسلامية” في الموصل إيجابية حتى الآن، مثل حظر التدخين ومنع عرض ملابس النساء الداخلية في واجهات المتاجر، لكنه متألم لهدم أضرحة كما أن ما حدث في سوريا يثير قلقه. ويضيف السفّار: “نحن متخوفون بالقطع. المستقبل مظلم ومجهول”.
وكما هي الحال في سوريا، هناك بالفعل احتكاك بين “الدولة الإسلامية” وجماعات أخرى في تحالف الميليشيات السنية. ففي الحويجة القريبة من كركوك والواقعة على بعد 170 كيلومتراً شمالي بغداد، اشتبك مقاتلو التنظيم مع “جيش الطريقة النقشبندية” الذي يضم ضباطاً سابقين في الجيش العراقي وموالين لـ “حزب البعث” الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل صدام حسين.
لقد صوّر “داعش” نفسه على أنه المحرِّر والمخلّص، خلال حملته التي استمرت أسبوعين، وأحدثت صدمة بين المسؤولين العراقيين والغربيين حين انتزع التنظيم السيطرة على مدن على نحو هدد بانهيار العراق. ونشر المؤيدون تسجيلات مصورة وصوراً على الإنترنت لحشود ترحب بالمقاتلين وتدلل على أن الحياة في الموصل مستمرة بشكل طبيعي بعد سقوط المدينة.
لكن في حين يحظى التنظيم بتأييد بعض المتعاطفين مع هدف استعادة الخلافة الإسلامية أو الكارهين لحكومة المالكي، فقد أثار الخوف في نفوس الأقليات. فكل مسيحيي الموصل تقريباً فرّوا منها وكذلك مجموعات أصغر مثل الشيعة الشبك واليزيديين. ويغادرها آخرون خوفاً من أن يقصف الجيش العراقي المدينة في محاولة لاستعادتها.
الأب بولس متى أفريم، رئيس الكنيسة الأرثوذوكسية في بعشيقة التي تقع على بعد حوالي عشرة كيلومترات إلى الشرق من الموصل، يتحدث عن وصول عشر أسر مسيحية إلى البلدة أتية من الموصل بعد سقوطها في 10 حزيران. أما الآن فقد زاد العدد إلى 44 أسرة.
ويقول أفريم: “عن نفسي أنا.. لست خائفاً… لكن أبناء هذه البلدة مرعوبون بالطبع من الدولة الإسلامية في العراق والشام”، بينما يرى غسان سالم إيلياس (40 عاماً)، وهو يزيدي يدير ملجأ للفارين من المدينة من كل الطوائف، أن المستقبل سيكون “كارثيا” للمسيحيين تحت حكم “الدولة الإسلامية” حتى وإن كانت التقارير الإعلامية قد بالغت في تصوير تصرفات مسلحيها. يضيف الياس: “ينتظر كثيرون تسلم جوازات السفر حتى يمكنهم مغادرة العراق”.
ولم يبذل التنظيم جهوداً تذكر لطمأنة هذه المجموعات، بينما يصف بعض المقاتلين صراحة كراهيتهم للشيعة بتعبيرات قوية. ويقول عباس فاضل حامد (41 عاماً)، إن مقاتلي “داعش” أوقفوه هو وأسرته عند نقطة تفتيش الإثنين الماضي وأبلغوه بأن الأسرة لابد وأن تغادر بلدة شمسيات القريبة من الموصل لأن زوجته شيعية على الرغم انه من الطائفة السنية.
ويضيف أنه “في البداية حين جاء “داعش” بدا أنه ستكون هناك حالة عفو. لكن التنظيم دفع كل الشيعة الى الرحيل”.
حامد، الذي أجلس 13 طفلاً في مؤخرة شاحنته التي امتلأت بالأغطية واسطوانات الغاز كما كان عليها كرسي متحرك، يشير إلى أن “أكثر من 200 أسرة رحلت. هذا هو نصف عدد الأسر في شمسيات”.
(رويترز)