«الدروب إلى دمشق»:ضوء على علاقة الأجهزة الفرنسية والسورية
«الدروب إلى دمشق، الملف الأسود للعلاقة بين فرنسا وسوريا» كتاب جديد لكريستيان شينو وجورج مالبرونو يفضح كواليس تعامل الأجهزة السورية والفرنسية في ظل ديبلوماسية فاشلة. يأتي الكتاب الجديد بعد سنة ونيف من صدور كتاب «قطر: أسرار الخزينة» الذي شكل يومها «خبطة إعلامية» بسبب الدور الذي كانت تلعبه قطر على الساحة الفرنسية وتأثيرها على ديبلوماسية فرنسا المشرقية.
أما اليوم فإن كتاب «الدروب إلى دمشق» يبدو (لمن قرأه أو سيقرأ) من المتابعين بعيداً جداص عن «الخبطة الإعلامية» فهو كتاب موجه للرأي العام الفرنسي الذي «فاتته المتابعة اليومية» لأحداث هذا الشرق المعقد منذ أربعة عقود وهي مرحلة العلاقات الفرنسية السورية التي أراد الكاتبان تغطيتها.
وقد كتب المقدمة الجنرال فيليب روندو رئيس المخابرات الخارجية المتقاعد والذي اشتهر إعلامياً لـ«إحضاره كارلوس» مقيد اليدين بعد أن تخلت عنه الخرطوم. ولكن من المقدمة إلى الخاتمة يبدو هذا الكتاب وكأنه كتاب تصفية حسابات بين أجهزة المخابرات والكي دورسيه (وزارة الخارجية الفرنسية) من جهة وإعادة تأهيل لـ«بعض المصادر» أو الأصدقاء.
بادئ ذو بدء تم بناء الكتاب على أساس مجموعة مقابلات «صحفية»، إلا أن التنوع والتناقضات التي شابت تلك المقابلات والتضارب في التواريخ المزروعة في صفحات الكتاب. كما أن كاتبين أعطيا أهمية كبرى لما نسب إلى الأجهزة الفرنسية والسورية على السواء ما يمكن أن يشكل أرضية لدى المتابعين ليطرحوا سؤالا وجيهاً حول ما إذا كان شيو ومالبرونو قد قابلوا بعض ممن ذكروهم وبشكل خاص علي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي والذي بدا و«كأنه فتح قلبه لهم وكشف كل ما يملك من أسرار.
أضف إلى ذلك الأخطاء العديدة التي شابت الكتاب من حيث نقل الأسماء (زهير الصديق بات زهير صادق) وكذلك أخطاء كثيرة في تسمية المجموعات المقاتلة (مجموعة أبو بكر باتت مجموعة أبو باقر). وكذلك أخطاء في علاقات القرى في عائلة الأسد (كأن يصبح ناجي العطري عم أسماء الأسد).
كل ذلك إن دل على شيء هو أن هذا الكتاب الذي يبدأ عام ١٩٨١ مع اغتيال السفير الفرنسي في لبنان لوي دو لامار(ص ١٩) ليس موجهاً للمتابعين والمختصين بل هو موجه للقارئ الفرنسي بشكل عام. من هنا التركيز على الانفصام بين سياسة الأجهزة الفرنسية «إدارة شؤون المخابرات الخارجية» (DGSE) و«الإدارة المركزية لأجهزة المخابرات الداخلية» (DCRI) من جهة والسلك الديبلوماسية من جهة أخرى (ص ٢٦٠).
ولكن هذا التركيز حمل الكثير من المبالغة. كما أن هذه «القصص» تعود إلى سنوات عديدة ماضية وفقدت الكثير من أهميتها بعد التطورات الكثيرة التي حدث على الأرض السورية، ناهيك عن أن الكاتبين لم يتطرقا للمعارضة بشكل إيجابي رغم أن فرنسا كانت الدولة الأولى التي دعمت المعارضة السورية وفتحت لها أبواب الاعتراف الدولي بها. وإن فعلا فلتسليط الضوء على «أخطاءها» مثل نقلهم كلام «منذر ماخوس» الذي عين «أول سفير لسوريا الجديدة» في باريس إذ ذكرا أنهم التقياه في ١٤ نيسان/أبريل ٢٠١٤ ونسبا قوله لهما «أن المجلس الوطني السوري ولد معاقاً» وأن «قطر والسعودية أفسدا وضع المعارضة» ونسبا إلى أحد المعارضين الذي لم يذكرا اسمه (وإن هما لمحا إلى أنه ماخوس) بأن «بعد إعادة التوازن إلى داخل الائتلاف فإن السلفيين ما زالوا يشكون أكثرية داخل القيادة ونجد بينهم من يدعم داعش» (ص ٢٥٩ من دون ذكر المصدر رغم وضع الحديث المنقول بين هلالين). كما نسبا قول أحد المعارضين البارزين إن «تسمية الكتائب بأسماء تحمل معان إسلامية جاءت بطلب من الممولين الذي كانوا يرسلون مظاريف من ١٠ آلاف إلى ١٥ ألف دولار وفيها أوراق تطلب تسميات مثل جنود الإسلام أو صقور الإسلام» (ص ٢٥٨من دون ذكر المصدر).
وقد ركز الكتاب على التباين أيضاً بين أقطاب الديبلوماسية الفرنسية وبشكل خاص بين الخط «الديغول» الذي حمله في هذه المرحلة (مع انطلاقة الربيع العربي) «آلان جوبيه» وزير الخارجية وبين الخط الساركوزي-القطري، ونجد بين السطور الكثير من التنافس (نزاع؟) الحالي بين ساركوزي وجوبيه وكذلك مع عدد من الذين «خذلهم» ساركوزي مثل «برنار سكارسيني» مدير الأمن العام الذي الذي نسب له قوله لهما في ٢٠ ك٢/ديسمبر ٢٠١٣ «إن جوبيه لم يكن يريد أن يأخذ بعين الاعتبار الديبلوماسية الخفية التي كان يمارسها /كود غيان/(رجل ساركوزي للمهمات الصعبة)» (ص ٢٦٤). ويبدو أن جوبيه «اعترف» للكاتبين بأنه «أخطأ بالمراهنة على الإسلام السياسي» (ص ٢٦٥) ويرى الكاتبان أن ذلك بسبب المستعرب «بارتريس باولي» (سفير فرنسا في لبنان حالياً) ووصفا باولي بأنه كان «مداح وعراب» الإسلام اسلياسي في وزارة الخارجية الفرنسية (ص ٢٦٤).
يكشف الكاتبان ما يعتبراه «سراً لم تذكره إلا بعض مواقع الأنترنيت» وهو وجود «مرتزقة فرنسيين كانوا يقاتلون إلى جانب المعارضة (ص ٢٨٧) وكتبا أن وجود هذه المجموعة كانت وراء «تأخير خروج الصحفية الفرنسية المصابة إديث بوفيه» (ص ٢٨٨). وقد نقلا عن علي مملوك نفيه أي مساعدة لإخراج المصابة التي كانت متواجدة مع الجيش السوري الحر ووصف مملوك ما حصل بأنها «مسألة بين اللبنانيين والفرنسيين لأن المصابين أخرجوا عبر الأنفاق نحو القصير وثم لبنان» (ص ٢٨٨). وحسب الكتاب فإن مسألة بوفيه كانت وراء «إقفال ساركوزي للسفارة الفرنسية في دمشق». وقد رأى السفير الفرنسي آنذاك هذا الاقفال بمثابة «عمل مجنون» (ص ٢٨٩) حيث وصف «غضب شوفاليه تجاه ساركوزي وقراره».
يسلط الكاتبان الضوء على «صراع الأجهزة» بدءاً من الصفحة ٢٩١ ، ويصفاً الأجواء المشحونة بين «إدارة شؤون المخابرات الخارجية» (DGSE) و«الإدارة المركزية لأجهزة المخابرات الداخلية» (DCRI) خصوصاً بعد إقفال السفارة الفرنسية في دمشق ونقل المخابرات الفرنسية مكاتبها إلى سفارتها في عمان العاصمة الأردنية «في الطبقة الثالثة». ويقول الكتاب إن «نصف دزينة من العملاء الفرنسيين كانوا يهتمون بالمساعدة العسكرية التي أمدت بهها باريس الجيش السوري الحر» وذلك بالتعاون مع الحلفاء الذين كانوا يجتمعون في فندق /فور سيزن/ في /غرة الحرب/»(ص ٢٩٢). وحسب الكاتبين فإن «الإدارة المركزية لأجهزة المخابرات الداخلية» (DCRI) رأت في تلك الفترة «يد السلفيين وراء الثورة» في حين أن منافستها «إدارة شؤون المخابرات الخارجية» (DGSE) تابعت «عملية شيطنة نظام الأسد» (ص ٢٩٣).
مقياس العلاقة بين سوريا وفرنسا تبدو منتشرة بين صفحات الكتاب كما يحمل عنوانه، وقد بدأ وصفها وتحليلها بشكل سطحي وسريع منذ عهد ميتران (زيارة عام ١٩٨٤) مع توقف على العلاقة «الخاصة» في عهد شيراك (زيارة عام ١٩٩٥) ومحاولة شيراك «تدجين وعصرنة بشار» (ص ٨١) رغم العبات التي وضعتها واشنطن (ص ٨٨). ورغم أن العلاقة بين فرنسا وسوريا قد خذلت شيراك «بسبب عدم الوثوق في وعود بشار» فشيراك كان يأمل شيراك في ان يحصل على حصة من حقول الغاز السورية التي ذهبت لللكنديين والأميركيين، إلا أن الكاتبين يشدداً على تقارب بين دمشق وباريس في مسألة رفض غزو العراق (ص ٩٨).
في صفحة ١٠٥ يتهم الكاتبان شيراك والرئيس الراحل رفيق الحريري بـ «نصب فخ لبشار» عبر القرار ١٥٥٩ الذي حملته مناورات واسعة قادها شيراك الذي كان «يريد أن يعطي درساً لبشار ليحمي لبنان ومصالح الحريري الذي كان يهينه السوريون يومياً» (ص ١٠٩). وقد صدم شيراك من قبول الحريري تعديل الدستور لإفساح المجال للتمديد لإميل لحود (ص ١١١) واعتبر الأمر إهانةبعد أن نقل له التهديدات التي رافقت لقاء الأسد والحريري في دمشق في ٢٦ آب/اغسطس ٢٠٠٤(ص ١١٠).
ويغوص الكتاب بعد ذلك بشكل ممل بإعادة تذكير عملية اغتيال الحريري (من ص ١٢٧ إلى ص ١٦٧) مع كل تفاصيل إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على أساس أنه بنظر الكاتبين فإن العلاقات السورية الفرنسية كانت في عهد شيراك تمر عبر الحالة اللبنانية.
ولكن التوتر الذي تلا اغتيال الحريري ووأصابع الاهام التي وجهتها فرنسا إلى دمشق والقطيعة السياسية لم يمنع كل هذا من استمرار العلاقات والمصالح الخاصة الفرنسية – السورية (بيع مروحيات) أو التعاون الأمني بيع أجهزة تواصل سرية مؤمنة ضد التنصت (ص ١٦١).
وبعد ذلك يصف الكتاب كيف طوى ساركوزي صفحة اغتيال الحريري وأعاد الوصل مع دمشق بواسطة إمارة قطر. ومع بداية الربيع العربي بدأ سوء التفاهم حسب ما ورد في الكتاب، بين الديبلوماسية المهنية في الكي دورسيه ورغبة ساركوزي بالانتهاء من بشار الأسد. وينقل الكتاب عن ديبلوماسيين وفي مقدمتهم شوفاليه أن «الجميع اعتقد بأن نظام الأسد لن يدوم إلا أسابيع قليلة»، ويتابع لذا ولكي تحافظ فرنسا على «مصالحها في سوريا المستقبل، راهنت على برهان غليون وبسمة قضماني» (ص ٢٥٥) لبناء معارضة في المنفى. ومن الصفحة ٢٥٦ إلى الصفحة ٢٧٦، ينقل الكتاب إرهاصات المعارضة السورية مع سرد للائحة أسماء لا تفيد القارئ بغياب شرح واف للعلاقات التي ربطت الكتل المعارضة. إذ لا يكفي ذكر قطر وحشر مؤيديها في المجلس الوطني أو اندفاع السعودية لتمكين من تمون عليه أو ذكر رهان الإخوان على «وجود امرأة في واجهة المجلس» للإمساك بمقاليده.
في نهاية الكتاب وفي الصفحة ٣٠٣ يروي الكتاب ما حصل في مؤتمر «جنيف ١» بطريقة دراماتيكية . ويضع لوماً كبيراً على وزير خارجية هولاند الذي حل محل ساركوزي في الإليزيه، في فشل المؤتمر بالوصول لحل سياسي للحربفي سوريا، إذ يتهمه بأن «تصدى لطلب سيرغي لافروف بتأجيل مؤتمر أصدقاء سوريا» وعدم دعمه للبيان النهائي (ص- ٣٠٧ ٣٠٦).
هذا الفصل الذي يحمل عنوان «الكراهية (La haine) يروي الاستعدادات لضرب سوريا بسبب الاتهامات باستعمال السلاح الكيميائي. فبعد مقدمة يرسم خلالها شخصية لوران فابيوس وزير الخارجية الاشتراكي «الذي يحمل آراء محابية لاسرائيل» وينقل عن بعض الديبلوماسيين صراخ فابيوس فور وصوله إلى الوزارة «لقد ضقت زرعاً بهذه الوزارة التي تؤيد الفلسطينيين» (ص ٣١٨) ولا يتردد الكتاب من وصفه «حامل لآراء المحافظين الجدد» (ص ٣١٩). كما يظهر الكاتبان وكأنه معارض لأي حل لمسألة النووي الإيراني (ص ٣٢١) لأنه حسب ما ورد «يحمل الهم الأمني الإسرائيلي» (ص ٣٢٠). هذه المقدمة وعنوان الفصل يخفف كثيراً من أهمية الدور الذي لعبته فرنسالدعم المعارضة إذ أنه بشكل غير مباشر يضع المدافعين عن المعارضة السورية في صف المحافظين الجدد والإسرائيليين. وبشكل عام إن سرد «تمنيات هولاند بالحصول على صفقات كبرى من السعودية التي تكره بشار الأسد ونظامه» تنتقص كثيراً من أهمية المواقف الفرنسية في مرحلة التحضير لضرب سوريا قبل أن يغير باراك أوباما رأيه ويترك باريس عاجزة عن تنفيذ ما هددت به.
عزز الكتاب ببعض مواد لوثائق أخذت من موقع ويكيليكس ولكنا لا تأتي بشيء جديد بالنسبة للعلاقة بين سوريا وفرنسا مع تشديد على وثائق فرنسية لبيع المملكة السعودية معدات.
في عودة للعنوان نلاحظ تعامل «حر» من قبل الكاتبين مع مقولة «طريق دمشق» الذي يصف شاول المتكبّر والصارم الكتوم والجريء والعميق جدا في أفكاره وهو على طريق دمشق. فقد جعل هذه المقولة شينو ومالبرونو بصيغة الجمع ليس لوصف تعدد المشقات التي لاقت الفرنسيين في علاقتهم مع دمشق منذ أربعة عقود بل يبدو أنها إشارة لـ«تعدد المسالك» التي يمكن أخذها وصولاً لإعادة ربط ما انقطع بين المؤسسات الأمنية الفرنسية والسورية. وهو هدف لم يعد يخفي على أحد بعد أن برزت مسألة الجهاديين الفرنسيين العائدين من سوريا والتهديد الذي يشكلوه للأمن الفرنسي. وعودة العلاقات الأمنية هي «مطلب أمني» من الأجهزة بينما الرفض يأتي من الديبلوماسيين وهو «رفض سياسي إيديولوجي». تحت هذا العنوان يمكن أن يكون الكتاب مفيداً للرأي العام الفرنسي.