صمت الفراشات…
نصيرة بلامين
أعماقنا محتلة… كيف ذلك؟ بعيداً عن الوصف، لا بد من إيجاد أو العثور عن الشروحات… “الجسد ومعانيه أو الجسد ومعانيه المنبثقة”، هذا هو عنوان محاضرة حضرتها بباريس، وكان ذلك قبل عامين، للفيلسوف الفرنسي البروفسور “جون بوتيتوه”، الذي تكلم عن مفهوم “الفعل الملاحظ” (Acte perceptif) وارتباطه بـ”الفعل الدلالي” (Acte cognitif)..وهل في الواقع “تواجد الإنسان” مرتبط بما يراه؟ وبالتالي يصح تطبيق عبارة “أنا موجود فيما أراه” (Je suis ce que je vois).. وأخذ مثالاً عن ذلك في “التجربة الحساسية الجسدية للطفل الرضيع”, فـ”عند الطفل، هناك التحام بين الجسد والفكر” وغالباً ما يقوم بـ”إعادة تجسيد التجربة”… وهذا ما أسماه بـ”السردية السلوكية لدى الطفل”.(narrativité comportementale) ..سأتوقف عن الحديث عن المحاضرة، فعالم السيميولوجيا أو السيميائية عالم عميق ولا أريد أن أضيع نفسي ولا الغير في مفردات وعبارات يمكن أن تبدو غامضة لكلينا… غرضي وأنا أحرر هذا المقال التوقف عند عبارة “أنا موجود فيما أراه”… عبارة تداولها في هذه الآونة الأخيرة الكثير من الصحف الفرنسية، فهاك مقال “روماريك أتشورو” نشره مؤخراً في الجريدة الإلكترونية “أفريك بوانت كوم” بمناسبة حلول السنة الجديدة عنونه: “أمنياتي 2012، لك أنت، يا ابن إفريقيا” ما شدني إلى هذا المقال بعدما ارتشفت سطوره هذه العبارة: “من أنا؟”… سؤال يطفو من جديد على الواجهة… ويبدو أن هذه العبارة أصبحت محبذة لدى الصحافيين…
“من أنا؟” ينبع منها عبير “الوجودية”، أقصد “وجودية الإنسان”… بدأت أتأمل في هذه العبارة وأفكر في ماهية أن يكون وجودك مرتبطاً بـ”الآنا”، فجميعنا “دون استثناء” يفكر في “أناه” (لكن يحاول أن يمحي فيك “أناك” بكل الوسائل، لأنه رأى في صورتك ما يعجز هو عن فعله أو القيام به، فالذي يريد القضاء عليك هو الأكثر غطرسةً وجبروتاً)… ولا شك في أن المتتبع للثورات العربية أدرك جيداً أن أول ما يريده الإنسان، رجل كان أو امرأة، هو “تحقيق وجوده” على سطح المعمورة… أي “فعاليته”…
“من أنا؟”… أعجز أن أرد على هذا السؤال، لأن الرد عليه يتطلب الرجوع إلى “مرحلة الطفولة” حتى أرد على “من أنا؟”… أبقى في عالم السيميولوجيا، وأعود إلى بعض أفكار الكاتب والسيميائي الفرنسي رولان بارت، الذي تطرق هو الآخر إلى ماهية “الأنا”، ويبدو أن القضية حسب “بارت”، ربما تحتاج إلى صياغة جديدة، فبدل أن نطرح سؤال: “من أنا؟”، علينا قول، حسب رأيه، “هل أنا؟” أي “هل أنا موجود فعلاً؟”، بعبارة أخرى أن إعادة صياغة السؤال بالتشكيك في وجودية الذات يدعو إلى التأمل ملياً…
هكذا همست لي تلك الصبية التي لم تتجاوز سن الثالثة… ولطالما رأيت في عينيها البراقتين شعاع الحياة، والبسمة تغطي وجهها… تذكرتها حينما كانت صغيرة تلازم جدها يومياً وهي تستمع لحكايته البريئة وتتحاشى جدتها لأنها أحست في عينيها اللئيمتين بل رأت وسمعت كيف تسخر منه وتطعن في كيانه… تلك الجدة لم تكن لتقف عند هذا الحد، بل تجاوزته لتدعي مراراً أن مجوهراتها الذهبية أو القطع الذهبية التي في عقدها ضاعت منها أو سرقت… وكأنها تتهم مباشرةً والدة الصبية لتدخل في قلبها الرعب وتخضع لطاعتها كجارية بل خادمة لها لا كابنة أو امرأة… فعمدت تلك الصبية إلى إخفاء تلك القطع تحت الفرن حتى لا تجدها تلك الجدة وتكف عن تلك الأكاذيب والألاعيب الشيطانية. الصبية كانت تقول لي: “كنت دائماً أرى والدتي تبكي… دائماً في المطبخ… دائماً في المسح والكنس… والشتم وحتى الضرب… لم تكن لترتاح وكأن كيانها غائب بل غير موجود، لم يكن لكيانها وجود، مرةً رأيت في عينيها الدموع ولحقت بها هارعة متسائلة: ماذا بك؟ ماذا فعلوا بك؟ فجذبتني جدتي إليها وقالت تعالي أعطيك حلوى، بقيت صورة أمي الحزينة تلاحقني، مرةً رأيتها كيف حرضت والدي في شيء ما… لا أعرف ماذا قالت له فنهض غاضباً كالمجنون وانهال عليها ضرباً، فأخذت أصرخ: لماذا يضربها؟ فتظاهرت جدتي أنها غاضبة على والدي وانتزعت نعلها وضربته أو تظاهرت بضربه، ثم قالت لي: لن يعود لفعلته”… أردت أن أعرف المزيد عما كانت تقوله لي تلك الفتاة فتوقفت “صامتة” طويلاً، وهنا تذكرت رواية “صمت الفراشات” لليلى العثمان، كتبت في أحد صفحاتها: “هناك ظلال للصمت تتفشى مساحتها بعمق المكان”…
“عمق المكان”… “المكان” أو “سيميائية المكان” (لا سيميوسفير)… ما لسيميائية المكان في “وجود المرء أو الإنسان”… فالمكان له “ذاكرة كبيرة وهائلة”… حيطانه… خطوط جداره… عبق المكان… الإحساس بالمكان يجعل من ذاكرتك ذاكرةً فذة… إن “القدرة على الإحساس بالأشياء وما يحيط بك” هو الذي يعطيك تلك الشجاعة على طرح أسئلة: “لماذا”؟ المكان أيضاً ألم، ألم الوجود، ألم التواجد… “ماهية الألم”. أعجبتني جملة قالها الروائي الاميركي “جاك كتشوم” في كتابه “ذو جول نيكست دور”: “الألم لا تظهر معالمه في الجسد فقط، الألم يمكن أن يكون خارج الجسد”، وهنا تذكرت مقولة الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر: “الآخر، هو جهنم!”…
عدت للجلوس جنب تلك الفتاة وهي تداعب وريقات ورود كانت بجانبها… ورود حمراء وبيضاء جميلة… أهدتني واحدة منها وطبعت على وجنتاي قبلة… ثم قلت لها “ماذا تفعلين؟”، أجابت: “أريد أن أبني قصر ورود لذاكرتي”، أجبتها “قصر ورود لذاكرتك؟ لماذا؟”، أجابتني: “لا أريد لذاكرتي أن تتألم من جديد… سأقطف لها وروداً حيث وقعت عيني وأهديها لها… أريد لذاكرتي أن يكون لها وجود جديد، أن تنطلق من الصفر”… “انطلاق جديد”، هل صحيح أننا نطلق من الصفر؟ أشك… لا أتذكر من قال هذه المقولة “فنحن لا نبدأ من الصفر بل نبدأ من أنفسنا”… “نبدأ من أنفسنا”… “نبدأ من الأنا”… بدأت تلك الفتاة ترقص حولي كفراشة تلمع بألوانها البراقة… أخذتها من يديها وأجلستها على ركبتاي فانتفضت وقالت لي: “لا أريد أن تلمسيني!”، تساءلت متعجبة: “لماذا؟”، أجابتني: “لا أريد أن يلحق بجسدي ضرراً مرةً أخرى”… ضرر؟ أي ضرر؟ ابتسمت لي وجلست على الأرض… قالت لي: “مرة كان هناك عرس عند الجيران، عرس جميل، ألبستني جدتي حلة جميلة ظننت للحظة أنني سألتحق بالأطفال الآخرين لأمرح معهم، رفضت، وقالت لي: نحن سنسافر في السيارة، بدأت أرى الأطفال الآخرين من النافذة يرقصون فبدأت أرقص من النافذة وأشاركهم فرحتهم من بعيد، وأنا أرى الناس يفرحون رأيت امرأة ظهر على لباسها بقعة حمراء خلفها، فقلت لجدتي: انظري تلك المرأة، قولي لها أن تغير ملابسها قبل أن يراها الغير، لم تجبني، وواصلت أنظر الى الناس وأرقص ثم مللت لأني لم أكن مع الأطفال الآخرين… ذهبت لأرى والدي، والدي يجلس دائماً في أريكة، كان وجهه دائماً مكفهراً… أظن أنه كان حزيناً… لحقتني جدتي وشدت على يدي بعنف وقالت لي: لا تذهبي عنده، قلت لها: لماذا؟ أريد أن أتكلم معه، أريد أن يلعب معي…، فأجابتني: لا تذهبي، إنه وحش، يجب أن تخافي منه احذري… قلت لها: لكنه لا يعض… سحبتني وضربتني ثم أعطتني حلوى…”
مرة أخرى، لازمت الصبية الصمت… وأخذت ترسم “وردةً، وعصفوراً وعين امرأة”… “جميل ما ترسمني”، قلت لها… ابتسمت… جلست مرةً أخرى قبالتي… وأخذت تتمعن في سحنتي… وقفت ثم أخذت وجهي وبدأت ترسمه بأصابعها… قلت لها: “ماذا تفعلين؟”، أجابتني: “أنا أتحسس وجهك ليبقى في ذاكرتي”… لم أفهمها… جلست مرة ثانية على الأرض، وأخذت تقول: “رافقت جدتي في سفر لترى ابنتها، ذهبنا في عطلة… على متن الطائرة، أخذت جدتي تهمس لي: لا تقترب من زوج ابنتي، إنه مخيف، قلت لها: لكنها تزوجته، قالت لي: إنه يكره الأطفال وخصوصاً الصبيان…، جدتي كانت تدرك أنني لا أصدقها ولم يكن لي أن صدقتها قبل، كانت في كل شيء ماكرة وكانت تدرك أنني كنت أدرك مكرها… لما وصلنا أخذت أترقب خلسةً زوج ابنتها، فتقدم نحونا وابتسم فاقتربت منه وأخذني بين ذراعيه، نظرت إلى جدتي وابتسمت لي ابتسامة ماكرة ولم تقل شيئاً وكنت أدرك أنها ستضربني بعيداً عن أنظار الآخرين، كما كانت تفعله دائًما وكما فعلته بعد هذه الحادثة… زوج ابنتها كان يحبني كثيراً وكنت أحبه كذلك… لكني كنت أرى في عيني جدتي وابنتها شيئاً غير ذلك، ذات يوم أخذتني جدتي من يدي وقالت لي: أنت تحبين كثيراً زوج ابنتي تعالي أريك شيئَا، دخلنا الصالون وكان زوج ابنتها ملقى على الأريكة وسرواله مفتوحاً وقالت له: أين بك الألم؟ فأظهر لنا جنسه، ولم يعجبني ذلك وأردت أن أتخلص من قبضة يدها وأهرب، قالت لي: انظري، لا تخافي، فأنت لا تخافين… لا تخافي، هذا ليس مرعباً… تناسيت الحاثة بعد أيام… مرةً تركوني وحدي مع زوج البنت في الدار، كان لطيفاً جداً معي”… نظرت الصبية في عيني وأحسست بقسوة نظرتها لكن نبرة صوتها بقيت هادئة وتابعت: “أخذني عمي، هكذا كنت أناديه، ووضعني بين ركبتيه، وبدأ يقول لي اقفزي عليّ بقوة، قلت له أنت مريض، فأجابني: لست مريضاً، سأعلمك لعبة الحصان، وأخذ بيدي وبدأ يهزني بعنف، بدأت أصرخ وأبكي، لا أدري لكني كنت أتألم عندما وصلت جدتي وابنتها، أخذت جدتي تصرخ وتقول: أنني دلوعة، ووضعتني ابنتها داخل خزانة مليئة بالأوراق فمزقت جميع الأوراق المتواجدة… بعد أشهر عدنا إلى المنزل… وكنت غالباً ما اتخذ ركناً في المنزل بعيداً عن الأنظار أو حتى أبقى في الظلام ولا أتحدث لأحد جامعةَ ركبتاي… أبتعد عن الآخرين وأهرب منهم… وغالباً ما ألتزم الصمت… صمتي جعل الغير يلاحقني دائماً ويتربص بي ويتجسس علي أينما ذهبت وحيثما كنت… إنهم يريدون أن يقتلوني من جديد”….
حينها، التزمت الصمت بدوري، واختفت الصبية ولم أجد لها أثراً لها وكأن الأرض ابتلعتها… لم أجد لها أثراً إلا عبير ورودها… تحولت إلى غرفتي وشرعت في كتابة هذا المقال، أخذت أكتب لأعبر عن “صمت الصوت”، فالكتابة، كما قالت الكاتبة الجزائرية آسيا جبار: “لا تقتل الصوت بل تحييه”، وحتى وإن كان في “الكتابة فعل خطأ”، كما تقول غادة السمان، “ولكن عدم الكتابة فعل خطأ أيضاً”… لكن الكتابة لغة متسترة وكما قال أوسكار وايلد: “خلق الإنسان اللغة ليخفي مشاعره”…
“أنا الصبية” كان دائماً صامتاً، لم يكن له وجود… صمتها كان جداراً منيعاً يفصلها عن الآخر حتى لا يرى فيها الألم، وكأنها كانت تبحث عن ملجئ بعيد عن نظر الإنسان… البقاء بعيداً عن الإنسان لتحقيق “وجودية الذات”، “بعيداً عن الإنسان” و”في مأمن عنه”، تذكرت مقولة لأمين معلوف في روايته “القرن الأول بعد بياتريس”11: “عندما سأكون في مأمن عن الإنسان، ربما سأتعلم من جديد كيف أحبهم”…
“وردة وابتسامة”، كان شعار “وجودية أنا” الصبية… وجوديتها طبعتها “الإيرونية” ( eironeia) والتي تعني في علم السيميولوجيا حسب مفهوم “رولان بارت”: “ريتوريكا الأسئلة”… أو “بلاغة الأسئلة”…
“وردة وابتسامة”… شعار “وأد رمزي لوجودية الأنا”… هذا الوأد الرمزي كان ولا يزال شعاراً: “دفن هموم الصبية في رمال التجاهل الصامت القسوة، ودفن مستقبلها في قالب فصلناه على مقاس مصالحنا، وهو في نظرها تابوتها”، كما كتبت في ذلك غادة السمان…
“من أنا؟”، و”هل لي وجود؟”، هكذا صرخ الشارع العربي، وصرخت النساء والفتيات، وتحدت الصبيات إرهاب الجيش المصري لطعنهن في أجسادهن…
“بوردة وابتسامة” واجهت تلك الصبيات العنف الجسدي الذي يطعن في كرامتهن… “هل أنا موجودة؟”… وما علاقة جسدي بالغير؟ إن هذا التفكير الجاهل الذي جعل من التفريق بين الجنسين: “الذكر والأنثى”، وطعن الأنثى في جسدها لإبقائها “ضميراً مستتراً” ومحو وجوديتها… إنما هو محو لـ”وجودية أناها”… وهذا هو بلاء المجتمعات…
“هل أنا موجود”؟ يصرخ الشارع العربي، سؤال يطرحه لأنه يريد أن يكون “ضميراً حياً” لا يطعن فيه الغير حتى ولو الفعل من أقرب الناس إليه…
“أن تعرف نفسك بنفسك”، هو أن تكون “ضميراً حياً” لا “ضميراً مستتراً” أو دمية يتحكم في كرامة ذاتيك الغير ويطعنها حسب مصالحه الخبيثة والماكرة…