“هولوكوست” عالمية ما بين النهرين
تركت محارق الألمان التي التهمت أعداداً كبيرة من البشر في منتصف القرن الماضي، بصماتها على المشهد السياسي العالمي بقوة، حيث استغلها الصهاينة أكبر استغلال بذريعة أن االمستهدفين كانوا اليهود فقط، رغم أن الحقيقة غير ذلك.
هذه المحارق وغرف الغاز الذي صنعها الرايخ الثالث بقيادة الزعيم النازي آدولف هتلر وتحدث عنها التاريخ وشكك فيها من شكك، قد جعلها الغرب مسلمات لا يمكن مناقشة صحة أو عدم صحة وقوعها وعدد ضحاياها (ستة ملايين من اليهود كما روجت الصهيونية).
هي “الهولوكوست” التي وضعت ألمانيا ما بعد النازية (1945- …) أمام عقدة ذنب تاريخية عرّضتها لابتزاز الصهاينة ودولتهم المزعومة في فلسطين، فتكبدت دفع تعويضات وأثمان سياسية واقتصادية وعسكرية على مدى عقود، ولا تزال.
ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه وان اختلفت التفاصيل، فقد تحولت بلاد ما بين النهرين، وخصوصاً الجزء السوري منه اليوم، الى محرقة لكل من ينبغي التخلص منه في المشهد السياسي الجديد الذي يعمل على صياغته كبار الساسة في العالم بمعية أجهزة الاستخبارات، بينما تساهم شركات السلاح في الدول كافة الى رفد هذه المحرقة بأسباب استمرارها لأطول وقت ممكن حتى تحقق أهدافها.
ما بين النهرين اليوم، حرب عالمية حقيقية أراد الغرب من خلالها التخلص من كل الجماعات الإسلامية المتطرفة التي باتت تهدد عواصم دول الشمال المستقرة والمتقدمة، بشكل واضح، خصوصاً منذ احداث أيلول 2000 وصولاً الى أحداث باريس 2015.
تعمل أجهزة الاستخبارات من خلال ضباط درسوا الشريعة الإسلامية والفقه، منذ عقود، على اختراق الجماعات الإسلامية وشقّها أو تأسيس جماعات موازية على غرار “تنظيم “الدولة الاسلامية” المعروف بـ”داعش”. ومن خلال هذا الاختراق تقوم بترحيل مئات بل الاف الشباب والشابات المتشددين والمتشددات دينياً أو في طور التشدد الى سوريا والعراق، تحت عنوان “الجهاد في سبيل الله” و”نصرة دولة الخلافة الاسلامية”. وبذلك استطاعت حكومات غربية ترحيل اعداد كبيرة من شريحة يمكن أن تصبح عالة عليها أمنياً واجتماعياً واقتصادياً، من دون إجراءات استفزازية، بل بكل طيب خاطر لدى هؤلاء الأغبياء الذين يظنون أنهم ذاهبون للجهاد في سبيل الله وتحقيق دولة الاسلام المنشودة. لذلك لعبت تركيا دور المسهّل والمساعد لعبور أعداد هائلة التحقت لاحقاً بـ”داعش” و”النصرة” وتنظيمات إسلامية متطرفة وإرهابية في سوريا والموصل، ومنعت عودتهم في أي شكل.
وكان واضحاً أن سياسة تفجير النفس من خلال مفهوم الانغماس بين الجماعات “الكافرة والمرتدة والمشركة”، هو سياسة تخدم حكومات الغرب الذين يريدون بشدة عدم عودة أي شاب أو فتاة ممن يصعب دمجهم في المجتمعات الغربية.
على نفس المنوال غزلت إيران والنظام السوري لجر “حزب الله” وتنظيمات عراقية وباكستانية ونيجيرية وأفغانية مذهبية متطرفة، الى المحرقة السورية، بتحريض مذهبي واضح لمحاربة “التكفيريين”. وذهبت طهران التي تسعى الى احتلال موقع بين الدول العظمى، أبعد من ذلك حين اعتبرت ان حرب سوريا جبهة متقدمة لحماية أمنها القومي ولحفظ دور “المقاومة ضد الكيان الصهيوني”، وبأن “قتال التكفيريين اولى من قتال اسرائيل”. دعاية واسعة بدأت بذريعة حماية المقامات الإسلامية في سوريا والعراق من التدمير الارهابي التكفيري، ووصلت الى قناعة راسخة لدى فقهاء ومريدي التيارات الشيعية، غير العروبية، التابعة للفرس، بأن ما يقومون به يمهد لدولة المهدي الموعودة.
استطاع الغرب والدول الإقليمية إقناع هؤلاء المرتزقة من سنة وشيعة وأقليات وكل من يمكن أن يشكل عالة على النظام العالمي الجديد بأنهم يخوضون حرباً مقدسة من أجل إقامة “دولة العدل والشريعة”. ودخلت روسيا على خط أوحت بأنه قرار الحسم فتزايدت أعداد القتلى في صفوف الجنرالات الايرانيين في حلب وادلب، الى جانب الضحايا المدنيين الذي داسهم الدب الروسي بذريعة انهم إرهابيين. وكان اغتيال “عميد الأسرى العرب” سمير القنطار تتمة لما بدأته أجهزة أمن بشار الأسد ببيع الشهيد عماد مغنية واللواء السوري محمد سلمان وجهاد مغنية وغيرهم من قادة “المقاومة الاسلامية” في لبنان، للموساد الإسرائيلي. وللنظام السوري تجربة طويلة في البيع والشراء والمساومة برؤوس حلفائها، كما فعلت بكارلوس وعبد الله أوجلان وقادة في منظمة التحرير الفلسطينية وغيرهم كثر.
في أي حال المحرقة السورية مشتعلة، ولا يتفاجأ أحد في عدد القادة والمسؤولين الذين سيذهبون ضحيتها، لأن الخريطة المقبلة للمنطقة ستوزع مصادر الطاقة والمواقع الاستراتيجية على الأقوياء فقط، لذلك كل طائرات التحالف والروس لم ولن توجع “داعش”، بل ستتخلص ممن هم لا حاجة لهم في المشهد الجديد. هذا التنظيم المتطرف هو جزء من التخطيط والتنفيذ ومتن المشهد، وكل من يشكل هامشاً لهذا المتن سيكون مصيره كمصير الشهيد رضوان.
هي محرقة توظف الدين والتحريض المذهبي بأبشع صوره حتى تستمر مشتعلة. وربما تنتقل الى أوروبا نفسها، خلال السنوات المقبلة، حين يشعر الأوروبيون دافعو الضرائب، أن المسلمين الذين غزو “القارة العجوز” بالقوارب والقطارات، سيطالبون بمساجد وقنوات تلفزيونية ومدارس إسلامية، وسيقيمون “غيتوات” منفصلة عن المجتمعات الغربية على غرار “غيتوات اليهود” في القرون السابقة، حينها سيعود هتلر من جديد ليشعل الهولوكوست لأن أمن أوروبا واقتصادها سيكونان على محك هذا الصراع الديني البغيض، في حين تبقى دولة الاحتلال في فلسطين هي الأكثر استقراراً وراحة وتأهلاً لتزعم العالم، في حال لم تتحول الهبة الشعبية الحالية الى ثورة تطيح بالغزاة.